الديمقراطية لن تصل بالمتدينين إلى الحكم

15.03.2017 :: رصيف٢٢

اسئلة رضا غانم

ـ في الذكرى السادسة لانطلاق الثورة السورية، يرى كثيرون أن الثورة انتهت وصارت سوريا مقسمة بين نظام ثار الناس عليه وبين إسلاميين من توجهات مختلفة يمارسون على الناس قمعاً يشبه قمع لنظام. ما رأيك بهذه النظرة المتشائمة؟ وإلى أين تمضي الأمور برأيك؟

-  بعكس المظاهر الخارجية، لا تخضع سورية اليوم لا لحكم الاسد ولا لأي حكم اسلامي من أي نوع كان، ولكنها دولة محتلة ومعدومة السيادة، تتقاذفها اقدام الغزاة والمحتلين من كل البقاع. ولم يعد نظام الأسد سوى دمية صغيرة تتلاعب بها الدول وتستخدمها لابتزاز الشعب السوري والحصول على مصالح غير شرعية وغير مشروعة. وبالرغم من المظاهر الدينية الغالبة على قوى المعارضة المسلحة إلا أنه لا يوجد هناك في سورية اي مشروع اسلامي طامح للحلول محل نظام الأسد أو قادر على تحقيق ذلك. أما تنظيم الدولة الاسلامية وجبهة النصرة فهما تنظيمان دوليان استغلا الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه تخلي النظام عن مسؤولياته الوطنية وتوجيهه قوات سورية المسلحة وأجهزتها الامنية ضد الثورة ومن أجل تحطيم ارادة الشعب وشلها، لتعزيز مواقعهما في سورية وتفريخ بيوضهما. وعمل التنظيمان كما هو واضح للجميع كحلفاء موضوعيين للنظام في حربه المضادة للثورة. وهو يستخدمهما اليوم، وحلفاؤه الروس والايرانيون أيضا، لتبرير الاحتلال الاجنبي والتدخل الواسع النطاق للقوى الأجنبية، وكذلك من أجل إعادة الشرعية لنظام الأسد المتهم من قبل المنظمات الانسانية جميعا، وآخرها منظمة العفو الدولية المستقلة بارتكاب اعمال ابادة جماعية واعدام الألوف من السوريين الأبرياء في السجون التي أطلقت عليها هذه المنظمات اسم المسالخ البشرية.
وبالرغم من كل ما حدث، والمآسي غير المسبوقة التي عاشها الشعب السوري، لن يستطيع النظام ان يستعيد قوته ولا أن يستمر مهما كانت مواقف الدول الأجنبية والحالة الضعيفة التي تبدو عليها البوم المعارضة. ولن تقود سياسات النظام للتمسك بالسلطة وتأكيد سيطرته مهما كان الثمن، ولا أطماع حلفائه الذين تحتل قواتهم اجزاء من البلاد وتحتكر القرار السيادي السوري، إلا إلى تفاقم الأزمة، والمزيد من الخراب والدمار والقتل الجماعي وتهجير السكان، تماما كما حصل ولا يزال يحصل منذ ٦ سنوات متواصلة. لن يستطيع أحد أن يربح من نشر الخراب والفوضى في سورية، ولن تقوم للدولة فيها قائمة، ولن تستقر فيها مصالح، لا للقوى الداخلية ولا للقوى الخارجية، ولا لأي طبقة أو نخبة أو طائفة او قومية، ما لم يتوقف اضطهاد الشعب السوري بأجمعه، أي من حيث هو شعب،  ويتم الاعتراف من قبل جميع الاطراف الداخلية والدولية بحقوق هذا الشعب الاساسية وحقه الأول في تقرير مصيره بحرية. ستمر أيام قاسية إضافية على السوريين لكن لن يستطيع أي طرف أن يحقق أي مصلحة من مصالحه ما لم يستعد الشعب السوري استقراره ووحدته ويحقق تطلعاته المشروعة نحو الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية. ما عدا ذلك هو مجرد أوهام عند البعض الحالمين بالنصر على السوريين، وثمرة مخاوف عند بعض السوريين الذين عاشوا الموت والعذاب في كل خلية من خلايا جسدهم. لكن التاريخ لا تصنعه الأوهام ولا المخاوف وإنما الارادات الحرة والأفكار النبيلة والنيرة.

ـ في المشهد السوري الحالي، خفت صوت الأصوات الديمقراطية والمدنية. خفت ليس بمعنى أنها لم تعد موجودة بل بمعنى أن التشكيك في شعبيتها وفي تأثيرها على السوريين صار كبيراً. هل توافق على ذلك؟ كيف تقرأ المدني والديمقراطي في المشهد السوري حالياً؟

جواب: خسرت المعارضة السياسية ذات التطلعات العلمانية والديمقراطية دورها القيادي في الثورة منذ الأشهر الأولى، أولا بسبب ضعف أحزابها وتهافتها، وهي احزاب عهد الأسد الأول والثاني التي وضعتها في قبصة الاحكام العرفية وقانون الطواريء لنصف قرن كامل، مع حرمانها من أي نشاط، حتى الوجود خارج المسالخ البشرية، اي سجون تدمر وصيدنايا وغيرها،  وثانيا بسبب انقسام جمهورها ونخبها وضعف روح التعاون في ما بين قادتها وزعاماتها ونزاعاتهم الكثيرة وسوء تقديرهم لحقيقة الصراع العميقة وقساوة المعركة واعتقادها الطفولي بأن نزول الملايين إلى الشوارع قد حسم المعركة لصالح الشعب، ورهانها على حسن نوايا وطيب ارادة المجتمع الدولي والالتزامات العالمية بوثائق الامم المتحدة في حماية الشعوب والمدنيين. وقد ظهر عجزها عن مواكبة ثورة الشعب وتضحياته اللامحدودة منذ الأيام الأولى للثورة عندما أمضت ٦ أشهر في نقاشات طويلة لتوحيد نفسها قبل أن تخرج مقسمة من جديد بين هيئة تنسيق سمت نفسها وطنية، وإعلان دمشق هو ايضا احتفظ بالاسم نفسه، بينما كانت دماء الشبان السوريين تسيل انهارا في شوارع المدن السورية. ثم بعد أن عملنا المستحيل لانتشالها من سقطتها النهائية وانقاذها من الموت بتشكيل المجلس  الوطني السوري، والذي جمع كل اطرافها إلى جانب شباب الثورة، عادت إلى سلوكها ونزاعاتها التقليدية من جديد، ولكن من قلب المجلس هذه المرة، فعملت على تقويضه وفرغته من محتواه وحولته إلى ساحة لصراعاتها وأداة في يد كل منها لبسط نفوذها على الحراك الشعبي، بدل أن يكون الاطار الجامع للمعارضة بأكملها. وكانت هذه آخر فرصة لافتداء نفسها والخروج من محابسها وشرنقاتها التي احاطت بها وشلتها خلال العقود الطويلة الماضية من عهد الديكتاتورية الدموية. وقد أحدث سقوط المجلس الوطني، منذ انقسامه في أشهره الأولى، كقيادة وطنية للمعارضة، فراغا ايديولوجيا وسياسيا كبيرا سمح للايديولوجيات الاسلامية في التقدم لحمل راية قيادة الثورة الشعبية وتوجيهها، بعضها لدعمها وبعضها لامتطائها من أجل أهداف مباينة لها وبعضها لحرفها عن أهدافها لصالح خيارات سياسية مختلفة وبعضها الآخر كطرف في ثورة مضادة انتقامية.
لكن تغير الايديولوجية القائدة للثورة أو لقطاعات واسعة منها، وبشكل خاص للقطاعات المسلحة، لم تبدل من جوهر المطالب الشعبية، أي من مضمون الثورة الأصلي وغاياتها. فلا يزال المطلب الرئيسي والأول لجميع قطاعات الثورة السلمية والمسلحة، العلمانية والاسلامية، هو الانتقال السياسي من نظام القهر والاستبداد والعبودية إلى نظام الحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة الواحدة. وإذا كان هناك مغزى لمفاوضات جنيف، التي لم تفض، وعلى الأغلب لن تفضي إلى نتيجة، فهو في توافق جميع فصائل المعارضة، من كل الاتجاهات والتيارات، الاسلامية منها والعلمانية، على ضرورة هذا الانتقال، وقبولها بأن يكون مصير الدولة والبلاد رهن إرادة الشعب الواحد وحده. باختصار إن تغير ايديولوجية القيادة لم يغير من طبيعة الثورة والدوافع التي حدت بالشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم اعظم التضحيات. لم يقم الشعب السوري بثورته المكلفة ولا قدم مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين من أجل أن يستبدل ديكتاتورية شخص آخر إسلامي، أو يدعي التمسك بالعقيدة الاسلامية، بديكتاتورية الاسد، ولا من أجل أن يعطي رقبته لسيف جنود داعش أو النصرة أو من يشاركهم التفكير والقيم. فقد ثار الشعب وضحى من أجل الحرية، أي في سبيل نظام يحترم حقوقه وحرياته وكرامته، ويخضع لإرادته، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية، ولن يقبل بأن يصادر تضحياته أي مستبد آخر، بصرف النظر عن الاسم أو العقيدة أو المذهب الذي يريد أن يخفي خلفه هذا الاستبداد. وأول ما سوف يشهده الرأي العام العالمي عند انتهاء الحرب وبدء عهد السلام هو تفجر محتوى الثورة الديمقراطية هذا من جديد، في وجه فلول النظام البائد بالتأكيد، لكن أيضا في وجه الطامحين لبناء نظام بديل يسير في ركابه تحت يافطات وشعارات أخرى..

ـ ما هي أبرز الأخطاء التي ارتكبتها المعارضة خلال سنوات الثورة الست؟

جواب:  أنها لم تنجح في توحيد نفسها ضد نظام بدائي ظالم، وفي تثمير تضحيات الشعب السوري الهائلة من أجل ضرب الحصار العسكري والسياسي والفكري الكامل عليه وإبراز إجرامه وتهافت حججه وذرائعه. 

ـ ما هو أكبر خطأ ارتكبه الإسلاميون بحق المدنيين؟ وما هو أكبر خطأ ارتكبه المدنيون بحق الإسلاميين؟

جواب: إذا كان المقصود من سؤالك عن الاسلاميين النصرة وداعش، فقد كانت جريمة هؤلاء وليس خطؤهم فقط هي مصادرة الثورة وكفاح وتضحيات الشعب السوري لتحقيق مشاريع مناقضة تماما لتطلعاته وآماله ومصالحه معا. ولذلك لم يكن لديهم وسيلة للتفدم في هذه المشاريع إلا باستخدام الارهاب والترويع والابتزاز الديني والسياسي. وفي النهاية اصبحوا، بوعي أو من دون وعي، حلفاء للنظام في قهر الشعب وإذلاله وشل إرادته، وفي تأليب الرأي العام العربي والدولي على ثورته، وحرمانه من التضامن العالمي الذي كان بأشد الحاجة إليه في مواجهة نظام لا يتورع عن استخدام السلاح الكيماوي والقنابل العشوائية والقصف بالصواريخ والطائرات على المدنيين لتفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة وتدمير النسيج الوطني السوري. أما بقية الاسلاميين أو أكثرهم ممن كانوا مع الثورة الشعبية، فلم يكن خطؤهم في تدينهم، وهذا حقهم ولكن في ثقافتهم واساليب عملهم السياسية التي لا تختلف كثيرا عن ثقافة واساليب عمل أقرانهم من غير المتدينين أو العلمانيين، أعني الانطوائية والتمحور على الذات وانعدام الثقة بالآخر والاعتقاد العفوي بانهم وحدهم من يعرف كيف يصون الثورة ويقودها، أي ثقافة الوصاية وغياب الحوار والتفاعل والنقاش مع منافسيهم في معسكر الثورة والمعارضة ذاته. وهم في هذا أيضا، كالمعارضة العلمانية، ضحايا نظام العدم السياسي أو إعدام السياسة لعقود وسياسات العزل المنظم وزرع الفتنة بين قطاعات الرأي العام وتشتيت المعارضة وضرب ثقة القوى في ما بينها وتوجيه بعضها ضد البعض الآخر. وفي النهاية، وهذا هو المرض المشترك لجميع المعارضات الموروثة عن النظم الارهابية، هو ضعف الرؤية الوطنية، ليس بمعنى عدم التمسك بسيادة الدولة واستقلالها، وانما بمعنى عدم إدراك اهمية المشاركة بين جميع قوى وتيارات الشعب وايديولوجياته في الوطنية ووغياب روح الندية، وعدم قبولهم بالآخر كشريك حتى لو كان مختلفا في التصور والرؤية والايديولوجية والمذهب والدين والعقيدة، وما يترتب على ذلك من تبادل الرأي والمشورة والقيادة الديمقراطية في إطار الحقوق الواحدة والمتساوية ومن اجل تحقيق الاهداف ذاتها،.

ـ سوريا المستقبل، كيف يجب أن يكون شكلها برأيك؟

جواب: ليس هناك في هذا الموضوع مجال للأسرار والأجتها.دات. سورية المستقبل ينبغي أن تكون كما يقررها السوريون الاحرار في انتخابات حرة ونزيهة. وفي كل البلدان التي اتيح فيها للشعوب ان تعبر عن حقها هذا ورايها بحرية، من دون تدخل أجنبي أو انقلابات عسكرية أو أجهزة أمنية، كانت الشعوب تميل نحو الديمقراطية، تماما كما ترى نموذجها في الدول التي سبقتها إليها. وليس هذا من قبيل التقليد ولا الاقتداء بالغير، فالتاريخ السياسي الحديث للبشرية منذ القرن السابع عشر، هو تاريخ ثورات الشعوب، في موجات متتالية، للحصول على حقها في ان تنتخب ممثليها وتقيلهم وتحاسبهم وتبدلهم، وكل ذلك حسب دستور ثابت، ونظام انتخابي معروف، يساوي بين الجميع، ومن دون تمييز من اي نوع. وهذا يعني انه لاتوجد هناك نماذج جاهزة مفروضة على الشعوب، كما يريد اليوم من يعلنون وصايتهم على السوريين، ولكن هناك هدف أسمى ترنوا إليه كافة المجتمعات اليوم هو ان تكون الدولة دولة الحرية لا أداة للاستعباد، وأن تنبثق السلطة فيها عن انتخابات حرة ونزيهة ندية، وان تكون القيادة تداولية، ومنظمة، لا غنيمة اصحاب القوة او أبطال الانقلابات العسكرية وتنظيم المجازر الجماعية، وان تكون الغاية الاولى للحكومة فيها سعادة السكان والارتقاء بشروط معيشتهم ووجودهم المادية والمعنوية. ليس هناك نماذج مسبقة الصنع للديمقراطية لكن هناك مثال ديمقراطي تنزع إليه كل الشعوب الحرة. والسوريون هم الآن، بعد التضحيات الجسيمة التي قدموها، أحد هذه الشعوب الحرة، ولن تقوم لديهم حكومة مستقرة من دون الاعتراف لهم بهذه الحرية، وتكريسها في نماذج حكم ديمقراطية، ومعبرة في الوقت نفسه عن خصوصيات مجتمعاتهم وتطلعاتها وحاجاتها العينية. 
 

ـ هذا التصور عن سوريا المستقبل هو تمني أم أنه يمكن أن يتحقق على أرض الواقع؟ وما الظروف التي من الضروري توفيرها ليتحول إلى واقع؟

جواب: لن يتحقق غيره، لكن ليس قبل أن تخمد أحقاد الخاسرين وتتبخر أوهام الطامعين إلى وراثة إرث الدكتاتورية من القوى المحلية والإقليمية والدولية.

ـ بعد كل هذا الموت وهذا الدمار وهذه المآسي التي حلت بسوريا والسوريين، هل ترى أن فكرة الخروج على نظام الأسد كانت صحيحة أم كان على السوريين الاستمرار في التكيف مع القمع كما فعلوا طوال سنوات طويلة؟

جواب: مثل هذا السؤال لا يطرح ولا يستحق أن يطرح. لو كان بإمكان السوريين الاستمرار في الخضوع لنظام الفساد والاستعباد فترة أطول لما هبوا لاسقاطه. ولو شعروا في اي لحظة أن الفائدة من اسقاطه لا تساوي الكلفة الموضوعة فيه لما استمروا في تقديم التضحيات التي لاتزال من دون حدود حتى اليوم. الشعوب ليست كالأفراد، وحساباتها مختلفة تماما. وإذا كان السوريون قد قبلوا بأن يبذلوا ما بذلوه من دماء ومعاناة فهذا يفترض أن دافعهم عميق أيضا بعمق ارادة التضحية التي أظهروها. وعندما يقبل الناس مثل ما قبل به السوريون من خراب ودمار وقضاء على شروط حياتهم وعمرانهم فعلينا أن نعرف أن سبب ذلك هو أنه لم يكن لديهم خيار آخر، ولا يمكن أن يكون لسبب بسيط وعارض، ان وراء ذلك غاية، ربما كانت أسمى من الحياة، او كانت جوهر الحياة نفسها. فالموت من أجل الحرية أسمى للفرد من الحياة كالكلب من دون كرامة ولا سعادة ولا احساس بالانسانية. كتب المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الاجساد.  

ـ كنت قد كتبت عن ثقافة الإقصاء في المجتمعات العربية وعن أن الأنظمة ترى أن الشعوب "زائدة عن اللزوم". هل صارت هذه النظرة إلى الشعب تجمع بين السلطات وبين معارضيها؟

جواب: لا طبعا. أخطاء المعارضة هي عرض لسياسات النظام، ولا يمكن وضعهما على المستوى ذاته وفي ذات السياق. المعارضة ورثت ثقافة فرضها النظام الاستبدادي والفاسد خلال نصف قرن، وسوقها في مدارسه ومؤسساته جميعا، وبشكل خاص من خلال تحطيمه أي شكل من أشكال التواصل او التعاون أو التضامن بين الافراد، من أجل تحويلهم من ناس بشر إلى آلات وأدوات تحركهم آلة قمعه المخابراتية كما تحرك الدمى في مسرح كراكوز، لكن في جو البؤس والقنوط والألم، لا في مناخ الهزل والضحك. فالصفات السلبية التي وسمت المعارضات السورية، كما هو الحال بالنسبة لكل المعارضات الخارجة من عصور الرعب والارهاب، هي صفات موروثة عن نظام العبودية وثقافته وقيمه وسلوك محكوميه. ويمكن أن تتغير مع تغير النظام السياسي، لكن العداء للشعوب وتحقيرها وتجهيلها ونزع الانسانية عنها هو مقوم النظام وقاعدة عمله وإعادة انتاجه والعقيدة اللازمة لتبرير وحشيته وامعانه في القتل والترويع والارهاب من دون تساؤل أو حساب، وهذا هو أساس الشر، وهو مما لا يمكن إصلاحه. بالاضافة إلى أنه ما كان من الممكن للمعارضة أن تصمد في مواجهة نظام القهر خلال عقود طويلة لو لم تمتلك، إلى جانب ما ورثته من ثقافة العبودية، قيما سامية تدفعها للتضحية والفداء. وقد كان كثير من المعارضين الذين قضوا عشرات السنين في السجون فدائيين بالمعنى الحرفي للكلمة، وشهداء أحياء، في نظام حكم على شعبه بأكمله بالاعدام مع وقف التنفيذ، أكثر مما كانوا معارضين بالمعني السياسي البسيط المتعارف عليه. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل ذلك ونساوي بين المجرم والضحية لتوارد بعض السمات أو الأخطاء والانحرافات. 

ـ لطالما ناديت بتحقيق الديمقراطية لا العلمانية في الدول العربية على أساس أن الديمقراطية هي النظام المحايد الذي يحول دون اضطهاد السلطة لجماعات دينية. الآن اختلفت موازين القوى، وصار البعض يخاف من الديمقراطية لأنها برأيه قد توصل متطرفين دينياً إلى الحكم يقمعون كل من يخالفهم الرأي. ما الحل؟

جواب: لا أذكر أنني طالبت بالديمقراطية بدل العلمانية، ولا معنى لمثل هذا التمييز والفصل. ما ذكرته في أكثر من نص مكتوب هو أن الديمقراطية تتضمن العلمانية، بمعنى حياد الدولة الديني والايديولوجي، لكن العلمانية لا تتضمن الديمقراطية، ولا حياد الدولة، حتما، لأنها من الممكن أن تفرض أو تستخدم من قبل سلطة استبدادية وديكتاتورية، حتى لو لم تكن غطاء للطائفية.
وفي نظري، لن توصل الديمقراطية متدينين إلى الحكم إذا كان تدينهم يعني إعادة تاهيل نظام الاستبداد والعبودية، الفكرية والسياسية والدينية. لم يقدم الشعب السوري نصف مليون شهيد، عدا ملايين الجرحى والمشردين واللاجئين، والعنف الذي وقع على أطفال ونساء وشيوخ مسالمين، مما لم يسبق له مثيل في التاريخ، من أجل أن ينتخبوا مستبدا جديدا يريد أن يفرض عليهم رأيه وخياراته السياسية، متدينا كان ام غير متدين أو معاد للدين. وأي أحمق يفكر في العودة إلى نظام العبودية سوف يلقى الجزاء الذي يستحقه بأسرع مما يعتقد. فلن يفرط السوريون بالتضحيات التي بذلوها من أجل الحرية، ولن يتخلوا عنها لأحد أو في سبيل أي فرد. لن تخرج سورية من النزاع والحرب والعنف والاقتتال ما لم تنجح في بناء نظام جديد يستجيب للتطلعات والأهداف السامية التي دفعتهم للثورة والقبول بمثل هذه التضحيات. والذين يخشون الديمقراطية هم اؤلئك الذين يرفضون الاعتراف بحقيقة ثورة الكرامة والحرية واهدافها ويصرون على اعتبارها ثورة السنة ضد العلويين أو الاسلاميين ضد العلمانيين او الريفيين ضد المدينيين أو الفقراء ضد الأغنياء. قد يخالط ثورة السوريين قليل من هذا وذاك من دون شك، لكن جوهرها والجامع لأطرافها هو النزوع الجارف إلى الحرية والجوع إلى الكرامة التي تعني أيضا المساواة في الاعتبار والحق والانسانية مقابل سياسات القهر والتمييز والاحتقار والاذلال. من لا يريد أن يرى ذلك ينكر على السوريين إنسانيتهم، ويخفي من دون أن يدري نزعة عنصرية لا تختلف عن تلك التي تغذى منها نظام الأسد خلال عقود وبرر بسببها القتل الجماعي وتدمير الشعب والبلاد وتسليمها للاحتلال الاجنبي. 

https://raseef22.com/politics/2017/03/15/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%91%D9%84-%D9%85%D8%B9-%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9/