السفير: الإصلاح مجرد سوء تفاهم

2003-09-15 :: السفير

2003-09-15

النص الآتي مجموع ردود الدكتور غليون على اسئلة وجهتها <<السفير>> إليه عبر البريد الالكتروني وتناولت مستقبل الاصلاح في سوريا والعلاقات اللبنانية السورية ودور التيار الاسلامي. وتقتضي الدقة الاشارة الى ان المقابلة تمت قبل استقالة الحكومة السابقة.

 

مستقبل الاصلاح في سوريا
الحديث عن الإصلاح في سوريا هو ثمرة سوء فهم وتفاهم فحسب، ولم يكن مطروحا في الواقع في أجندة أي قوة اجتماعية حقيقية وليس له أي أجندة فعلية خاصة به أيضا. وعندما أقول إنه ثمرة سوء فهم فأنا أقصد أن وجوده أيضا والحديث فيه ناجم عن أنماط متعددة من سوء الفهم هذا. فهو أولا ثمرة سوء الفهم الذي حصل بين رئيس جمهورية جديد يكاد يكون قد أتى، لولا الرابطة العائلية، من خارج النظام، وقوى النظام الرئيسية وفي مقدمها حلقات المصالح العائلية وبيروقراطية الدولة والأجهزة الأمنية. فبينما كان الرئيس الجديد الذي أدرك، بسبب استقلاله النسبي الكبير عن النظام، هشاشة الأوضاع السورية واهتراءها، يتجه بأفكاره نحو مفاهيم التغيير والإصلاح، انطلاقا من الحس السليم وفي إطار سعيه الطبيعي أيضا الى تأسيس شرعية جديدة لا تجعل منه مجرد وارث لأبيه في إطار سلطة عائلية، كانت قوى النظام الفعلية ترى في دعم ترشيح الرئيس الجديد الضمانة الوحيدة للحفاظ على الوضع القائم وقطع الطريق على أي تغيير.
ولا يختلف الوضع هنا عما هو عليه في الجزائر أو في إيران. فبسبب شعورها بالهشاشة السياسية وحاجتها الى غطاء يستر ممارساتها المافيوزية الواضحة، تميل النظم الشمولية المهترئة أو الميتة سياسيا إلى السماح لشخصيات ذات صدقية، بل أحيانا، إلى اختيار مثل هذه الشخصيات والبحث عنها لما تتمتع به من صدقية، لتجهض حركات الاحتجاج وتقطع الطريق على نمو قوى المعارضة الاجتماعية. فالنظام الشمولي في سوريا كما هي الحال في كل البلدان التي عرفت هذا النظام، لا يحمل ولا يمكن أن يحمل في داخله أي مشروع إصلاح، حتى الضعيف منه. فليس النظام سوى مجموعة من المصالح والتوازنات التي تضمنها. والمصالح التي يحققها النظام الشمولي لا تقوم إلا على شكل من توزيع السلطة يحرم أي حراك اجتماعي ولا يمكن ضمانها إلا بحرمان الشعب من أي هامش حرية سياسية أو مدنية. وأي تغيير في شكل توزيع السلطة هذا يفتح ثغرة حقيقية في النظام ويضع جماعات المافيا أمام احتمال المحاسبة والمراقبة العمومية. وهو ما يشكل مقتل النظام. وكما حصل في الجزائر ويحصل منذ أكثر من عقد ليس أمام الشخصيات الاعتبارية التي تحتل مركز السلطة الأول سوى الاختيار بين أن تلعب اللعبة وتساهم هي نفسها في تسليم المافيات القديمة أسس الاقتصاد الجديد القائم على السوق ومفاتيحه حتى تضمن استمرارها أو تقبل المواجهة معها وتحمل مسؤولية قيادة المعارضة الرئيسية لها. واتخاذ مثل هذا القرار يحمل مخاطر حقيقية وكبيرة. ويكفي أن نتذكر هنا ما حصل مع الرئيس الجزائري محمد بوضياف الذي بحثت عنه القوى العسكرية الجزائرية واستقدمته من منفاه في المغرب لتغتاله عند أول ظاهرة استقلال منه عنها. أو أن نتذكر مثال الرئيس الجزائري الآخر، اليمين زروال، الذي وجد نفسه مكرها على الانسحاب قبل إنهاء مدة ولايته، ثم أخيرا مصير الرئيس الجزائري الراهن عبد العزيز بوتفليقة الذي اضطر بعد معركة طويلة اكتشف فيها عجزه عن مواجهة الأجهزة أن يكون رئيسا فخريا ورمزيا يعزي نفسه عن خسارة معركة الإصلاح بالزيارات الخارجية والاستعراضات الداخلية. وربما كان المثال الأكثر نجاحا حتى الآن على الأقل في المقاومة هو مثال الرئيس الايراني خاتمي الذي يبدو أنه اختار أن يستخدم موقعه في السلطة لتعزيز بناء معسكر الاصلاح مع ما يعنيه ذلك من اضطراره إلى خوض صراع يومي ودائم مع معسكر المحافظين.
وبالرغم من ذلك ليس هناك ما يؤكد بعد أن خاتمي المنتخب أو المرتبط بشرعية تمثيلية قانونية قد حقق أي تقدم في معركته ضد معسكر المحافظين الذين يستندون إلى شرعية ثورية لا تناقش ويطالبون بالاحتفاظ، مثلهم مثل البعثيين، بحق الوصاية الدائمة والمستمرة على مصير الشعب والمجتمع. ومن الواضح أن الأمر لم يحسم في سوريا بعد بين اتجاه التسليم بالأمر الواقع واتجاه تمييز النفس داخل النظام السوري لخوض معركة الاصلاح بصراحة كما هي الحال في إيران.
لكن بالإضافة إلى سوء الفهم هذا داخل معسكر السلطة هناك سوء فهم آخر نشأ بين النخبة السورية الثقافية والسياسية والنظام ككل. فبسبب العزلة والهامشية التي عاشتها هذه النخبة منذ أربعة عقود حصل لديها اعتقاد قوي بأن عجلة التغيير قد دارت وأن ما نجح النظام في تجنبه حتى الآن بعد انهيار جدار برلين لن يمكن تأجيله لفترة أطول. وهكذا اندفعت في معركة الإصلاح وجعلت منه أجندتها أو نظام أولوياتها وموجه حركتها الأول، في حين لم يكن قد طرأ على أجندة النظام الحقيقية، أي أجندة القوى الفعلية المستفيدة منه والضامنة لاستمراره معاً، أي تغيير، باستثناء تغيير واحد نجم عن إدراك هذه القوى للضعف الذي أصاب النظام نتيجة غياب رئيسه الحقيقي السابق وبانيه. وهكذا أصبحت النقطة الأولى في أجندة هذه القوى هي احتواء حركة المعارضة الصاعدة، على هامش تراجع مواقع النظام وتخلخل توازناته. وهذا هو مضمون السياسات التي بلورتها القوى الحاكمة قبل سنوات من وفاة الرئيس حافظ الأسد نفسه، والتي يشكل خطاب الإصلاح والقضاء على الفساد جزءا لا يتجزأ منها، ولا ينفصل عن متابعة سياسة التخويف الأمني والاعتقال وضرب القوى السياسية والمدنية، وتعزيز قانون الطوارئ بقوانين تكاد تكون أسوأ منه، كما بيّن ذلك قانون الصحافة والمطبوعات.
فككل استراتيجية احتواء، تقوم الاستراتيجية الراهنة للنظام القائم على الاستخدام المزدوج للجزرة والعصا بهدف إجهاض حركة تبلور قوى المعارضة وتمزيقها وزرع البلبلة والشك فيها. فخطاب الإصلاح هو الجزرة، والاستمرار في إطلاق يد أجهزة الأمن، من دون قيد ولا التزام بقانون في إرعاب المجتمع السوري وترويع نخبه وملاحقتها اليومية، هو العصا. ولا شيء اليوم في سوريا غير ذلك. وكل ما يسمعه الرأي العام عن الإصلاح والقضاء على الفساد وتغيير الحكومات والحوار مع الدول الأوروبية لتقديم المساعدة في إعادة تنظيم الإدارة أو تحديث بعض مؤسسات الدولة يدخل مباشرة في هذه الاستراتيجية ولا يحيد عنها. ومقصده الوحيد الحفاظ على النظام، أي على نمط السيطرة وتوزيع السلطة والثروة القائم، واستبعاد فكرة إحداث أي تغيير اقتصادي أو سياسي أو إعلامي أو ايديولوجي يمكن أن يمسه بأي تعديل.
لكن، في ما وراء هذه المقاومة العنيدة لأي تغيير، ينبغي القول أن النظام السوري، مثله مثل جميع الأنظمة الشمولية التي عرفتها الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، قد فقد جميع شروط بقائه التاريخية وفي مقدمها ظروف الاستقطاب الدولي وأسطورة التقدم التاريخي ووهم التحرر الانساني القائم على وسائل العنف واختصار المراحل. وهو اليوم في طريق مسدود تماما. والخيار الحقيقي الذي أمام أصحابه ليس بين الحفاظ عليه أو تغييره ولكن بين تغييره نحو نظام جديد متوافق مع معطيات حقبة العولمة ومنسجم معها مع الإصلاح السياسي والاجتماعي والإداري، أي تغيير ذي منحى ديموقراطي، أو بالعكس تغييره نحو نظام اقتصاد السوق المتوحش من دون إصلاح ولصالح جماعات المافيا السياسية الاقتصادية المتولدة هي نفسها في رحم النظام الشمولي ذاته.


العلاقات اللبنانية السورية
وفي الانتقال الى العلاقات اللبنانية السورية، يبنغي القول ان نوعية العلاقات الخارجية التي تبنيها الدول في ما بينها، سواء انتمت إلى أسرة ثقافية واحدة أو لا، تعكس أنماط العلاقات الداخلية وطبيعة السلطات القائمة وأهداف النخب التي تمارسها. وما دامت المصالح الخاصة والفئوية هي بوصلة هذه النخب وأساس الأجندة الخاصة بكل دولة، فلن يكون هناك أي مستقبل لأي علاقة بين دولتين عربيتين. بل سيكون مستقبل هذه العلاقات أسوأ من السابق. ذلك أن النخب التي يحكمها منطق الافتراس والقنص والسطو داخل بلدانها وتجاه مجتمعاتها لا يمكن أن تعمل بمنطق آخر خارجها. فهي إما أن تكون ضعيفة فتمارس سياسة الخنوع والخضوع والانصياع وتضحي بمصالح شعوبها لتضمن لنفسها رضى وأحيانا حماية الدولة الأقوى، أو أن تكون قوية، أو تشعر بالقوة تجاه هذه الدولة الأصغر أو تلك، وتبيح لنفسها التهامها وافتراسها كما تفعل داخل حدودها. ومن المفيد أن نتذكر حديث أحد المسؤولين العرب الذي قال في لقاء صحافي مشهور ما معناه: <<ممّ يستاء اللبنانيون؟ نحن نعاملهم أفضل مما نعامل شعبنا نفسه>>.
إن مفتاح فهم إخفاق العرب في بناء علاقات إيجابية في ما بينهم وعجزهم عن تطوير منظمة إقليمية فاعلة عبر الجامعة العربية أو خارجها هو غياب مفهوم المصلحة العامة الوطنية لدى نخبهم ومن باب أولى مفهوم المصلحة العامة الجماعية التي نسميها عادة قومية.


مستقبل التيار الإسلامي
في ما يتعلق بالتيار الاسلامي ومستقبله، ربما أصبح من المفيد اليوم عدم الحديث عن التيار الاسلامي بوصفه يمثل مشروعا واحدا، أو بالاحرى ربما أصبح من الخطأ الحديث عن مشروع إسلامي، لأن هناك بالفعل مشاريع إسلامية كثيرة. وفي اعتقادي أن هذا الخلط يضر الاسلاميين اليوم كما يضر الحركة الوطنية والديمقراطية العربية أيضا. فمشروع الحركات الاسلامية الجهادية على طريقة حركة القاعدة وما شابهها ينطلق من أجندة مقاومة السيطرة الحضارية. وهي مغايرة تماما لأجندة منظمات مثل حزب الله وحماس والجهاد التي تركز جهدها على مقاومة الاستعمار والسيطرة الأجنبية. وهي نفسها أجندة مغايرة لما تنطلق منه منظمات مثل حركة الإخوان المسلمين التي تتمحور في معظم الأقطار العربية حول الاصلاحات الداخلية وتقبل بالعمل في إطار نظام تعددي ودولة غير دينية أو غير خاضعة لوصاية دينية من أي نوع كانت تعيق الوصاية الشعبية أو تحل محلها. وكل هذه المشاريع مختلفة عن مشاريع إسلامية أخرى تركز على العمل الأهلي والمدني أو على الهداية الدينية.
وبقدر ما تتطور التيارات الاسلامية المختلفة في اتجاه ما أعتبره أنا الهدف المركزي اليوم لأي حركة تجديد عربي، أي بناء الداخل الوطني والعربي، السياسي والاقتصادي والفكري والديني، وبقدر ما تخضع أهدافها الأخرى لهذه الأولوية، بما في ذلك هدف مقاومة الاستعمار، يزداد دورها إيجابية في حل معضلات الأوضاع العربية، وتتحول من تجليات للأزمة العامة التي تعيشها المجتمعات العربية إلى عامل أو فاعل مشارك في الرد الايجابي أو الناجع عليها.
والقصد أنه لا ينبغي أن ننظر الى الحركات أو التيارات الاسلامية من خارج التاريخ ونجمدها في لحظة ما وعلى صورة نهائية. إنها منظمات تاريخية تنمو وتتطور وتغير أفكارها عبر تجربتها السياسية والفكرية. وفي إمكانها، مثلها مثل جميع الحركات الاجتماعية البشرية، أن تتعلم من أخطائها ونجاحاتها وتعيد النظر بسياساتها أيضا وتكتشف شيئا فشيئا طريق المشاركة الفعالة والناجعة والايجابية. وهذا ما سيحصل في نظري. لكن المهم أن نتجنب مواقف الإدانة الجماعية والنهائية وأن نراهن على وعي الناس ووجدانهم وقدراتهم على التبدل والتغير والاستفادة من تجاربهم الحياتية.


قوى مناهضة العولمة
اذا اردنا التطرق الى موضوع تأثيرات العولمة على مجتمعاتنا العربية التي هي جزء من مجتمعات العالم النامي الفقير، أعتقد أننا في حالة من سوء الأوضاع وسوء الموقع وانعدام القدرة على التأثير لدرجة يصبح فيها أي حديث عن الجذرية، في السياسة الداخلية أو الخارجية، نوعا من الكماليات التي لا يمكن أن نسمح بها لأنفسنا. نحن في وضع صعب جدا ولا مخرج لنا سوى الحوار والمفاوضات حتى لو كانت قلوبنا مع منظمات مناهضة العولمة، ونحن معهم بالفعل في سعيهم لوضع حد لغطرسة القوى الاقتصادية العالمية على حساب استقرار المجتمعات البشرية وانسجامها الداخلي وحرياتها. طبعا، ينطبق هذا الاختيار على المجتمع ككل وبالتالي على سياسات ممثليه. لكن ليس هناك ما يمنع من تطوير حركات مناهضة العولمة الشعبية، بل لا بد من تطويرها في بلادنا لتكون جزءا من حركة مناهضة العولمة الدولية وطرفا مشاركا في صوغ المصير البشري للعقود المقبلة.