أمريكا تسعى لفرض الوصاية على العرب

2004-07-26 :: دار الخليج

 خالد عواد الأحمد

 

يرى المفكر السوري الدكتور برهان غليون أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون بباريس ورئيس معهد دراسات الشرق الأوسط فيها أن الإصلاح الذي ما فتئت تتحدث عنه الحكومات العربية منذ سنوات طويلة لم يحصل ولن يحصل لأن الأمل بدأ يتآكل لدى الجمهور العريض، الذي فقد الشعور بأي انتماء وطني أو إنساني، وأن السياسة كما تتجلى في النظام العربي القائم اليوم تبدو كالعارضة على القبر التي تدين الميت بالموت الأبدي، ولا تترك له مجالاً للأمل.. هل هي القيادات الضعيفة؟ أم هي البيروقراطية العقيمة والمعقمة للعقل والذكاء؟ هل هو الحرس القديم الذي يبسط نفوذه في كل الميادين ولا يسمح للجديد بالولادة والنماء؟حول هذه القضايا الحارة والإشكالية وغيرها كان الحوار التالي مع برهان غليون.


* يتبارى أنصار الحكومات العربية بالتذكير بعدد المراسيم والقوانين والإجراءات التي اتُخذت من قبل الطواقم القائمة لإنعاش الاقتصاد، وجذب الاستثمارات ومحاربة الفساد والإهمال، وعلى هذه الحجج ترد المعارضات بحجج أقوى فتذكر بأن القوانين والمراسيم والإجراءات لا تجد طريقها إلى التنفيذ وعندما تنفذ لا تغير من الأمر شيئا، فالاقتصادات لا تزال فقيرة ومتهالكة ولا تكاد الاستثمارات المنتظرة والمتحققة تعادل شيئاً، بالمقارنة مع الرساميل الهاربة والمهاجرة، حتى بدا الفساد هو نفسه وكأنه يتغذى من لهيب معارك محاربته وينمو عليها في عالمنا العربي؟ ما رأيك بهذا الموضوع؟

* يزداد الاعتقاد لدى غالبية الجمهور العربي المكوي بنار التدهور المستمر في شروط المعيشة، وممارسة الحقوق والحريات التي تشكل علامة الاندماج في العصر الحديث والحضارة، بأنه حتى لو نجحت الحكومات العربية في تنفيذ جميع القوانين والقرارات التي تصوت عليها أو تتخذها، وحتى لو شملت هذه القوانين والقرارات جميع ميادين النشاط الوطني فلن تعطي نتيجة تذكر، وحتى لو كانت هذه القوانين والقرارات في الاتجاه الصحيح وهو ليس من الأمور الحتمية ذلك أن الحكومات قد تخطئ، ومن حقها أن تخطئ، فإن الإصلاح سوف يظل بعيداً عنا.

 

* ما سبب ذلك برأيك؟

* إن تسيير الشؤون العامة يحتاج إلى صوغ قوانين واتخاذ قرارات، كما يحتاج إلى تطوير وتحديث الوسائل والأساليب المتبعة في الإدارة والتسيير الاقتصادي معاً، لكنه يحتاج قبل هذا وذاك إلى نُخب جديدة تدرك حاجات الشعوب وتتواصل معها وتحترمها، وتتأثر بما تعاني منه، وتعرف أن المسؤولية والقيادة السياسية تعني الالتزام بالعمل على تحسين شروط حياة المجتمعات، وضمان مستقبلها لا استغلال المنصب السياسي لخدمة مصالحها الخاصة وضمان مستقبل أبنائها والمقربين منها.

 

  ديناميات الإصلاح

* كيف تفهم إذاً جوهر الإصلاح في الوطن العربي وكيف يمكن تطبيقه بشفافية؟

* إن جوهر الإصلاح ومصادر الحركة القوية التي يدفع إليها تكاد تُختَصر في ثلاثة مبادئ رئيسية ينتظر الرأي العام إغناءها، وضمان تطبيقها وتنميتها، وهي لا تتعلق بشكل خاص بالاقتصاد أو السياسة، ولا تتماهى مع تحديث الإدارة أو إحياء المجتمع المدني، ولكنها تتعلق بروح النظام العام، التي تنتشر أو ينبغي أن تنتشر في جميع المواقع والميادين، قبل أن تتحكم بكل نشاط اجتماعي وتحدد السلوك العام لجميع الأفراد في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والمؤسسات على حد سواء، فإذا ما انتشرت مبادئ الإصلاح في هذا النظام العام لايهم بعد ذلك أكان الإصلاح الاقتصادي هو الأسبق، أو كان الإصلاح السياسي، ولا إن شمل الإصلاح السياسي، وما يعنيه من تكريس التعددية والمشاركة الفعلية في القرارات السياسية جميع الأفراد دفعة واحدة أم كان تدريجياً وبطيئاً، وإذا كان من المستبعد أن تنطلق ديناميات الإصلاح الحقيقي من طرف النخبة الحاكمة، التي ليست لها مصلحة واضحة، أو هي لا ترى بعد مصلحة لها في الإصلاح، فمن الممكن، بل ومن الضروري أن يبدأ الإصلاح من داخل المجتمع نفسه، أي على مستوى الأسرة والمؤسسة والهيئة والجمعية الأهلية، وكل المنظمات التي اعتدنا على أن نسميها مدنية. فمسؤولية المجتمع بل كل فرد من أفراده في إطلاق حركة الإصلاح وترسيخ أخلاقياته، لا تقل عن مسؤولية النُخب الحاكمة، بل إنها تشكل اليوم المدخل إلى التغيير في البلدان العربية.

 

  منطق الولاء

* ما المطلوب لتحقيق تغيير نوعي في مفهوم الإصلاح وآلياته في البلدان العربية حسب اعتقادك؟

* أول المبادئ التي تخلق الحركة الإصلاحية الدافعة باعتقادي، هو إحلال معيار الكفاءة في كل مجالات الحياة والنشاط والعمل محل معيار الولاء، سواء أكان ولاء القرابة العائلية والعشائرية أو الزبائنية والمحسوبية أو ولاء شبكات المصالح الخاصة المتغلغلة في الدولة، أو ولاء الانتماءات الحزبية الضيقة والحاكمة، وقاعدة الولاء تسود اليوم في مجتمعاتنا العربية جميعاً في ميادين النشاط العام بأجمعه، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإداري، وفي المؤسسات والجمعيات السياسية والمدنية والأهلية، فما دام الموالي هو المطلوب والمنشود فالكفاءة محاربة وهاربة لا محالة، ولاشيء يمكن أن يتجدد فعلياً في أي نظام أو نشاط، وسيظل النظام يشكو من انعدام الكفاءات والأطر والاختصاصات، فهو بتسييده منطقَ الولاء، لا يدفع إلى هرب الأطر الصالحة فحسب، ولكنه يعيد إنتاج الأطر السيئة وتكوينها بصورة سيئة أيضاً، وعلى نطاق واسع، وهي الأطر التي تستبدل العمل والجهد الجدي بالتزلف والتملق والممالأة وفي ذاك الالتحاق يكمن مصدر صعودها وازدهارها، وهو الذي يعطي لها مكانتها وقيمتها وفي جميع البلاد العربية التي زرتها لم تتخذ السلطة ولا تريد أن تتخذ أي مبادرات أو تقوم بأي جهود لتغيير الاتجاه وزيادة الكفاءة والمهارة والموهبة في ملء مناصب المسؤولية السياسية والإدارية، وإذا فعلت ذلك فبالقطارة وعلى سبيل ذر الرماد في العيون والدعاية. ولذلك، بالرغم من كل ما حصل حتى الآن ومن جميع الضغوط والتحديات، لا تزال العملة الفاسدة في الدولة والمجتمع على حد سواء تطرد في البلاد العربية العملة السليمة، ولا يزال قانون الولاء والموالاة هو السائد عربياً، بالرغم من الخطابات المتكررة عن فتح المجال أمام أصحاب المواهب والكفاءات، وعدم قصر مناصب المسؤولية على أنصار النظام وأشياعه وتابعيه.

والمبدأ الثاني للإصلاح هو إحلال سلطة القانون محل سلطة أجهزة الأمن، في تنظيم الحقل العمومي والحياة السياسية والمدنية، وهذا الالتزام بالقانون ليس مطلوباً فقط من السلطات السياسية، ولكنه مطلوب أيضاً من جميع العاملين والمسؤولين، ويتطلب التمسك به مقاومة الضغوطات والإغراءات السياسية وغير السياسية، وربما القبول ببعض التضحيات التي لا بد منها للخروج من حلقة التقسيم والفوضى والخوف السائدة، فمن الواضح لكل مراقب خارجي أن ضبط الفضاءات العامة والتحكم بالسكان ينازعه في البلاد العربية اتجاهان رئيسيان: تعطيل تطبيق القانون أو تفسيره حسب مصالح المسؤول، مما يتيح كل أشكال التلاعب بحقوق الافراد ومصالحهم، وتضييق نطاق حرياتهم، أو تجاوز مبدأ القانون نفسه في العلاقات العامة، وتبرير التدخل الدائم وغير الخاضع لأي مراقبة أو محاسبة لأجهزة الأمن في حياة السكان.

المبدأ الثالث هو مبدأ المسؤولية، الذي يعني الإحساس بالواجب والعمل بما يقتضيه هذا الواجب فيما يتعلق بالشؤون العمومية ومناصب المسؤولية على أي مستوى كانت، وربما كان المبدأ السائد اليوم عند كثير من المسؤولين العرب هو النقيض له تماماً، أعني مبدأ التمتع، واستباحة الموارد العمومية، كما لو كانت ملكية شخصية، فلا يرتبط المنصب هنا بواجبات، ولكن بتأمين فوائد ومنافع وامتيازات وحقوق، وليس للسلطة علاقة بالمسؤولية، بل إن العكس هو الصحيح، فالسلطة تعني التسيد، ولا يشعر صاحبها بالتسيد إلا إذا وضع نفسه فوق القانون، وجعل من موقعه ومنصبه درعاً يقيه أي شكل من أشكال المحاسبة والمساءلة والالتزام، فالفوقية والارتفاع فوق القانون الذي يساوي بين الأفراد هو أساس التميز ومصدر الشعور بالأسبقية والامتياز.

 

  الوصاية

* تشكل الديمقراطية بما تعنيه من اعتراف بحد أدنى من الحريات التعددية للشعوب العربية، وتأكيد معنى المسؤولية والمحاسبة السياسية، أحد العناوين الأساسية إن لم تكن العنوان الرئيسي لأي برنامج إصلاح عربي.. كيف تنظر إلى أهمية هذا الأمر في ظل محاولات (دمقرطة) البلدان العربية أمريكياً؟

* لا ينبغي أن نفهم من المشروع الأمريكي لنشر الديمقراطية في البلاد العربية إعادة السيادة للشعب والقبول بمطالبه وجعل السلطة العمومية ممثلة بالفعل لمصلحته وتوجهاته، فالولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تنظر إلى الشعوب العربية على أنها شعوب بدائية، ضعيفة التكوين الروحي والفكري والسياسي، لا يمكن الاطمئنان لها أو السيطرة عليها. إن ما يهدف إليه هذا المشروع هو بالأحرى وضع الأنظمة أو النخب العربية التي تدين ببقائها وتدعيمها للولايات المتحدة تحت الوصاية المباشرة، وحرمانها من التصرف بحرية بما أصبح يبدو لها، من بلاد وعباد وثروات وموارد وطنية، وكأنه من أملاكها الخاصة، وحكراً قائما عليها، أي في الواقع وضع حد لسلطتها الداخلية الاستثنائية، وهو من قبيل وصاية الأب على الولد الجاهل والفاسد والقاصر معاً.

ويطمح الحلفاء والأمريكيون على رأسهم، إلى أن يحقق لهم نظام الوصاية الجديد الذي يزمعون فرضه على العالم العربي إشرافاً أفضل على مسار التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والقيادة شبه المباشرة لها، بعد أن خرجت أو كادت أن تخرج في نظرهم عن السيطرة. فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية هي التي تضمن في نظرهم منع برميل البارود الذي هو الوطن العربي برمته من الانفجار، وتدمير كثير من المصالح حوله، كما يطمحون أيضا من خلال إدخال درجات أكبر من الشفافية على النظم السياسية الجديدة أو المجددة لضمان النفاذ بشكل أفضل إلى سلطة القرار والتحكم به عن قرب، ومنع حصول تطورات خطيرة لا يمكن التحكم بنتائجها، مثل تطوير أسلحة الدمار الشامل، وهم يطمحون كذلك إلى تقريب الطبقات الوسطى لإضفاء طابع من الاستقرار على النظام الجديد أو المجدد، وذلك من خلال تأمين شكل من أشكال التعددية السياسية، وضمان الحريات الفردية الأساسية، باختصار إنهم يريدون شركاء المجتمعات العربية أو طبقاتها الوسطى ونخبها الرئيسية لضمان استمرار أطول واستقرار أكثر وأقوى في مقابل الإبقاء على ما ينبغي تسميته "نظام السيطرة المشتركة العربية الأمريكية" وبهذا المعنى أقول إن هدف ديمقراطيتهم الليبرالية الفردوية هو قطع الطريق على الديمقراطية الحقيقية التمثيلية التي تعترف بسيادة الشعب والمجتمع وتعبر عن طموحاته وأهدافه وآماله الجمعية.

 

* أخيراً ما هو سؤال العقلانية المطروح على عالمنا العربي اليوم برأيك؟

* لقد وصل النظام العربي المعاصر إلى الباب المسدود وأصبح عاجزاً عن دمج الجميع فيه، والدورة متسارعة في تهميش قطاعات جديدة ودفعها خارج المجتمع، فالتطور الرأسمالي الجاري عندنا على سبيل المثال تابع ومشوه، لأن حرية الفرد الاقتصادية في الغرب كانت موصولة بحرية الفرد السياسية، أما عندنا فهي موصولة بإقصائه وحرمانه منها، ولعل سؤال العقلانية المطروح على عالمنا العربي يستمد تصحيحه من إعادة طرح السؤال في كل الأنظمة الفكرية والسياسية التي علكتها الألسن منذ زمن، إن ما نرفضه هو هذا التلاعب بمصير الشعوب والمجتمعات الذي لا يمكن أن يؤدي في النهاية إلا إلى إفراغها من قواها الداخلية وقتل ديناميكية حركتها وتوازناتها الذاتية، وبالتالي جعلها ضحية لأي قوة متسلطة خارجية أو محلية.. وما لم تتطور داخل المجتمعات العربية قوى ديمقراطية حقيقية تعكس مصالح الجمهور وتعبر عن إرادته، وتسهم بالتالي في تحرير المجتمعات من تبعات هذه المعركة المدمرة والتي لا يمكن لأحد الانتصار فيها، فلن يكون أمام الوطن العربي سوى التطور الحثيث نحو مزيد من التقهقر والتمزق والفوضى والاقتتال.