الموقف التونسية: الدولة وتشكيلات ما قبل الدولة: الهيمنة والمقاومة

2007-02-10 :: الموقف التونسية

محسن المزليني

2007-02-10

*  كيف يتبدّى لك المشهد السياسي العربي في مفتتح الألفية الجديدة، وهل اختلفت قضايا العرب بين الألفيتين؟

* بعد مشروع النهضة الفكرية الذي عرفته البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يشكل مشروع التحرر من الاستعمار وبناء دولة وطنية موحدة في القرن العشرين المشروع الأكبر الثاني على طريق انبعاث الاجتماع العربي. بيد أن هذه المشروع اصطدم بالسيطرة الأجنبية وبالبنيات التقليدية القوية التي أجهضت اندفاع الجمهور العربي نحو الحداثة. وخلال عقود أربع ماضية عاش العالم العربي في حالة ضياع، ضياع فكري وسياسي واقتصادي ونفسي ووطني. وقد شهدت بداية الألفية الثالثة ملامح يقظة جديدة مع نمو المقالة النقدية والفكر الحر وولادة بعض براعم الحركات المدنية والاجتماعية. لكن الطريق لا يزال طويلا للخروج من نفق الاستلاب والشك والتردد والحيرة ولاستعادة الثقة بالنفس وبالمستقبل.

 

* في أكثر من مرّة أكّدتم على قانون تخضع له السياسية العربية ومؤسّسة الدولة فيها خصوصا مفاده" بقدر ما تقبل الخضوع والالتحاق تستحق دولة "مستقرة" وشبه قانونية، قادرة على الإدارة وتحقيق الحد الأدنى من التقدم والازدهار"، فهل هذا يعني قدرية جديدة ومؤشرا لموت السياسية كتطلّع إلى بناء دولة مستقرة بشروطها الذاتية؟

* لا. ليس هناك قدرية ولا يأس من بناء أي دولة سيادية، إنما إدراك أفضل وأسلم، وبالتالي وعي أنجع لتشابك المصائر العالمية. وفهم أعمق لقانون السيطرة الكلية أو العولمية، وبالتالي لمباديء مقاومتها أو الاندراج الايجابي وليس السلبي فيها. وربما كان الشرق الاوسط الذي يشكل بؤرة مصالح دولية وإقليمية متضاربة، ويندرج أكثر من أي منطقة في العولمة على قاعدة التبعية والتسليم، هو المكان الذي يبرز أكثر من غيره طبيعة هذا القانون. والنتيجة لا يستطيع مجتمع اليوم أن يعيش خارج دائرة السيطرة العالمية أو المعولمة، إنما يستطيع أن ينتزع جزءا أكبر من هامش المبادرة وبالتالي يخضع بشكل أقل لعواقبها السلبية بقدر ما يشارك فيها بشكل ايجابي، أي بقدر ما تكون له فاعلية في تحقيقها.

ويعني ذلك أيضا أن هذه السيطرة ليست مرتبطة بدولة مهما كانت عظمة هذه الدولة، ولكنها تشكل شبكة من العلاقات المتفاعلة بين جميع الأطراف. والولايات المتحدة الدولة الأعظم تتحكم بها بقدر ما تشارك في تغذيتها من خلال الانتاج العلمي والتقني والصناعي والعسكري. لكنها مع ذلك لا تملك زمام المبادرة الكلية فيها ولا تضمن النجاح في كل المشاريع التي تطلقها، وقد أخفقت بالفعل في الأعوام الماضية إخفاقا ذريعا في العراق لأنها ماثلت بين السيطرة العالمية والسيطرة الأمريكية واعتقدت أن تفوقها العسكري يسمح لها بتجاوز رأي جميع الدول الأخرى بما فيها حلفاؤها. وكانت النتيجة أن برغيا صغيرا عطل الآلة بأكملها، وهذا البرغي هو المقاومة المسلحة في العراق غير المتوقعة منها وغير المنتظرة.

 

* كيف يبدو لكم مستقبل المشروع المقاوم للهيمنة في منطقتنا وكيف تقيّمون أخطاء التجربة الماضية؟

*أتقنت منطقتنا فن المقاومة في كل الميادين وعلى كل الجبهات، الدينية والسياسية، السلبية والايجابية، لكنها أضاعت فن الحكم والسياسة ومفهوم القانون والعدل ا لذي لا تقوم من دونه دول ولا مجتمعات. وبموازاة نجاحنا في كسر إرادة الهيمنة الأجنبية التي استشرست في بلادنا بسبب انقسامنا وتشتتنا، علينا أن ننتقل من منطق المقاومة للأجنبي إلى منطق بناء الذات. ولا نستطيع أن نفعل ذلك ما لم نميز بين مهام المقاومة ومهام البناء أولا، وبين منطق المقاومة المطبق على عدو خارجي ومنطق القانون المطبق على المجتمع. والخوف أن يكون تمثلنا لمنطق المقاومة، أي تحقيق الانتصار للذات أو منع الآخر من الانتصار بأي ثمن وبالوسائل العنفية قد قضى نهائيا عندنا على منطق القانون، وما ينطوي عليه من مفهوم مواطني لدور الدولة، ومن خضوع الأفراد الطوعي لهذه الدولة، ومن تمثل لمباديء وقيم الحق والعدالة والسلام الأهلي والتضامن الوطني والتكافل الاجتماعي.

 

*  ما هو تقييمكم لأثر القومات الاحتجاجية في الوطن العربي بمختلف تلويناتها الإيديولوجيّة طوال القرن الماضي، هل ساهمت في إضعاف الدولة أم كانت سببا في تقويتها؟

* من الواضح أنها أضعفتها، خاصة في تلك المناطق التي امتدت فيها حقبة الصراع لعقود طويلة. لكن الذي أضعف الدولة في الواقع ليس المقاومة والاحتجاج القومي وإنما إخفاق الدولة أو النخب الحاكمة وعجزها عن توفير شروط المقاومة على قاعدة السياسة والقانون، وتحول العديد من هذه الدول ثم المقاومات أيضا إلى موطن لمافيات المال والأعمال الحاكمة، وأحيانا تحويل الدول مع أجهزتها القسرية إلى ميليشيات تخضع السكان لصالح هذه المافيات من دون التقيد لا بمبدأ ولا قانون.

 

* ـ كيف تنظرون إلى إمكانية التصادم و الإحتراب الداخلي في إطار تقسيمات ما قبل الدولة؟ وكيف بعد هذا الجهد التحديثي الذي كان شعار كلّ الدول العربية بعد استقالاتها، كيف يرتدّ إلى هذه التكوينات ولماذا، وهل هناك آلية اجتماعية أو صمام أمان يمكن الاعتماد عليه لتجاوزها؟

* لا مخرج من الاحتراب من دون استعادة مفهوم الدول والقانون وإعادة بناء مفهوم الوطنية بمعنى المواطنية. ففي غيابهما تتحول التكوينات ماقبل السياسية إلى مجال التضامن الوحيد بين الأفراد وبالتالي إلى أداة حرب داخلية وصمام أمان للفرد في الوقت نفسه، بل بسبب ما تستعيده من قيمة كصمام أمان للفرد. لأن الفرد الانساني لا يستطيع أن يعيش في الفراغ. إنه بحاجة إلى شبكة من العلاقات والتواصل والتعاون. وعندما تعجز الأطر السياسية، كالدولة والحزب والجمعية المدنية، عن تقديم مثل هذا الخير الاجتماعي، أو عندما تفسد البنيات والهياكل السياسية والمدنية وتوظف لغير ما نشأت من أجله، ينزع الفرد تلقائيا إلى البحث عن الأطر القديمة ما قبل السياسي ويعيد خلقها من جديد عندما تكون قد اندثرت. وهذا ما حصل في مجتمعاتنا بالضبط. العودة إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والعائلة مما نشاهد نموه هنا هو إدانة عملية للدولة وللسياسة الحديثتين اللتين أسيء استخدامهما من قبل النخب الحاكمة وحولا لتحقيق هدف غير هدفهما. فبدل أن يأتيان لضمان الحياة القانونية والحريات المدنية والسياسية الأساسية للأفراد وتأكيد درجة أكبر من التضامن والتكافل الاجتماعي وتعظيم فرص التقدم والعمل والانتاج والرفاه، تحولا في الغالب إلى أدوات قهر واستلاب وحرمان من الحقوق ومن الحريات. هذه العودة تشكل بالتأكيد رد فعل واحتجاج على ما أطلقت عليه في كتاب "الدولة والدين، الحداثة المغدورة"، اسم الحداثة الرثة. لكن صمام الأمان ليس حلا، وستستمر الحرب الاهلية على صورة معلنة او كامنة، طالما لم ننجح في بناء دولة مواطنية تلغي الحاجة إلى تحويل الطائفة او العشيرة أو المذهب إلى دولة بديلة أو ما يشبه التعويض عن الدولة.