الأسد والصراع على سورية

2017-06-18 :: الوطن المصرية

 

​- ما قراءتك للمشهد السوري الحالي بعد هذه السنوات من الدمار والخراب؟

- سورية والشعب السوري يدفعان ثمن ثلاث اخفاقات ليسا هما المسؤولين عنها، ويتحملان عنف الحروب التي تفجرت بسببها ولم تجد مخرجا لها بعد. لذلك كانت المأساة استثنائية والقتل والدمار غير مسبوقين في أي نزاعات سياسية، مهما كانت الرهانات والغايات.

الاخفاق الاول يتعلق بفشل الدول العربية خلال نصف القرن الماضي وبالرغم من جميع الجهود والضغوط والتشجيعات من قبل المثقفين وقطاعات المجتمع المدني العديدة في التوصل إلى حد ادنى من التفاهم والتعاون والتضامن من اجل اطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية واستيعاب الاجيال الجديدة في النظام الاجتماعي ومواجهة قضايا الأمن والسلام والاستقرار، بما في ذلك مواجهة التطرف الاسرائيلي والدفع في اتجاه تسوية سياسية تضمن الحقوق الفلسطينية.

والثاني فشل المنظومة الدولية في الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفييتي للاسراع من الخروج من الحرب الباردة واصلاح الامم المتحدة ومجلس الامن وتوسيع عضويته بحيث يعبر فعلا عن القوى الجديدة الصاعدة في امريكا اللاتينية والشرق الاوسط وافريقيا. لقد أراد نظام الأمم المتحدة الراهن أن يجمد التاريخ والسياسة الدولية عند نتائج الحرب العالمية الثانية ويكرس قيادة ضيقة احتكارية واستبعادية لم تعد تتمتع بأي مصداقية في تمثيل تطور القوى العالمية وتوازناتها الحقيقية. بالعكس، اختارت الدول الكبرى والغربية منها بشكل خاص ان تستفيد من نهاية الحرب الباردة لتوسيع دائرة نفوذها وعزل منافسيها. وها نحن نعود للحرب الباردة الثانية. ومن الواضح ان تعطيل مجلس الامن من قبل الفيتو الروسي والصيني كان احد الاسباب الرئيسية في تمديد أجل الحرب وتفاقم تراجيديا القتل السورية.

والثالث هو إخفاق النظم العربية في القيام بأي اصلاح سياسي واجتماعيخلال أكثر من نصف قرن،  وتمسكها بالرهان على استخدام القوة وتوسيع صلاحيات الاجهزة الامنية لردع أي احتجاجات ممكنة واقامة جدار عازل بين الطبقة الحاكمة الضيقة وبقية جماهير الشعب. وكانت النتيجة إغلاق اكبر للنظم وتحويلها الى قلاع قوية صامدة من دون تغيير في وجه الأكثرية الشعبية المتقهقرة ، مع تفاقم الفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والرهان بشكل اكبر على القمع وتدهور مضطرد في شروط حياة الشعب ومعدلات البطالة ومستويات الادارة والخدمات الاجتماعية ومشاعر القهر والظلم. 

وقد تحولت سورية، بسبب الدعم الاستثنائي الذي تلقاه نظام الاسد من حلفائه الايرانيين والروس، وصمت الأطراف العربية العديدة بسبب الخوف من انتصار ثورة شعبية حقيقية في الشرق، إلى بؤرة تفجر لنتائج هذه الإخفاقات ومسرحا مفتوحا للحروب الثلاثة التي نجمت عنها: الحرب الدموية الرامية الى المحافظة على النظم من الانهيار، والحرب الاقليمية التي فجرها ضعف العرب وانقسامهم وتفككهم الذي شجع ايران على التطلع إلى التوسع الاقليمي لفك الحصار الغربي عنها، والحرب البادرة العالمية الجديدة التي أنعشت النزاع الغربي الروسي والصيني واللاتينو امريكي. جميع أبطال هذه الحروب يريدون ان يحسموا معاركهم داخل سورية وعلى حسابها من دون اي اعتبار  للشعب السوري وحياته ومصالحه ومستقبله. هكذا تحول النزاع السياسي العادي الذي حصل من قبل في تونس ومصر وكل بقاع العالم، ممثلا بمسيرات الاحتجاج السلمية والمطالبة بالاصلاح والتغيير، إلى حروب دموية وتراجيديا لا مخرج منها. 

 

- المعارضة تتحدث دوما عن رحيل بشار الأسد، هل تعتقد أن ذلك ممكنا؟ نرى أنه يثبت نفسه هذه الفترة أكثر من أي وقت مضى؟

- بشار الاسد لم يرحل جسديا لكنه لم يعد يمثل أي شيء في سورية ولا يحكم أبعد من القصر الذي يسكن فيه. وربما حتى في هذا القصر ليس هو صاحب القرار. يمكن لوزير الدفاع الروسي ان يستدعيه في اي لحظة الى قاعدة حميميم كما حصل العام الماضي، من دون ان يعلم هو نفسه ألى أين كان ذاهبا ومن هو الشخص الذي سوف يقابله. وجوده الرمزي معلق على ذراع الروس والامريكيين الذين يساومون عليه مع الدول الغربية وينتظرون الثمن ليقطعوا الحبل الذي يحميه من السقوط.

لا أحد يعير اهمية لبشار الاسد الا ايران التي تراهن عليه للحفاظ على نفوذ غير مقبول وغير مبرر في اي مقياس سياسي او قانوني يهدف إلى التحكم بسورية وحرمان شعبها من حريته وحقوقه إلى الأبد من اجل ضمان تمرير السلاح لحزب الله الذي فقد اي قيمة في الصراع ضد اسرائيل بعد حرب ٢٠٠٦ وصار ممثلا لدولة طائفية داخل الدولة اللبنانية. 

بالنسبة لجميع السوريين، بما فيهم أغلبية من لا يزاولون بالرغم منهم يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها اسميا او يسيطر عليها باسمه، يعني القبول بعدم رحيل بشار  الموافقة على أمرين : تأبيد الديكتاتورية الدموية والطائفية في سورية وتبرئتها من جرائم وصفتها كل تقارير المنظمات الدولية الحقوقية بجرائم ضد الانسانية، وهي في الواقع جرائم ابادة منهجية لشعب بأكمله لرفضه الاستسلام، والأمر الثاني التسليم لايران بوصايتها على سورية وتحويل شعبها الى ميليشيا تعمل لصالح مشروع الهيمنة الامبرطورية الايرانية على المشرق العربي بأكمله. 

جميع المحللين والمراقبين الدوليين يعتبرون ان بشار الاسد هو العقبة الرئيسية امام اي تسوية سياسية تنهي الحرب السورية. وهذا يعني ان رحيله هو مفتاح هذه التسوية، تماما كما يعني بقاؤه استمرار الحرب، حرب الديكتاتورية الدموية ضد حرية الشعب وحرب ايران التوسعية ضد استقلال سورية واستقلال وأمن الدول العربية.

 

​- ما حقيقة الانقسامات الحادثة بين صفوف المعارضة، والتي يتحدث عنها النظام دوما؟ هناك حديث عن معارضة للرياض وأخرى لأنقرة وثالثة لروسيا ورابعة من القاهرة؟

- كل هذا جزء من الحرب الاعلامية والنفسية. كيف يمكن ان تتوحد المعارضة إذا كان بإمكان الاسد وحلفائه ان يشكلوا منصات جديدة للمعارضة كل يوم ويقدمون لها الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي ليلتفوا على المعارضة الحقيقية وقوى الثور،ة وحتى يبرروا رفضهم الدخول في مفاوضات جدية؟

بعد ان تشكل الائتلاف الوطني وقفت موسكو وراء هيئة التنسيق للتغيير الديمقراطي وتذرعت بها لتركز على انقسام المعارضة في الوقت-  الذي كانت الهيئة ترفض دعوة المجلس الوطني للعمل من داخله في جبهة عريضة ، خوفا من انتقام النظام منها. وعندما انشئت الهيئة العليا للمفاوضات ودخلت فيها هيئة التنسيق ولم تعد هناك ذريعة انقسام للمعارضة، انشأوا خلال أشهر اربع منصات سياسية لتأكيد انقسام المعارضة لم يكن لأي منها اي وجود أو دور سياسي قبل الثورة أو بعدها. وهي منصة موسكو ومنصة الاستانة ومنصة حميميم ومنصة القاهرة ثم منصة بيروت وربما غدا منصات في كل العواصم الدولية. هذه لعبة ممجوجة ولا يمكن قبولها حتى كنوع من الضغوط الدبلوماسية. هناك حدود للاستهزاء بالرأي العام السوري والدولي.

 

​- ما موقع الإخوان المسلمين في المعارضة السورية؟ 

- الاخوان المسلمون تنظيم سياسي موجود في معظم البلدان العربية، وقوته في سورية أقل بكثير مما هي في أكثر البلاد الأخرى. وهو لم يوجد بقرار من المعارضة السورية ولا يعتمد في وجوده عليها. ولا تستطيع المعارضة أن تنكر وجوده، أو تتصرف كما لو لم يكن موجودا، وإلا سيسخر العقل والعالم منها. السؤال هل الخيار السليم للمعارضة الديمقراطية السورية، ومصلحة الشعب السوري في اقتلاع جذور الديكتاتورية، يتماشى أكثر مع مقاطعة الأخوان وعزلهم، أم ضمهم للإئتلاف الوطني  الواسع لتعزيز جبهة العمل ضد نظام الاسد الدموي خاصة بعد أن نشروا مشروعهم الذي يعترف بالدولة المدنية السورية ويقبل العمل في إطار منظومة ديمقراطية؟ هذه مسألة سياسية واستراتيجية وأخلاقية في الوقت نفسه. وعلى كل قيادة سياسية للمعارضة ان تقرر بنفسها حدود التعامل معها حسب مصالح القضية الوطنية، وعليها ايضا ان تتحمل مسؤولية خياراتها الاستراتيجية. 

 

​- في إطار السنوات الماضية، ما تحليلك لأهداف الدول المتدخلة في النزاع السوري كل من، روسيا، تركيا، السعودية، قطر، إيران، الولايات المتحدة؟

- ليس هناك دولة تتصرف بدافع آخر غير الدفاع عن مصالحها الوطنية أو السعي لتعظيمها. وهذا ينطبق ايضا على الاحزاب والحركات السياسية. لا تتصرف الدول بدافع الخدمة الانسانية والهداية الدينية، حتى عندما تدعي انها دينية. لذلك ليس هناك معيار للتعامل مع الدول المتدخلة وغير المتدخلة، عربية او أجنبية، سوى تقاطع المصالح أو تعارضها. هذا يعني اولا انه ليس هناك موقف مسبق من أي دولة، ويعني ثانيا أن تدخلات الدول ليست متساوية بالنسبة للمعارضة والثورة. لا يمكن للمعارضة أن تساوي بين موقف ايران التي تدعم بكل قوتها الديكتاتورية وترسل ميليشياتها لقتل الشعب السوري وموقف بلدان الخليج العربية التي تقدم المساعدة لقوى الثورة والمعارضة، مهما كانت حدود هذه المساعدة. لكن اذا قبلت ايران بتغيير موقفها والقبول باحلال نظام ديمقراطي يعبر عن ارادة الشعب السوري مكان نظام الاسد الدموي المتهاوي فلن تتردد المعارضة في التعامل معها. هذا هو منطق العقل والحس السليم، ولا بديل عنده بالنسبة لأي حركة سياسية تحترم نفسها وشعبها وتاريخها.

 

​- ولماذا تحولت الأحداث في سوريا من نزاع أو أزمة داخلية لأزمة دولية؟

- أعتقد ان الاجابة عن هذا السؤال موجودة في الجواب الأول

 

​- يقال إن هناك دول ومن بينها الولايات المتحدة لا تريد حل في سوريا، لأن النزاع السوري كغيره من نزاعات الشرق الأوسط سبب رئيسي لرواج تجارة السلاح الأمريكي في المنطقة بعائداته الكبيرة، فما رأيك بهذا الخصوص؟

-لا أدري من هي الدولة التي تريد أن تنهي النزاع في سورية. هل هي اسرائيل أم ايران أم الجامعة العربية المشلولة. في الوضع الذي وضعت الثورة والشعب السوري فيه، وهو منع الانتصار لأي طرف، الجميع يساهم في استمرار الحرب، لأن أحدا لن يقبل من الدول المنخرطة فيها بأن يسلم أو يستسلم ويقبل بهدر الاستثمارات الكبيرة التي وضعها فيها، المادية والسياسية والدينية. ولا يشذ السوريون أيضا عن ذلك. فالنظام ومن يقف معه أصبحوا خارج اي تسوية محتملة بسبب حجم الجرائم التي ارتكبوها ولا ينقذهم في اعتقادهم إلا الهرب إلى الأمام والسعي بأي ثمن لسحق الثورة واخضاع الشعب وتحطيمه حتى لا يسأل احدا عما حصل، أما الشعب، بقواه المسلحة والسياسية المعارضة فلا يعني وقف المقاومة بالنسبة له إعلان الاستسلام فحسب وإنما خسارة ملايين الضحايا ودمار البلاد من دون فائدة، والقبول بتسليم رقبته لنظام اجرامي لن يتردد في محاسبة وقتل كل من لفظ كلمة ضده او قاومه.

لن تقف الحرب إلا بتسوية دولية تضمن للشعب السوري ان لا تذهب تضحياته هباء منثورا، ويؤمن الجماعات والطبقات التي وقفت مع النظام على حياة ابنائها وحقوقها ومستقبلها. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون خروج الاسد وحاشيته واركان حربه التي شنها ضد الشعب. هذا هو الثمن الذي لا محيد عنه لفتح باب التسوية والسلام في سورية وبين السوريين.

 

​- تشعر أن الأوضاع في المنطقة تحولت إلى صراع بين السعودية وإيران، هل حقيقة هكذا؟ وهل تحولت الأزمة السورية إلى فقط صراع سني شيعي؟

- هذا كلام تبسيطي ولا أخلاقي في الوقت نفسه. لا السعودية ولا بلدان الخليج الاخرى ولا تركيا ولا أوروبة وامريكا وروسيا في وضع الهجوم على الاراضي والمصالح الايرانية. العكس هو الصحيح. ايران هي التي تهاجم المصالح العربية عندما تشعل حربا طائفية في أكثر من دولة عربية وتسعى الى فرض الوصاية على عدد من الأقطار العربية، وترسل ميليشياتها وتمولها من كل الجنسيات علنا لقتل الشعب السوري. السعودية كبلدان الخليج الاخرى في موقف الدفاع عن النفس، ولا ينبغي للخلاف السياسي او الايديولوجي مع هذا النظام أو ذاك ان يلغي التحليل الموضوعي ويلغي واقع ما يحصل. ومساواة المعتدي والمعتدى عليه لا يساعد على حل المشكلة ووقف الحرب، بالعكس إنه يشجع على استمرارها.

في جميع الأحوال ليس في سورية حتى اليوم صراع سني شيعي. هناك عدوان من قبل الميليشيات الايرانية الطائفية على سورية، وصراع من قبل أكثرية الشعب السوري ضد نظام فاسد واجرامي بصرف النظر عن العقيدة الدينية لقادته، وهم ليسوا علويين فحسب، بل ليس لمعظمهم علاقة بالدين وأي عقيدة او مبدأ، لكن لا يوجد نزاع سني شيعي سوري. وحتى في ما يتعلق بايران، ليست الطائفية سوى أداة في حرب جيوسياسية هدفها تنصيب ايران كدولة قوة مهيمنة على الشرق الاوسط كله على حساب الدول العربية، وبدوافع قومية لا تزال تحلم باستعادة دور الامبرطورية الساسانية التي قضى عليها العرب المسلمون.  وفي اعتقادي ليس للدين اليوم أثر كبير على سلوك الدول والجماعات، حتى المتدينة منها. وليس هو الذي يحدد غاياتها واهدافها، لا في المشرق ولا في أي مكان في العالم. الدين اصبح مجرد قناع.

 

- ما رأيك بزيارة الرئيس الأمريكي إلى السعودية والحديث عن تحالف في مواجهة الإرهاب وانتقاد تلك اللقاءات الشديد لإيران؟

- لا أرى في هذه الزياة وما نجم عنها اي جديد. إنها تكرر اخطاء العرب التاريخية التي تراهن على الحماية الاجنبية بدل بناء قاعدة الامن والسلام الذاتية، التي كانت تقتضي في حالتنا بناء الاتحاد او التحالف العربي وتوفير الأموال الفائضة في الخليج وغيره من أجل دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتأهيل ملايين العرب والارتقاء بمستوى علمهم ومعيشتهم، بما في ذلك تأمين وسائل الدفاع الذاتي عن السلام العربي، وتطوير صناعة عربية كما هو الحال في الهند والصين وتركيا وغيرها من الدول، التي أصبحت مهمة اليوم بسبب نجاحها في خطة التنمية وحفاظها على سيادتها واستقلالها وقوة حمايتها الذاتية. وحجم العرب ووزنهم في المنظومة الدولية ليس أقل من حجم تركيا أو ايران. وكان عليهم ان يقيسوا انفسهم بالهند والصين، ويتنافسوا معهم في استيعاب التقدم التقني والعلمي والصناعي، لا أن يقبلوا بتعميم النموذج الأفغاني أو الصومالي كما هو حاصل وسيحصل اكثر على عموم الاقطار العربية.

 

- وهل تعتقد أن المنطقة مقبلة على إعادة ترتيب الأوراق والتحالفات بوصول ترامب وتعزيز علاقته بالسعودية؟

- هي قادمة حتما بوصول ترامب او من دونه. ولا أعتقد ان وصوله سيغير الكثير من قواعد اللعبة. وربما يكون ضرر سياساته اكثر من نفعها إذا نجم عنها تشجيع العرب على العودة إلى المراهنة على الحمايات الأجنبية، وتأجيل قائمة الاصلاحات الجذرية : السياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤجلة منذ عقود في البلاد العربية.

 

- هل تخشى على سوريا التقسيم، وخاصة أن هناك أطروحات قدمت بهذا الخصوص؟

- نعم، الكل يتحدث اليوم عن التقسيم لأنه يعتقد ان هذا هو الطريق الوحيد للاحتفاظ بمنطقة نفوذ أو بمصالح ليس من الممكن ان تستمر اذا استعاد الشعب السوري سيادته وسيطرته على مصيره. لكن هذه مرحلة انتقالية، وهي مرحلة تنامي الأوهام وغياب الحسابات الواقعية وحتميات ومعطيات الجغرافية والتاريخ العنيدة أيضا. سورية سوف تعود لشعبها بصرف النظر عن الصيغة التي سيختارها لتنظيم شؤون حياته الادارية والسياسية.

 

- هل ترى أن المنطقة تقترب من حل نزاعاتها ومشكلاتها؟ أم ماذا؟ ولماذا في الحالتين؟

- المنطقة ستغرق أكثر في نزاعاتها ومشكلاتها لأنني لا أرى أي بوادر اصلاحية جدية لا في الدول الاقليمية الكبرى ولا في الدول العربية. لكن هذا لا يعني بالضرورة استمرار الحرب السورية إلى ما لا نهاية. على الأغلب سوف تنتقل بؤرة الازمة إلى بلدان أخرى.

 

​- فكك لنا هذه المعادلة، هناك من يقول أن أمريكا ودول أخرى وراء ظهور تنظيم "داعش"؟ وهناك أطراف تقول إن إيران وراء "داعش"، وفي كلا الحالتني الكل يدعي أنه يحارب الإرهاب وداعش، فما ريك في هذا الجدل؟

- داعش شركة مساهمة مغفلة، الجميع له اسهم فيها، اي انه استمثر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر ولا يزال. وهي ثمرة تقاطع مصالح وتلاقح شبكات امنية وغير امنية ولدت مسخا حقيقيا متعدد الاوجه والهويات. لكن هذا لا يمنع أن لهذا المسخ دماغ خاص به، وأن للشركة المساهمة مجلس إدارة شبه مستقل عن هذه الدول وله رئيس، يقرر ايضا ويطمح إلى تأسيس مشروع خاص به، وهو مشروع الدولة المسخ، أيضا، الذي اصبح مهددا الآن. لكن خسارته مشروع الدولة لن يضع حدا لوجوده. ستولد مسوخ أخرى في حرب عالمية لا تنتهي طرفاها الجيوش الجديدة التكنولوجية من جهة والتنظيمات الارهابية الموزعة في مختلف بقاع الارض والتي تلعب على عنصر المفاجأة المباغتة، تماما كما أرادها قادة الدول الكبرى من جهة ثانية، لتبرير النفقات العسكرية الاسطورية، وإشغال الرأي العام العالمي عن مشاكل الفقر والبؤس والجوع والقتل والديكتاتورية وانعدام الأمل والمستقبل  التي لم يعد من الممكن حلها او حتى التحكم بها. هذه لعبة الحرامي والشرطي التقليدية لكن في شروط دموية لا تقارن.

 

​- ما الأغراض والأهداف التي يراد أن يحققها تنظيم "داعش" في سوريا؟ ومتى يمكن أن تكتب النهاية لذلك التنظيم؟

- اراد ان يستغل الفوضى التي احدثتها التدخلات الاجنبية المختلفة وانحسار سلطة الدولة وليحقق وهم العديد من الحركات الاسلامية المتطرفة المتجسد في  بناء دولة على نمط الدول التي كانت قائمة قبل ١٤ قرنا، باسم الاسلام، اي إمارة بدائية قائمة على العنف والقهر والغزو والنهب. واستفاد من تشجيع من بعض الأطراف بما في ذلك النظام السوري والايراني، الذين كان لهما مصلحة كبرى في ان يدفعوا به لاستعادة السيطرة على الاراضي الواسعة التي كانت قد سيطرت عليها كتائب الثورة السورية، وشجعته انتصاراتها السريعة على كتائب لم تلق اي دعم وحرمت من السلاح الذي يقدم اليوم بكرم بالغ للنجاح لفترة في تحقيق هذا المشروع الوهم. وفي اعتقادي انتهت مهمة داعش في العراق بعد ان حققت ايران هدفها بالاستفراد بالسيطرة عليه، وانتهى دوره ايضا في سورية بعد ان شتت المعارضة واضعفها واحتل اراضيها. ولم يعد يخدم احد. لذلك سوف يزول كدولة. لكن ذلك لا يعني انه سيزول او يختفي نهائيا.  هناك الكثير من الدول واجهزة المخابرات التس سوف تتلقف عناصره وتجندهم في مشاريعها الاستراتيجية الجديدة. وهكذا سوف يحافظ على وجوده ولن يموت.

 

​- ما رأيك بخصوص ما سمي "الربيع العربي" بعد هذا الدمار الذي لحق بدول كبيرة في المنطقة العربية، ألم يكن الوضع في السابق أفضل من الآن؟ هل يمكن أن تندم الشعوب التي تحركت على ضد أتظمتها على هذه الخطوة؟

- هل سمعت السوريين الذين قتل ابناؤهم بابشع الطرق الوحشية وشردوا في مختلف بقاع الارض بالملايين يظهرون ندمهم على خروجهم ضد نظام الاسد الجائر؟ أبدا. بعض أصحاب المصالح المستفيدين من نظم القهر نعم، هم نادمون وغاضبون من الثورة وناقمون على جمهور الشعب الفقير والمقهور الذي فجرها. لكن الشعب لن يفعل ذلك ابدا، اولا لأن الثورة أعادت له الاعتزاز بنفسه والثقة بانسانيته بعد أن حاول الاستبداد إذلاله وإفقاده الشعور بكرامته، وثانيا لأنه اكتشف قدراته وتجرأ على المخاطرة بحياته، وتجاوز عجزه، بعد خنوع طويل. فالقبول بالظلم والاهانة يكاد يكون اكثر فتكا بالانسان وتدميرا لروحه وهويته من الموت. وثالثا لأنه أصبح شعبا حرا، وهو شعور لا تعادله اي مشاعر أخرى، ولا يدرك معناه سوى من عانى حياة العبودية والقهر ثم خرج عنهما، ولا يهم بعد انتزاع هذه الحرية واسترجاع الانسانية في أي شروط مادية يعيش وأي مخاطر يواجه. هذا ثمن الحرية والبرهان على نجاحه في انتزاعها من نفسه قبل انتزاعها من جلاده. الندم يعني النكوص الى الماضي وخيانة الذات وعهد الحرية الجديد والعودة إلى جحيم العبودية، أي الإدانة الذاتية والانتحار.

 

​- لماذا تحولت أحداث الربيع العربي إلى الصورة الحالية، من أمل في الديمقراطية والحرية إلى الحديث عن إرهاب وتطرف وعمالة وخلافه، تحول من صورة وردية إلى صورة قاتمة؟

لأن التحالف بين جبهة العداء للشعب الداخلية وجبهة العداء للعرب وانعتاقهم وخروجهم من انقساماتهم وضعفهم وتخلفهم الاقليمية والدولية لا يزال قويا. وتنبع قوته من حجم المصالح الاستراتيجية وغير الاستراتيجية التي تجمع بين هذه الاطراف وتجعل من دخول الشعوب العربية الى الساحة السياسية، ساحة الحرية، وميادينها، والتحكم بمصيرهم والاستخدام السليم لمواردهم، خطرا داهما عليها ونهاية لحكم التبعية والاستبداد والفساد الداخلي والخارجي. الشرق الاوسط، والمشرق منه بشكل خاص، كان ولا يزال منذ تشكيل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى ثم تصحيحه في الثانية من اكثر المناطق حساسية من الناحية الجيوسياسية والاستراتيجية، وزاد عليه تبوؤه مركزا كبيرا في صادرات الطاقة. وقد بقي تحت سيطرة الدول الكبرى خلال الفترة السابقة بأكملها، وهذا ما حوله إلى مسرح رئيسي من مسارح الحرب الباردة والذي ابقى فيه على هذه الحرب الباردة حتى بعد زوالها في المناطق العالمية الأخرى.  وقد كان تفجير الازمات وإدارتها هو الاسلوب والمنهج الرئيسيلإدارة المنطقة منذ ذلك الوقت، ومنعها من توسيع هامش مبادرتها وسيادتها النسبية والخروج من نظام التبعية. هنا ممنوع على الشعوب ان تتحرر وتكون سيدة، لأن المصالح العليا للدول الكبرى تحتاج إلى نظم تطبق سياساتها ولا تحيد عن الأجندة الخارجية التي تضعها لها الدول الوصية والحامية. هذا يفسر العنف الذي واجهت به قوى الثورة المضادة المحلية والدولية ثورات الربيع العربي.

لكن، بعكس ما يبدو الآن للكثيرين، لن تكون هذه الثورات  في اعتقادي سوى الموجة الأولى من سلسلة ثورات لن تنتهي قبل قلب الاوضاع راسا على عقب. فمن المستحيل لشعوب نمت على كل المستويات، بما فيها الفكرية والسياسية  والديمغرافية، كما حصل مع الشعوب العربية، ان تقبل بنظم تتعامل معها كأطفال قصر ولا تبدي تجاهها اي احترام أو مسؤولية. وبدل ان يتحول المثال السوري الى رادع في درجة دمويته ووحشية النظام المرتد على شعبه، سوف يكون درسا للشعوب العربية عن خطر الاستسلام لحكم الديكتاتورية وتلسيمها شؤون المجتمعات ومصيرها. أرادت النظم الاستبدادية أن تلقن شعوبها من خلال  المثال الدموي السوري درسا في ثمن الحرية الباهظ وغير المحتمل، لكن الشعوب ستتعلم منه بالعكس الثمن الباهظ الذي يكلفه ترك شؤونها ومصير الدولة لنخب مارقة وفاسدة غريبة عنها ومستعدة لابادتها في اي لحظة تشعر بالخطر على مصالحها، مهما كان محدودا. المستقبل لن يكون لصالح الديكتاتورية  أبدا. هذه سنة التاريخ.

 

- ما رأيك في تطورات الأحداث في مصر، وهل يمكن القول بأنها أقل الدول تأثرا بما وقع في المنطقة؟

- على السطح فحسب.

 

​- ما رأيك بخصوص رغبة الأكراد في إقامة دولة لهم أو حكم مستقل؟ ومن يساندهم في هذه الفكرة؟

​ - من السابق لأوانه  تقرير مصير سورية اليوم او توقع كيف سيكون. لكن الكرد السوريين سوف ينالون حقوقهم العادلة مهما كان وضع أخوانهم في الاقطار الأخرى، مثلهم مثل جميع ابناء الشعب السوري العظيم.

 

- ما رأيك بخصوص الأزمة القطرية ومقاطعة دول خليجية وعربية لها؟ وما مدى انعكاس تلك الأزمة على الأزمة السورية؟

- أي خلاف بين الدول العربية يؤثر سلبا على القضية السورية، والخلاف بين بلدان الخليج العربي هو الأكثر ايذاء لهذه القضية. خاصة وأنه يأتي في ظرف بالغ الحساسية في تقرير مصير سورية وشعبها. وأملنا أن يتوصل أخواننا في قطر وبقية بلدان الخليج إلى حل من داخل مجلس التعاون الخليجي يحفظ لهذا المجلس وجوده ووحدته ودوره الكبير الذي نحتاج إليه في الحرب الكبرى الجارية منذ سنوات على تقرير مصير المنطقة بأكملها.

والواقع إن أزمة دول مجلس التعاون الخليجي المتفجرة تعبر عن الوضع المأساوي الذي يشهده العالم العربي بأكمله، حيث لا يبقى أمام النخب التي رفضت سبل الحوار أو تخلت عنها، وابتعدت عن منطق السياسة ووسائل التشاور والمفاوضات إلا الانتحار الجماعي لمواجهة الخلافات التي تعجز عن حلها، والتي تتفاقم بمقدار ما تحل لغة التهديد والعنف محل اللغة السياسية وتنعدم امكانية التفاهم والتوصل إلى تسويات دائمة وقابلة للحياة. هذا هو أصل المشكلة للأسف داخل الدول القائمة بين الحاكمين ومحكوميهم  وفي ما بينها ايضا.