أين نحن من نهاية الصراع في سورية؟

2017-07-29 :: أنابرس

أنا برس/ محمد فرج

 

الأزمة الخليجية: سؤال تكرر مرتين من قارئين مختلفين، بخصوص تحليلكم للأزمة الخليجية، ومستقبل مجلس التعاون الخليجي في ضوء ذلك. وهل تعتقد بأن دول المقاطعة محقة في مقاطعتها ومحقة في مطالبها أم لا؟

- الأزمة الخليجية ضربة كبيرة لمجلس التعاون الخليجي الذي كان حتى القريب حجر الزاوية في استراتيجية المقاومة العربية للزحف الايراني. فتح معركة جانبية داخل هذا المجلس اليوم، في الوقت الذي تخوض فيه شعوب المشرق، وشعوب الخليج على رأسها، حروبا متعددة ودموية ضد التوسعية الايرانية، لا يمكن إلا أن يضعف الجميع ويلحق أضرارا لا حدود لها بمصالح العرب، ودول الخليج كافة.

ليس لنا نحن السوريين خيار سوى مناشدة اعضاء المجلس جميعا العمل من أجل تجاوز الخلافات وتحكيم منطق الحوار والتفاهم والبحث عن التسويات التي توحد الصف العربي وتأييد جميع المبادرات التي تسعى لذلك، والبحث عن حل يرضي جميع الاطراف. ليس المهم في هذه الحالة التركيز على من لديه الحق ولكن على من يملك الحكمة، ويسعى إلى وضع حد لنزاع لا يخدم استمراره أي طرف من الاطراف ويضر كثيرا بالقضية السورية التي يشكل الصراع عليها اليوم محور صراع السيطرة على المنطقة بأكملها.

 

إدارة ترامب: كيف ترى دور الإدارة الأمريكية في المنطقة؟ وهل هي جادة في عمليتي "مكافحة الإرهاب ودحر التنظيمات المتطرفة"؟

- حتى الآن لم يتبلور خط واضح ورؤية بعيدة المدى لأهداف السياسة الامريكية في المنطقة، وتبدو الإدارة الجديدة مترددة بين استغلال أزمة المشرق لابتزاز العرب من دون شعور بالمسؤولية تجاه مستقبل شعوبهم، واستخدام الحروب المشتعلة فيها من أجل تأكيد نفوذها ودورها. لكن لا شيء على الإطلاق يتعلق بمصير المنطقة وشعوبها. ومكافحة الارهاب التي تشارك فيها واشنطن والطريقة التي تتبعها في ذلك حتى الآن تبدو قصيرة النظر ولا تاخذ بالاعتبار مستقبل هذه المنطقة.

فالبرغم مما يردده الخبراء والمحللون السياسيون من انه لن يكفي لدحر التنظيمات المتطرفة القضاء العسكري عليها أو إضعافها عسكريا، وأنه لا يمكن كسب المعركة ضد الارهاب من دون النجاح في ايجاد حلول سياسية لأزمة المنطقة التي تقوض استقرارها وتفجرت توازناتها من جهة، ولأزمة الدول والمجتمعات التي استغلتها هذه التنظيمات للفتك بشعوبها كما تفتك الجراثيم بالجسد الضعيف والمتهافت. لا يكفي ان تشارك الدول ومنها الولايات المتحدة في دحر داعش وإنما لا بد من ايجاد مقاربة سليمة أيضا لهذه المكافحة، تقضي على داعش وعلى امكانية تفريخها في صورة تنظيمات متطرفة جديدة أو إرهاب أكثر خطرا وخبثا. من دون ذلك يمكن لحل مشكلة الارهاب الراهن أن يولد مشاكل وربما حركات إرهاب أكثر شراسة وقدرة على المقاومة.

لذلك لاينبغي ان نضع جميع رهاناتنا على المبادرات الأمريكية وإنما أن نطور نحن انفسنا استراتيجياتنا التي تنسجم مع أوضاع مجتمعاتنا وتهدف إلى تمكينها من مقاومة التطرف وتحصينها بمناعة فكرية وسياسية قوية تجاهه. وهذا يحتاج إلى توعية فكرية وثقافية بالتأكيد، لكن قبل ذلك إلى إصلاحات سياسية جذرية في أساليب حكم الشعوب العربية.

 

القضية الفلسطينية: هل تعتقد بأنه بمقدور ترامب أن يسهم في تحريك عملية السلام التي أظهر اهتمامًا بها؟ وما الذي يمكن أن تفعله الإدارة الأمريكية في هذا الملف؟

- لن تفعل شيئا سوى استمرار الكذب على العرب والفلسطينيين.

 

الإسلام السياسي: كيف ترى تأثير دور فصائل "الإسلام السياسي" في المنطقة رغم ما تتعرض له؟

- دور متناقض لكن بالإجمال والمحصلة سلبي جدا. فما من شك أن التعبئة الدينية التي يتقنها قد عززت روح المقاومة لقوى البطش والقهر التي يستخدمها النظام ضد الانتفاضة الشعبية السلمية. لكن في المقابل حرفت هذه التعبئة الانتفاضة عن أهدافها الوطنية والمدنية التحررية وأدخلت كفاح السوريين البطولي في الحيط، بسبب ما تمسكت به من أوهام حول إمكانية إقامة ما تسميه دولة اسلامية أو بمرجعية اسلامية، أو لدى بعضها أيضا خلافة اسلامية.

فعدا عن وصف الدولة بالاسلامية لا معنى له لأنه أصبح من المستحيل تحديد هوية الدولة بالدين اليوم، ولا يمكن مطابقة حدودها وحدود الجماعة الدينية، فإن شعارها لا يمكن إلا أن يقسم المجتمع، حتى لو لم يكن فيه طوائف متعددة، ذلك أنه لا يمكن الاجماع على تفسير واحد للدين فما بالك مع وجود طوائف متعددة تشعر أن هناك محاولة لاستبعادها وإقصائها. بالاضافة إلى أن ارتباط مفهوم الدولة الاسلامية باستخدام العنف واحيانا بالارهاب قد فصل انتفاضة السوريين عن العالم كله، ووجه ضدها كل القوى الخائفة من عودة اشكال الاضطهاد الديني الذي عرفته مجتمعات القرون الوسطى، في الداخل والخارج.

إن وصم الانتفاضة الشعبية بالاسلاموية كانت هي استراتيجية النظام الذي أراد أن يطمس الوجه التحرري للثورة ويمنع عنها تعاطف العالم وتضامنه. قسم كبير من قيادات من يسمون أنفسهم بالاسلاميين كانوا يعرفون ذلك، ويدركون الثمن الباهظ للمناداة بدولة إسلامية أو سلطة إسلامية، لكنهم استمروا في هذا الاتجاه وبالغوا في تأكيده، إما مكابرة أو لجهالة تشعرهم بأن الاتكال على الله يغنيهم من البحث في الأسباب والتفكير في سد الذرائع أو، في حالا كثيرة، لاختراق صفوفهم من قبل مخابرات النظام وتوجيه حركتهم من الداخل من دون أن يدركوا ذلك.

 

الدور الإيراني في المنطقة: ماذا بعد الاستيطان الفارسي في أهم ثلاث حضارات (حلب، وحمص، والموصل)؟ حسب نص السؤال.

الوصول إلى ضفاف المتوسط والحصول على ممر إليها حلم قديم راود بناة الامبرطوريات الفارسية منذ أقدم العصور  ولم يخمد. وليس له علاقة بالاسلام أو بخصوصية المذهب الشيعي. فايران كانت دائما قوة قارية كبيرة لكنها محصورة ومحرومة من استغلال قوتها وممارسة نفوذ وتأثير إقليمي وعالمي. لكن في كل مرة حاولت فيها عبور الفرات نحو الغرب انتهت مغامرتها بالفشل وعادت أدراج الرياح. وهذا سيكون أيضا مصير محاولات الانزراع في المنطقة العربية. هي كالجرثوم يفتك بالجسد الضعيف. لكن عندما يتعافى الجسد لا يبقى للجرثوم الخبيث أمل بالبقاء ويموت في أرضه. لكن ما من شك أن هذا الحلم الايراني التاريخي قد كلفنا غاليا وسوف يكلفنا اكثر في السنوات القادمة، فهو كالمسخ المتعدد الرؤوس والمنفلت يضرب في كل الاتجاهات من دون تفكير، ولا يدفعه ما يلقاه من مقاومة إلا إلى مزيد من العنف والتخبط والتدمير.

 

المحور الثاني (أسئلة خاصة بمستقبل سوريا)

الانتقال السياسي: سؤال تكرر أكثر من مرة من قبل أكثر من قارئ لكم  (جنيف إلى أين؟ ما مستقبل محادثات جنيف إن لم يلتزم النظام بالانتقال السياسي؟) – (ما مصير الأسد دكتور وفي أي مرحله إلى الزوال؟)

منذ البداية كان من الواضح ان المفاوضات الحقيقية تجري خارج جنيف وان جنيف كان لإخراج الاتفاق لو تم. لكن لم تكن هناك في الواقع اية مفاوضات. جنيف كان مقصودا منه وضع الأطراف أمام بعضها وانتظار نتائج الحرب أو الموازين العسكرية وتكريسها في مجال التسوية السياسية. لكن الامور سارت نحو التعقيد بدخول قوى اقليمية ودولية متعددة للميدان وعجز النظام وايران والروس عن الحسم العسكري السريع كما كانوا يتصورون، وغياب سياسة سورية حقيقية امريكية في عهد باراك اوباما وتخبط سياسة الرئيس الجديد دونالد ترامب. لا ينبغي أن ننتظر من جنيف شيئا ما لم يحصل اتفاق حقيقي واضح بين الأطراف الدولية، وفي مقدمها بين الروس  الذين اعترف لهم الغرب بالأسبقية في سورية والامريكيين. وما يعرضه الروس الذين فوضهم الغرب واعترف لهم بالأسبقية في سورية ليس خطة لتسوية مقبولة كما رسمتها قرارات مجلس الامن، وإنما عمليه ترويض للسوريين ليتخلوا عن الثورة وشعاراتها ويقبلوا بإصلاحات جزئية وعملية تجميل للنظام القائم، مع وجود الأسد أو من دونه. أما الامريكيين فليس لديهم أي خطة واضحة وقابلة لتحقيق التوافق وللتطبيق. لذلك لم ينضج الحل السياسي بعد. الخطة الراهنة اذا كان من الممكن الحديث عن خطة هي سياسة النصف خطوة وتجميد الجبهات والتخفيف من القتل بانتظار التخلص من داعش والنصرة، ووقف القتال نهائيا وإطلاق مفاوضات بمشاركة الاطراف السورية، ربما العام القادم للوصول إلى حل لم ترتسم معالمه بعد. 

بالنسبة للأسد يدرك الجميع، بما فيهم روسيا وايران، أن بقاء الأسد يعني غياب الحل. وغياب الحل يعني الابقاء على عناصر الأزمة والحرب والارهاب واللاجئين، وترك الجرح فاغرا ومعرضا لكل انواع التقيح والالتهاب. من دون ترحيل الأسد لن يعود ملايين السوريين إلى بلدهم، ولن يستقر الحال الامني، ولن يمكن إعادة بناء مؤسسات الدولة، ولا إطلاق عجلة الحياة الاقتصادية، ولا بدء عملية اعادة الاعمار. وبوجوده لن تستقر المنطقة التي استنزفت وسوف تطرح على المجتمع الدولي والدول الكبرى تحديات غير ممكن تحمل مواجهتها. لكن الأسد سيبقى ورقة رئيسية في المقايضة القادمة، وخاصة في يد طهران وموسكو اللتين لن تتخليا عنه من دون مكاسب مقابلة وبالنسبة لروسيا ليس في سورية فحسب ولكن خارجها أيضا.

 

مستقبل سوريا: (سوريا إلى أين؟)- (سؤالي متى نخرج من دوامة الصراع الدائر؟)- (لوين منا نوصل بقا؟) - (قالو إن الأزمات تطول عشرة أعوام وها نحن على أبواب سبع سنوات وبقي ثلاث سنوات، هل هذا يكفي لنا أن نرجع إلى بلدنا؟!).. إلخ.

- الحرب بالمعنى الحقيقي للكلمة انتهت. وما تبقى هو محاولة لحصار النار المشتعلة منذ سبع سنوات. لكن ما لم يحصل بعد وما يعطل التوصل إلى حل هو التوافق على سورية مابعد الأسد. هذه هي المشكلة. وهي ليست مشكلة للدول المعنية بالحفاظ على مصالحها في المنطقة فحسب، وإنما للسوريين أنفسهم الذين لم يقتربوا بعد من التفاهم على هوية البلاد وقواعد حكمها وحقوق ساكنيها، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية والجهوية. طبعا الأسد يعتقد أنه المنتصر وأنه سيستعيد سلطته، لكن هذه اوهام.

سيكون تطبيع الحياة في سورية بطيئا لكنه ابتدأ منذ الآن بمواكبة السعي لتخفيض درجة العنف والصراع. وهذا لا يمنع أن الصراع سوف يستمر ولو بوتيرة أبطأ ومتباطئة أكثر. وسوف يبدأ المستعجلون من النازحين واللاجئين ممن لا يخشون انتقامل كبيرا من النظام أو يتعرضون لمخاطر التجنيد القسري والملاحقات السياسية بالعودة تدريجيا. ولكن الأفضل أن تكون العودة في إطار اتفاق تشرف عليه الامم المتحدة وتضمنه الدول الكبرى حتى يضمن العائدون حقوقهم ويتجنبوا مخاطر التشبيح والتشليح وغياب حكم القانون الذي أصبح جوهر سياسة النظام وقاعدة الحكم، السياسي والمدني، فيه.

 

مسار الثورة السورية: (سيادة الدكتور من هو المسؤول عن فشل الثورة، هل هم الشعب السوري أم السياسيين السوريين أم القاده العسكريين؟)  (الثورة في أي مرحلة يا دكتور؟)-

- الثورة لم تفشل بالضرورة إذا عرفنا كيف نستخدم الرصيد العظيم الذي تركه لنا مئات آلاف الشهداء وملايين الرجال والنساء والأطفال الذين ضحوا بكل شيء من أجل تأكيد حقهم في الحرية والتحرر من نظام القهر والاستعباد. انتزاع السلطة ليس هو الأساس، بالرغم من أهميته لتسريع بناء النظام الجديد ونشر قيم الثورة واعادة توحيد الشعب. المهم ان مجمل المناخ السياسي والقانوني والأمني والثقافي الذي كان سائدا من قبل والذي قام عليه البناء العنصري لنظام البعث وعلاقاته مع المجتمع وعلاقات المجتمع بين طبقاته ونخبه، قد انهار تماما. وان قيما جديدة وثقافة جديدة وعلاقات جديدة قد نشأت بين الأفراد والجماعات والمناطق والطبقات والنخب والجمهور. اليوم هناك سورية جديدة تولد وتظهر من تحت الأنقاض بالرغم من كل شيء وتجد نفسها في تناقض كامل ليس مع قواعد عمل النظام وقيمه وسلوك قادته فحسب وإنما مع قيم وسلوك قيادات المعارضة التي نشأت في حضن هذا النظام وحملت الكثير من ثقافته ومناخاته. الثورة الحقيقية، أي السياسية، بدات الآن. وفشل انتزاع السلطة بالقوة العسكرية لن يؤثر في تقدمها وربما سوف يعزز أكثر تحرر الفرد وانكبابه على بناء عالمه الداخلي والذاتي.

بالتاكيد خسر السوريون الجانب العسكري من الصراع، وتشترك في مسؤولية هذه الخسارة أولا المعارضة بمختلف تكويناتها السياسية والعسكرية، وعجزها عن تشكيل قيادة وطنية موحدة، والتفاهم حول برنامج وطني ديمقراطي يجمع السوريين، وثانيا الدول التي ادعت الصداقة للشعب السوري من دون أن تقدم له الوسائل الضرورية للنصر وثالثا المجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة الذي استسلم لمنطق القوة ولم ينجح في تفعيل مواثيقه وقراراته.

لكن خسارة المعركة العسكرية لا تعني خسارة المعركة السياسية.

فقد انجبت سنوات الصراع الطويلة روحا تحررية لن يمكن لأي حكم أو مستبد أن يتعايش معها، وحررت جيلا من الشباب وأطلقت طاقات لن يستطيع اي حاكم بعد الآن أن يحتجزها ويخرس أصوات أصحابها. ومهما حاول نظام الأسد أو من سيخلفه من نظم الفلول التي ستفرض من قبل الدول الكبرى، فإن معركة الحرية سوف تستمر بوسائل أخرى، وما على قادتها الجدد سوى إعادة ترتيب أوراق قوى التغيير وتوحيد صوتها وبرنامجها لهيلكة المجتمع السياسي السوري الذي كان النظام القمعي الدموي قد حوله إلى رميم.

 

المعارضة: (لماذا المعارضة فشلت في إظهار نفسها كممثل للشعب السوري؟ ولماذا المعارضة لم تفكر منذ بداية الثورة في الاعتماد على نفسها وعدم الاعتماد على الدول الداعمة. لماذا لم تعمل المعارضة على إنشاء أي ورقة ضغط تكون لصالحها في المفاوضات)- (ما أخطاء المعارضة التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه الآن؟)- (دكتور برهان هل هناك أي مشروع لتوحيد موقف المعارضة السياسية وماهي النظرة المستقبلية لها؟).

- فشل المعارضة ناجم عن انقساماتها التي كانت هي نفسها ثمرة القمع الطويل والتلاعب بالافراد والجماعات من قبل النظام وقتل الثقة بين ابناء الشعب عامة. وهذا الفشل لا يخص المعارضة حصرا. إنه يعكس ايضا الانسحاب الذي فرضه النظام على عموم الشعب الذي أصبح يهرب من السياسة ويخاف من اي مشاركة فيها ليحمي نفسه من الانتقام، مما ترك الفضاء العام والشأن الوطني حكرا على أصحاب الحكم وعصاباته المنظمة في مظهر دولة، وهم في الحقيقة مافيا معادية للدولة والمجتمع معا وقائمة على أشلائهما.

في ما يتعلق بمسألة الاعتماد على الدول الداعمة فلا أعتقد أنها هي المشكلة. بالعكس لا يمكن لثورة أو لمعارضة أن تواجه تحالفا مثل التحالف الثلاثي، الذي لا يحرم ولا يحلل كما نقول، الذي واجهته الثورة السورية من دون تحالفات مقابلة. وعقد التحالفات هو أهم أدوات السياسة. وفي عالمنا اليوم ليس هناك معارك معزولة أو مستقلة عن البيئة الاقليمية والدولية، فإذا لم تدرك أنت تفاعل المصالح وتبحث عمن تلتقي مصالحهم معك ولو جزئيا، سوف تضع نفسك خارج العالم وتخسر قضيتك منذ البداية.

أما الأخطاء الكبرى للمعارضة فهي الانفصال بين القيادات العسكرية والسياسية، وانقسام هذه القيادات ذاتها على نفسها وعلى جميع الأصعدة، وعدم النجاح في تكوين قيادة واحدة وطنية تؤلف بين القوى وتستخدمها حسب استراتيجية وطنية واضحة وبعيدة المدى. بقيت الثورة من دون قيادة تلهم الشعب وتنظم الجهد وترسم الخطط وتراجعها إذا فشلت. وبدل ان يعمل المتزعمون أو المرشحون للزعامة على تشكيل خلية للعمل الجماعي والمنظم على مستوى الجمهورية تحولوا بنزاعاتهم إلى رؤوس متضاربة ومتنازعة وعطلوا جهد ملايين السوريين. أصبحنا كالعربة التي يجرها ألف حصان وكل يشد في اتجاه مناقض أو مخالف للآخر، فبقينا في مكاننا لم نستطع التقدم على طريق تحقيق أهدافنا. باختصار أدى النزاع والانقسام الذي لم نجد له حلا حتى الآن إلى أن القادة حيدوا بعضهم واجهضوا تضحيات شعبهم بدل أن يكونوا قيمة مضافة وسندا له ومعيلا.

وفي مايتعلق بتوحيد المعارضة اقول لن يكون هناك أي أمل في تكوين قيادة وطنية معترف بها وقادرة على أن تقود الشعب خاج هذه الهمجية والفوضى السياسية والجيوسياسية التي نعيشها ما لم ترجع الينا الثقة التي دمرها الاستبداد، بأنفسنا وبالآخرين، وكان تدميرها رأسماله الأكبر الذي راكمه عبر القهر والقمع والقتل والتعذيب لعقود متواصلة.

 

بديل الأسد: (من هو البديل والأجدر والقادر على أن يكون رئيس سوريا إذا تنحى الاسد بإرادته، و هل سيكون قادرا على كل الصعاب مع العلم أن المعارضة نفسها لا يوجد فيها من استطاع أن يبرز أو يحقق أدنى المطالب لأن المعارضة بعيدة عن الشعب السوري")

- ليس المطلوب تبديل الأسد بأسد مختلف. ولن يحل مسألة سورية رئيس فرد مهما كان اخلاصه ووعيه، وقد رأينا كيف تم حرق الرؤساء والقادة قبل أن يتاح لهم ان يتنفسوا في صفوف الثورة ذاتها. المطلوب ان يكون الشعب نفسه هو الرئيس، أي أن يشعر كل فرد بالمسؤولية عن تنظيم الشؤون العمومية، ولا يتركها لأي فرد أو مجموعة بذاتها، وأن ينخرط في العمل الوطني والسياسي ولا يهرب منه، وأن يربي أبناءه على مبدأ الحق والقانون والحرية والكرامة، وأنه ما لم نكن مستعدين، كل واحد منا، للدفاع عن حقوقنا وحرياتنا في كل وقت فلن يقف شيء آمام ظهور حاكم متوحش أو مستبد جلف واحمق يحكمنا كما حصل حتى الآن. بل إن غيابنا او تهربنا من مسؤولياتنا الجماعية، أي السياسية، هو الذي يخلق الرئاسة الاستبدادية بمقدار ما يشجع الحاكم، حتى النزيه والمخلص في الأصل، على الفساد والاستبداد. فالمال الداشر، كما يقول المثل الشعبي، يعلم الناس الحرام.

من هنا، ليس الرئيس الذي يصنع الشعب إنما العكس، الشعب هو الذي يصنع الرئيس بمقدار ما يضمر من فضائل وقيم وطموحات واستعدادات للتقدم والتحرر. فلا يظهر الرئيس البارز إلا عندما تكون هناك بيئة فكرية وسياسية وأخلاقية حاضنة للعمل الجليل والقوي. ما يقوم به الرئيس العظيم وما يجعلن منه عظيما ليس اختلاق قضايا لشعبه وإنما نجاحه في بلورة مشاعر الشعب وميوله وتطلعاته. وليس هو الذي يبدع هذه التطلعات ومشاعر التحرر والتقدم وإنما يتلقفها عندما تكون موجودة لدى الشعب ويعيد ترتيبها بما يساعد على توحيد الجميع وراء شعار واحد وهدف واحد، أي وراءه. وفي ما يتعلق بالثورة السورية، لا شك أنه كانت هناك تطلعات كبرى ومشتركة بين السوريين ما كان من الممكن من دونها تفجير هذه الطاقات العظيمة التي شهدتها الثورة. لكن الذي أعاق بلورتها وحرم الثوة من توليد زعامة واحدة قوية هو تضارب الحلول والطرق والوسائل لتحقيق الأهداف الواحدة، والقطيعة التي أعادت النخبة السياسية الضعيفة أحداثها كما كان الحال في عهد ما قبل الثورة بين إسلاميين وغير اسلاميين وشق صفوف الثورة منذ البداية، والتي ساهم فيها مثقفون وناشطون متوترون وضيقوا الأفق من بين الاسلاميين الحالمين والمنقطعين عن العالم والعلمانيين العنصريين المعادين للشعب والخائفين من الجمهور بسبب احتقارهم لهويته وثقافته.

باختصار، لن يظهر رئيس يحظى بثقة الشعب ويعمل من أجله ولمصالحه العامة ما لم يتحول الشعب باكمله إلى رئيس جمعي، اي كل فرد فيه إلى عضو كامل العضوبة في كيان ورابطة سياسين، يعرف حقوقه ومصالحه ومستعد للدفاع عنها وكشف من يفرط بها. وكونه سيدا يعني أنه صاحب قراره وسيد نفسه لا يقبل ان يكون امعة ولا تابعا ولا سلعة ولا سخدوجا، خاصة بين من نسميهم النخبة الاجتماعية: السياسية او الثقافية أو الدينية أو الاقتصادية أو العسكرية، التي كان تذللها لرجال السلطة الانقلابية وتمسحها بهم وخضوعها الكامل لهم لقاء مصالح ميركنتيلية، سببا رئيسيا في ضياع السيادة والحرية معا. ولن يظهر رئيس نزيه وعادل في مجتمعنا ما لم يصبح احترام القانون فضيلة عمومية، ولن يصبح ما لم يكن منبثقا هو ذاته من إرادة شعبية حرة ومشتركة، ويصبح التمسك بحقوق الآخرين الأقران لا يقل بل يسبق الدفاع عن حقوق الذات وتمحى رذيلة الانانية المقيتة والوصولية والانتهازية التي لا تنمو إلا على أنقاض العدالة والمساواة القانونية والأخلاقية. ولن يظهر الرئيس الحر والسيد، الذي يتصرف كمسؤول عن مصالح شعبه، ولا يقبل التبعية أو إملاءات الدول الأجنبية، إلا عندما تصبح السيادة سمة غالبة على الشعوب نفسها، ومعنى السيادة أن تكون هذه الشعوب مصدر السلطات والتشريعات والحقوق بالفعل، ويصبح المساس بهذه الحقوق العامة تهديدا لوجود الشعب نفسه، أي للتضامن والتكافل الذي يجمع بين أفراده ويجعل منهم أقرانا ويبني علاقة أخوتهم السياسية في ما وراء الاختلافات الفكرية والمادية. وإذا لم ينجح الشعب في أن يكون رئيسا، أي سيدا حرا، مصدر التشريع وصاحب السلطة والحق، لن يبق هناك خيار سوى أن تقوم السلطة على الشوكة والقهر، وتصبح جائزة أو غنيمة يفوز بها الجسور من الطامعين بالملك والمجد، سواء استخدموا لشرعنتهما الشكلية عقيدة دينية او سياسية.

 

إدلب: (ما مصير إ دلب؟)- (من سيحكم إدلب)؟

- للأسف وجود من ادعوا قدومهم لنصرة الشعب السوري هم اليوم السبب الأول في تهديد حياة ادلب والادلبيين. خطر تدمير إدلب كأخواتها من المدن السورية لا ينبغي استبعاده. والحل الوحيد هو خروج عناصر النصرة من المدينة وتسليمها لإدراة محلية وفصائل الجيش الحر الوطنية لتجنب هذا التهديد، وفتح المجال أمام تحويلها إلى منطقة وقف إطلاق نار وتخفيض التصعيد. بعد سبع سنوات من التجريب بالناس، لم يسقط مشروع الإمارات "الاسلامية"، التي تكرس سلطنة شخص باسم الدين، في نظر العالم وحده ولكنه سقط أيضا وقبل ذلك في نظر الشعب السوري ذاته. ولا يمكن ان ينقذ الثورة أو بالاحرى رهاناتها إلا إعادة بناء الدولة وتحرير الجمهورية من تسلط أمراء الحرب الذي يشكل نظام الأسد أمهم الولادة والمرضعة.

 

المواقف الدولية من الأزمة السورية: (في ظل المشهد الحالي، برأيك دكتور ما الذي جعل كثير من المواقف العربية والدولية تنقلب على الثورة السورية؟) – (هل تركيا دخلت سوريا امتثالا للخطة التي قسّمت فيها الدول العظمى سوريا أم دخلت لمساعدة السوريين أم لمطامع ثانية؟).

- ينبغي أن نقول أن أول المسؤولين هو نحن بمقدار ما أسأنا إدارة سياستنا ولم نظهر ما يكفي من النضج لردع المجتمع الدولي عن استهتاره بحقوقنا وتركه الدول تتقاسم مصالحنا وتبني مناطق نفوذها الخاصة على حساب الدولة السورية، والمسؤول بالدرجة الثانية هو المجتمع الدولي الذي تخلى عن التزاماته وفي مقدمها الحكومة الامريكية التي تمثل أقوى قوة عسكرية وسياسية على وجه الأرض، مما شجع أعداءنا في طهران وموسكو وغيرهما على الانخراط بشكل أكبر في العدوان، ورفع سقف طموحهم، وفي الدرجة الثالثة أصدقاءنا أو من وضعوا انفسهم هذا الموضع، في أوروبة والعالم، وربطوا إرادتهم بإرادة الدول الكبرى وواشنطن خاصة، وأحبطوا نتيجة غياب الخيارات الامريكية والدولية وتراجعوا. أما العرب فلم يكن لهم أي وزن نوعي للأسف بسبب انقسامهم وتخبط سياساتهم وقبولهم التهميش والتبعية في حقل الصراعات والعلاقات الدولية.

 

تخفيف التوتر: دكتور برهان ما رأيكم في اتفاقيات تخفيف التوتر؟ وهل أصبح التقسيم مطلب شعبي للخلاص من الواقع المأساوي ومامصلحة تركيا من اتفاق الجنوب؟

- تخفيف التوتر هو جزء من استراتيجية إخماد الثورة بتحويلها إلى بؤر محاصرة وفرض التسوية السياسية من موقف القوة لصالح الدول المنتدبة، وروسيا في المقام الأول. لكن في غياب دعم دولي واضح، وفشلنا في تشكيل قيادة وطنية واحدة عسكرية، وربط القيادة العسكرية بقيادة سياسية، لا تزال غير قادرة على الانبثاق بعد رغم سنوات الحرب السبع، لم يعد هناك خيارات كثيرة. لذلك من المفيد الحفاظ على ما تبقى من قوانا الحية والتفكير وعدم السماح بهدرها في معارك جانبية لن تغير شيئا من المعادلة والتفكير فيها من منطلق توفير الطاقات القائمة وما تبقى من حاضنة شعبية لها، من أجل التحضير لمواجهات المرحلة القادمة التي ستكون بالأساس معركة سياسية حول مستقبل النظام السياسي والدستور واعادة الاعمار السياسي والمادي.

أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال فلن يكون التقسيم مطلبا شعبيا حتى لو أنه دغدغ بعض قطاعات الرأي العام الاكثر طائفية وانعزالية. لكن ليس هناك أساس قوي للتقسيم لا داخلي ولا خارجي، في نظري. فكلفة التقسيم على الجميع أكبر من الاحتفاظ بوحدة الدولة.

 

التقسيم: سؤال تكرر أكثر من مرة (هل وقعنا في فخ التقسيم)؟

- لا أعتقد أن التقسيم مشروع مطروح بالفعل. المطروح هو تفكيك الدولة المركزية وتفريغها من قوتها، وخلق كيانات محلية ذات درجة كبيرة من الاستقلال الذاتي ترضي النخب المحلية وتحول دون نشوء نخبة وطنية ذات تطلعات سياسية وجيوسياسية قوية. أي إضعاف تطلعات سورية وطموحات شعبها، والتمهيد لرسم مناطق نفوذ دائمة للدول المتنازعة، وبشكل خاص الروس والامريكيين.

إن العمل لمواجهة هذه النزوعات وتاكيد سلطات أكبر للدولة الوطنية النازعة إلى تطوير البلاد بأكملها وتكوين أمة حية متفاعلة وفاعلة على حساب التوجهات الهوياتية المنطوية على نفسها والمشجعة على توارث الزعامات العائلية أو الدينية للقيادة الاجتماعية من جهة، وعدم السماح للامركزية الايجابية والمطلوبة أن تتحول إلى حامل للانتدابات الاجنبية ينبغي أن يكون أحد المحاور الرئيسية للعمل الوطني ولقادة المعارضة في هذه المرحلة.

 

اللاجئون: (نتمنى طرح سؤال للدكتور برهان ليتحدث عن وضع اللاجئين في لبنان وضرورة فتح طريق لهم إلى تركيا ومن ثم إلى المناطق المحررة أو الحديث مع أردوغان بلكي يلغي الفيزيا للشعب السوري لأنو العالم عم تنهان بلبنان وذل وتسلط)- (ماهومصير اللاجئين السوريين في تركيا واأردن ولبنان وأوروبا في حال اﻻتفاق وشكرا؟).

- اللاجئون أصبحوا مشكلة دولية لا يمكن حلها إلا بالتعاون بين الدول، وفي إطار التوصل إلى حل للقضية السورية التي يقع في صلبها وجود نظام مفروض بالقوة ومدعم من قبل بعض الدول الأجنبية القوية تكريسا لمصالحها القومية والذي أصبحت معادلته عدمية:  النظام أو الشعب، ولا يمكن أن يجتمعا. بمعنى أن وجود النظام يلغي الشعب ووجود الشعب يلغي النظام. ولا يمكن حل مشكلة اللاجئين من دون ايجاد الحل للقضية السورية ككل حتى لو امكن عودة أعداد قليلة منهم في بعض المناطق. أما لاجئوا لبنان فهم، أكثر من ذلك، يعيشون حالة مضاعفة من الإعدام، إعدام النظام لهم كشعب وإعدام حزب الشيطان لهم كلاجئين يتناقض وجودهم مع مشروعه في احتلال المنطقة الحدودية بشكل دائم وتحويلها إلى منطقة عمليات خاصة به. وهو يضغط على اللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية وفي الوقت نفسه إخضاعهم وإجبارهم على طاعته والعمل لصالحه. ولا أعتقد أن تركيا، مهما كان تعاطف اردوغان مع مشكلة السوريين، تقبل بأن تضيف مليون لاجيء جديد إلى الملايين الثلاث الذين لديها، في الوقت الذي بدأت تظهر في تركيا ايضا مشاعر معادية لهم، كما تفاقمت الأزمة السياسية والاقليمية الداخلية.

في نهاية المطاف المعادلة السورية بسيطة : لن نحقق ما نريد إلا إذا تفاهمنا عليه بوضوح وصار موضع اجماع بسيط لدينا ونجحنا في توفير الوسائل الكفيلة بتحقيقه. نحن اليوم نفتقد التفاهم الواضح والعهد المشترك ونختلف على الوسائل والطرق المطلوبة لتحقيقه. هذا هو لب مشكلتنا، وهو إشكاليتنا الرئيسية في الوقت الراهن وسر تحكم الآخرين بمصيرنا وسبب خروجنا من وطننا وضياع دولتنا.

 

أسئلة أخرى

 (ماذا تفضل بصفتك سياسي مخضرم، أن تكون علاقات بلدك مع أمريكا أو مع روسيا إذا ما تم الاتفاق على مسودة حل توقف أنهار الدماء؟)

- ينبغي أن تكون علاقة سورية حسنة مع جميع الدول التي تقبل التعامل معها على أساس الندية واحترام المصالح المتبادلة.  بسبب موقعها الجيوسياسي المحوري لا يمكن لسورية أن تسمح لنفسها بتقديم مصالح أي دولة أجنبية على حساب الدول الاخرى، ولا أن تقبل بأن يكون هناك أفضلية لأي دولة  ضد الأخرى . وأحد أسباب استمرار الحرب التي تدور رحاها منذ سبع سنوات في بلادنا هو اصرار ايران على الاحتفاظ بسيطرة رئيسية بل منفردة على سورية.

علاقات سورية قوية مع موسكو منذ الخمسينيات وينبغي ان تبقى، ولنا مصالح كبيرة فيها، وروسيا جارة لنا، ولنا تاريخ طويل من التعاون معها في العديد من المجالات، لكن الولايات المتحدة أيضا دولة عظمى ومؤثرة لا يمكن أن نتجاهل وجودها ومصالحها في المنطقة، ولنا مصلحة كبرى أيضا في التعاون معها للتوصل إلى حل وإقامة حكومة شرعية منتخبة في بلادنا وضمان استمرارها. مذهب السياسة الوطنية السورية في العلاقات الخارجية الدولية ينبغي أن يكون الحياد الايجابي والتعاون مع الجميع على اساس المنافع المشتركة ورفض أي املاء أو استتباع أو سياسة محاور مما كان حتى الآن احد الاسباب الرئيسية لدمار وطننا.

 

د.برهان، قوة الموقف السياسي تتبع لمن يمتلك فوهة مدفع اكبر.. هل توافقني على ذلك؟

- هذا صحيح على سبيل التبسيط. فمن المؤكد ان صاحب المدفع الأقوى يفرض إرادته، لكن ليس صحيحا ان القوة هي العامل الأهم في بسط السلام والاستقرار وإقامة النظم الفاعلة والمنتجة والمستقرة. قد تكون الخيارات الصحيحة في السياسة اهم من المدفع القوي. وقد يكون التعلق بالقوة على حساب السياسة، وبالتالي العقل والحكمة، سببا في الخسارة الكاملة. وهذا هو حال النظام السوري الذي خسر كل شيء رغم قوة مدفعيته، واضطر إلى تسليم أموره للدول الأجنبية. وهذا هو السبب الذي دعا كلاوزفيتز إلى أن يكتب جملته المشهورة : الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى. ومن قبل كتب شاعرنا الكبير المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هي أول ولها المكان الثاني.

السياسة قد توفر كثيرا من العنف، وتفتح آفاقا لا يمكن للعنف أن يفتحها. أعتقد أن أكبر خطر يواجهنا نحن المتعرضين باستمرار لعنف متزايد وقهر مديد، أي لضحايا العنف، هو أن نسقط في عبادة العنف وتقديسه واعتباره المخرج الوحيد لنا. وهو ما بدأناه مع الحركات التي يدور فكرها بأكمله على إدارة التوحش والعنف. العكس هو الصحيح. العنف المنفلت وغير المؤطر بسياسة عقلانية وأخلاقية معا خطر علينا قبل أن يكون خطرا على أعدائنا. سورية الأسد تقدم لنا أفضل مثال.

 

إسرائيل: دكتور برهان، لقد حاولتم جاهدا محاورة الدول العربية والغربية من أجل الثورة السورية، لماذا لم تتحاوروا مع إسرائيل التي بيدها بقاء بشار الأسد أو رحيله؟


- سؤالك نفسه يستبطن الجواب. كيف يمكن وضع أملنا في إسرائيل للتخلص من نظام أهم أسباب وجوده هو ضمانه مصالح اسرائيل ومساعدتها على تفكيك قوى المقاومة الفلسطينية الوطنية؟ وكيف يمكن التفكير بأن إسرائيل يمكن أن تفضل نظاما ديمقراطيا يمتلك فيه الشعب السلطة والقرار، وهي واثقة من أنها لن تستطيع السيطرة عليه وضبطه، وتتخلى عن نظام فردي أخرق لاتحتاج من أجل إخضاعه وتشغيله أجيرا لديها سوى إلى ضربات قليلة ومحدودة توجهها له من وقت لآخر لتفهمه وزنه وحجمه. وهذ ما يفسر تعايش جميع الأنظمة وفي مقدمها النظام السوري معها وقبول سطوتها وهيمنتها.

كان من الممكن بالتأكيد نيل تأييد اسرائيل إلى جانب المعارضة لو أظهرت هذه الاخيرة استعدادا للعمالة أكثر مما أظهره النظام القائم. لكن في هذه الحالة لن تكون المعارضة معارضة، ولن تستطيع التمسك بالديمقراطية، ولن تكون الثورة ثورة كرامة ولا حرية، ولن تعيد المزاودة في العمالة بناء الوطنية السورية التي دمرتها الخيانة الأسدية.

ثم هل ضحى المتظاهرون السوريون بأرواحهم من أجل استبدال نخبة بنخبة أخرى للقيام بالوظائف نفسها التي كان يقوم بها نظام الأسد؟ بعكس ما يتصوره بعض السذج منا، اسرائيل هي العدو الاول للديمقراطية في البلاد العربية، وإذا لم نفهم ذلك سنفشل في فهم قوة مقاومة النظم الاستبدادية التي لا مهمة لها، ثمن البقاء في السلطة، سوى تحييد الشعوب وشل إرادتها وحماية مصالح اسرائيل والدول الكبرى. بمعنى آخر الحفاظ على الحكومات الديكتاتورية الدموية التي عرفها المشرق العربي هو مصلحة اسرائيلية، وهذا أحد العوامل الذي يفسر استمرار هذه الانظمة في منطقتنا واطلاق يدها في العنف الواقع علينا ومعاناتنا غير المسبوقة في الأعوام الاخيرة للتخلص منها.

الثورة ثورة لأن الوصول إلى السلطة ليس غاية بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق غايات سياسية وأخلاقية كبرى نبيلة في مقدمها ضمان العدل والحرية والمساواة والندية، مما يشكل جوهر كرامة الانسان وشرفه في الوقت الحاضر.  تجييرها لأهداف أخرى يعني خيانتها، وتحويلها إلى مصدر جديد لحروب أهلية لا تنتهي.

ليس هناك بد من فتح مفاوضات جدية مع الاسرائيليين للخروج من المواجهة المستمرة منذ قرن تقريبا. إنما ليس الآن، وليس في الحالة التي تعيشها المعارضة والنظام معا، ولكن عندما تكون هناك قيادة وطنية ممثلة فعلا للشعب وقادرة على أن تكون ندا للحكومة الاسرائيلية، وتتصرف تصرف رجال دولة، ومن منطق الدفاع عن مصالح الشعب والدولة السوريتين، وبالتالي تحظى بالاحترام والصدقية. عندئذ تدرك اسرائيل أن لها مصلحة ايضا في التفاهم والتعاون مع سورية قوية وناضجة وقادرة معا، ومن ثم في احترام حقوق السوريين وسيادتهم على أرضهم والتعامل معهم كشعب محترم ومهاب.

لكن الامر يختلف تماما عندما يتعلق برجالات قيادة متنازعين ومتنابذين، لا يهمهم سوى مصالحهم الخاصة، وهم مستعدون للتخلي عن أي شيء من أجل الوصول إلى السلطة والانتفاع بمكاسبها وغنائمها، ويتصرفون من منطق ملوك الطوائف وشيوخ العشائر وأمراء الحرب، لا يهمهم لا مصير وطن ولا مصالح شعب. مع هؤلاء لا يمكن لإسرائيل أن تتعامل إلا من منطق القوة والغطرسة والاحتقار والاستتباع، ولا يمكن لأي مفاوضات معها في مثل هذه الظروف ان تفضي إلا إلى مزيد من التعالي والتشدد في فرض الأمر الواقع، وفي النهاية إلى تدفيع محاوريها ثمنا غاليا من التبعية والإذعان للحصول على موطيء قدم في عالم العمالة والارتزاق..

 

http://www.anapress.net/ar/articles/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-/233177008951646/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%AF.%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%80-%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D8%B1%D8%B3-:-%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A5%D8%AF%D9%84%D8%A8-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%86%D8%A8%D8%BA%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%87-(2-%D9%85%D9%86-2)/