مع القبس: يقيني ان العالم العربي يعيش عملية ولادة قيصرية

2019-06-29 :: القبس

باريس ـــــ أنديرا مطر

يتذكر برهان غليون، المفكّر السياسي السوري، مشاهد من آخر زيارة له الى سوريا في 2010، وتحديداً الجامع الأموي الذي قصده؛ فرأى أربع مجموعات داخل الحرم: نساء ورجال يوحّدهم اللباس الأسود، ويتوسّطهم رجل يقرأ وينتحب وهم يصرخون. وفي تلك اللحظة أدرك غليون «أن سوريا لم تعد لنا». كان ذلك قبل ان تنفجر الثورة بعام واحد. من الجرح السوري النازف، ولكن المبشّر بولادة جديدة، الى مسائل النزاع الاميركي ـــــ الإيراني وصعود موجة اليمين المتطرّف في أوروبا، جاء حوار القبس مع غليون في العاصمة الفرنسية، حيث يقيم منذ نصف قرن. يبدأ برهان غليون، الذي كان أول رئيس للمجلس الوطني السوري، حديثه بالتمييز بين المعارضة والثورة. حيث اعتبر المعارضة حركات في كل المجتمعات، ووجدت قبل الثورة. اما الثورة فهي انفجار شعبي كبير يتجاوز منطق السياسي اليومي والعادي ويتجاوز منطق الاحزاب والمعارضة وله ديناميته وقواعده الخاصة التي هي اندفاع شعبي لتحقيق اهداف قد تجد صدى لدى النخب المنظمة تقوده وتقدّم له مشروعاً لتغيير سياسي واضح.

وقال غليون ان الثورة السورية هي ثورة شعبية عارمة، انفجرت حين شعر السوريون بأن اللحظة مؤاتية لكسر قيودهم؛ فرموا بأنفسهم في الشارع «يا قاتل يا مقتول». لكنه لفت، في المقابل، إلى أن أهم أسباب فشل المعارضة هو تعدد الأجندات التي اجتمعت تحت برنامج واحد، هو إسقاط النظام. فالأجندة الكردية تطالب باستقلال ذاتي، والإسلاميون يريدون دولة اسلامية، والعلمانيون يطمحون الى دولة مدنية. وقال غليون إن أهم نصر أنجزته الثورة، برأيه، هو تحطيم نظام العبودية، لكنها أخفقت في بناء نظام بديل يجمع فئات الثورة ويوحّدها، مؤكدا ان هذا الأمر اصبح اصعب وأكثر تعقيداً بعد تحوّل سوريا إلى أرض مواجهة إقليمية ودولية. أسباب انحراف الثورة ويفند غليون 4 اسباب لانحراف الثورة السورية عن مسارها السلمي، اولها طبيعة النظام الاجرامي المنقطع عن الشعب والمستعد لاستخدام شتى وسائل القتل للحفاظ على السلطة، ثانيها، تزامن الثورة السورية مع حرب اقليمية، والثالث حدوث الثورة في زمن انهيار النظام الدولي الأحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، اما السبب الرابع فهو فشل الاميركيين في حرب افغانستان والعراق، الذي اختطفه منهم الايرانيون بلعبة مذهبية ايديولوجية. الأسد لم ينتصر

ولفت غليون ان سوريا اليوم أمام نظام متوحش ودولة متوترة، هي ايران، تنفذ من نقاط ضعف الدول المجاورة لتعزيز قوتها، ومجتمع دولي مفكك بسبب انهيار الهيمنة الأميركية، وفي الآن نفسه معارضة سورية بلا عمود فقري خارجة من نصف قرن من حكم مخابراتي عدواني. هل انتصر الأسد؟ كلا، يقول غليون، الذي يرى ان من انتصر هم الروس والايرانيون الى حد ما. لكن المقاومة لم تنته عند السوريين، ليس في مناطق ادلب وغيرها فحسب، بل في أرواح السوريين الذين من المستحيل ان يسلموا لهذا النظام او لنظام شبيه. معتبرا ان لا حل في سوريا الا بخروج الايرانيين.

الثورات المضادة

وفي ما يتعلق بدور الجيوش العربية واضطلاعها بالثورات المضادة في بعض البلدان، ميز غليون المؤسسة العسكرية في الجزائر المتماسكة الى حد ما بسبب تجربة التسعينات المعروفة بالعشرية السوداء، حيث يخشى الجيش تكرار التجربة العنفية عدا عن ان المجتمعين السياسي والمدني أظهرا نشاطاً وتنظيماً لافتين. ويوضح غليون ان معظم الانظمة العربية هيكلها الرئيسي هو المخابرات والجيش. فيما النخب الأخرى: المالية والاقتصادية والمثقفون والقضاة وسواهم هي نخب هشة تمتلك أجندة خاصة بمصالحها الشخصة. اظهرت الثورات ان الدولة العميقة في بلادنا هي أمن وجيش. فالجيوش هي النخبة الوحيدة المنظمة وصاحبة مشروع طفيلي ينهب مقدرات المجتمع، علما ان هذه الفئة لم تعد صالحة لتكون نخبة قائدة، لأنها أوصلت البلاد العربية الى كارثة انسانية. ترامب الأكثر توازنًا وفي اطار النزاع الاميركي- الايراني، قال غليون انه حتى الساعة يسير في منطق المفاوضات، وكل ما يحصل حاليا هو ادوات للدفع باتجاه المفاوضات، سواء بزيادة الضغط الاميركي على الاقتصاد الايراني او بالاستفزاز الايراني للأميركيين. الاميركيون سمحوا للايرانيين بهامش للتخبط قليلا ولن يسيروا باتجاه الحرب لأنها لا تفيدهم بشيء. العقوبات الاقتصادية تخنق النظام الإيراني تدريجياً من دون حرب.

ويستبعد غليون وقوع حرب من دون إلغاء إمكان حدوثها بسبب «خطأ حقيقي»، فالكل يلعب على حافة الهاوية. ولكن الجو العام في المواجهة الأميركية ــ الإيرانية هو تصعيد متبادل للوصول إلى أرضية للتفاوض (على حساب العرب طبعا). وعن سؤاله حول هل يفاقم وجود رئيس أميركي مثل ترامب الخشية من اندلاع الحرب؟ يرى غليون أن العكس هو الصحيح، فترامب هو الأكثر توازناً، لأنه أكبر كابح للحرب. وهو لا يخفي هذا الأمر، مشيراً إلى ان الاستفزازات الإيرانية المتواصلة تؤشر الى فعالية العقوبات الاميركية عليها. وهو يرى أن إيران اليوم مهزومة، وستموت خنقاً أو انتحاراً. ولا يستبعد غليون ولادة تيار إيراني خلاصي ـــ انتحاري، قد يقدم على عمل ما لاستنهاض الشعب الإيراني ورد الاعتبار إليه في مواجهة العقوبات الإميركية الخانقة. الإيرانيون لديهم القدرة على فعل هذا الأمر، أما الأميركيون فيتجنبون الصدام حالياً بانتظار تفكيك الآلة الإيرانية، ليس عسكرياً، بل من خلال اللعب على التناقضات بين أجنحة النظام.

اللجوء والإرهاب

وعن اليمين المتطرف الذي يجتاح أوروبا، وتأثيره على مصير اللاجئين، يأسف غليون لتركيز النقاش الغربي كله حول قضيتين: اللجوء والإرهاب. ويعيد أصل المشكلة إلى كون الأوروبيين، الذين كانوا مركز العالم الفكري والسياسي والاقتصادي، شعروا مع العولمة أنهم عائمون. تتحرك تحتهم تيارات وتتوافد موجات بشرية جديدة إلى بلدانهم. وبعدما كانوا أصحاب إمبراطوريات مسيطرة على العالم يشاهدون نهوض العالم الفقير والمتخلف. وأضاف: «نحن في إطار عولمة عميقة داخل المجتمعات، خاصة الأوروبية، إلى جانب أزمة اقتصادية تعيق تحسين معيشة الأوروبيين، فيما هم مضطرون إلى إعطاء اللاجئين حقوقهم». ولا يستبعد غليون قيام بعض الأوروبيين بردود الفعل ضد اللاجئين، لكن في العمق حركة التاريخ لا تتيح قيام دولة قومية مغلقة على سكانها. مع الوقت سوف تتقبل المجتمعات الأوروبية أن بلدانها ليست للسكان الأصليين فقط، بل لمن يعيش فيها. نظام جديد يتشكل وأخيراً كمعارض سوري، هل أحبطته مآلات الثورات في سوريا وفي العالم العربي؟ على الرغم من كل المآسي لا أشعر بإحباط. يقيني ان العالم العربي يعيش عملية ولادة قيصرية. الجسم القديم الديني والفكري والاجتماعي والعسكري يذوي ويموت تدريجياً ليولد نظام جديد هو قيد التشكل. ثمة سوريا جديدة تولد من شبابها، الذين عاشوا الثورة والحرية، وكسروا قيود القهر، ولديهم القدرة على التحاور فيما بينهم بخلاف النخب المتناحرة السابقة. 

للمزيد: https://alqabas.com/article/5685346-%D8%A8%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D8%B3-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%87%D8%B2%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%AE%D9%86%D9%82%D8%A7-%D8%A3%D9%88-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%A7