الراية القطرية: مخاض الديمقراطية العربية

2006-06-12 :: الراية القطرية

- للراية القطرية الأسبوعية

 

الدكتور برهان غليون استاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السربون بفرنسا واحد من المهتمين باشكالية الديمقراطية في العالم العربي. وهو من دعاة ان ينبع الإصلاح من الداخل. وهو يرفض طرح هؤلاء الذين يروجون للمشروعات القادمة من الخارج والتي ثبت فشلها وعجزها، خاصة النموذج الامريكي في العراق. وعلى هامش مشاركته في المنتدى السادس للديمقراطية والتجارة الحرة بقطر مؤخرا حاورته الراية الاسبوعية حول تقييمه للتجربة الديموقراطية العربية وتاليا حصيلة الحوار:

 

* كيف تقيم ما يبدو انه تجارب ديمقراطية في العالم العربي خاصة في ظل وجود الضغوط الخارجية المتصاعدة والرغبة الداخلية الملحة بهذا الاتجاه؟
* علينا هنا ان نمايز بين امرين: الاول ما تقدم عليه بعض الدول العربية من خطوات بهذا الاتجاه، والثاني تطور حركة النضال والكفاح من اجل تكريس الخيار الديمقراطي. وفي تقديري ان السنوات الاخيرة تميزت في معظم البلدان العربية ببروز انتقادات متزايدة لانظمة الحكم القديمة التي اتسم اداؤها بقدر من التسلط والابوية والشمولية وغير ذلك من اوصاف. واحسب ان ثمة لفظا حقيقيا من قبل الشعوب في المنطقة العربية لهذه النوعية من النظم التي سيطرت على الحكم طوال العقود المنصرمة. وهذا يعكس حالة تقدم باتجاه الخيار الديمقراطي. بمعنى ان الرأي العام العربي بات يطمح الى صيغ مغايرة في إدارة المجتمعات العربية لما كان سائدا في الماضي من صيغ تقليدية وقديمة وبائدة. هذا اولا، اما ثانيا فإن هناك إرهاصات لمجتمع جديد ينمو، أي انه لم تتبلور بعد قوى ديمقراطية نهائية، إنما ثمة بدايات لبلورة هذه القوى على الصعيد الفكري او التنظيمي او السياسي او على صعيد المجتمع المدني والتي من شأنها ان تمهد لظهور تجربة ديمقراطية بالمعنى الكامل للكلمة. وهنا لا يمكن تصور قيام ديمقراطية بدون قوى ديمقراطية سياسية او احزاب واعية وقادرة على ممارسة عملية المنافسة للوصول الى السلطة، واحترام الاراء والتعددية والوصول الى النتائج عن طريق الاقتراع والوسائل السلمية، كما لا يمكن تصور قيام ديمقراطية بدون تطور منظمات المجتمع المدني وتوسيع انتساب الافراد الى هذه المنظمات من اجل الدفاع عن مصالحهم.
ولا شك ان هذا ما يجري الان تدريجيا. وهو ما يجعلني اكرر القول ان المجتمعات العربية لم تدخل التجربة الديمقراطية، وانما هي في مرحلة مخاض يمكن ان يدفع بقوة باتجاه الوصول الى مرحلة الديمقراطية او عكس ذلك، بمعنى ان تستمر المنطقة زمنا أطول في مرحلة الفوضى الراهنة. وللخروج من هذه الحالة يبقى الأمر مرهونا بقدرة النخب السياسية والثقافية على تحمل مسئولياتها وبلورة رؤية جديدة وواضحة ومنسجمة للعملية الديمقراطية، ومدى انتظام الرأي العام في احزاب ديمقراطية حقيقية قادرة على الفعل وتحريك الجمود السياسي الى جانب قدرة الحكومات على الاستجابة لحركة التغيير، وعدم تبني مواقف تقود الى تكسير براعم الديمقراطية الناشئة، بالاضافة الى فعالية القوى الدولية فيما اذا كانت ستتبني سياسات اقليمية تفضي الى نضوج التجربة الديمقراطية ام توسع من قاعدة خوف المجتمع من الفوضى. وبالطبع، كل هذه العوامل لا تخضع لسيطرتنا. ولكن يمكن القول ان المجتمعات العربية تواجه الان مخاضا جديدا باتجاه الخيار الديمقراطى.
 
* على الرغم من الجدل الواسع حول الاصلاح والديمقراطية في العام العربي يبدو انه ليس ثمة استراتيجية للتعامل مع هذه الاشكالية كيف تقرأ ذلك؟
* ليست الأمور مجردة الى هذا الحد. فالنضالات الديمقراطية تأخذ أشكالا ملموسة. فهناك تجمعات تتبلور وأحزاب جديدة تولد وتتشكل، الى جانب قيام جمعيات ومنظمات متعددة تتكون للدفاع عن حقوق الانسان ومناهضة التعذيب والتنكيل بالسجناء. وهي لم تكن قائمة من قبل، وتشهد تناميا. كما ان هناك ممارسات مادية وحية كالاعتصامات والتظاهرات ومختلف أشكال الاحتجاجات للمطالبة باحترام الحقوق وتغيير بعض القوانين وإدانة الاعتقالات وإلغاء قوانين الطوارىء. وكل ذلك يجسد اتساع دائرة المطالبين بالديمقراطية. وهو ما يكرس قيما سياسية جديدة باتجاه الاعتراف بالاخر والتعددية وحقوق المواطنة واجراء انتخابات حرة، باعتبار ان ذلك يشكل اساسا لقيام سلطات ذات شرعية تقود عملية التقدم الاقتصادي والحضاري والثقافي والاجتماعي. ولا احسب ان احدا بات الآن يقف ضد تيار الديمقراطية بالذات على صعيد النخب الحاكمة.
 
* لكن هذه النخب تمارس عكس ما تردده من اطروحات ديمقراطية؟
* قد تمارس عكس هذه الطروحات. لكن قضيتها خاسرة بالتأكيد في ظل تحول منحنى التيار العام في المجتمعات العربية نحو الخيار الديمقراطي، بعد ان ظل سائدا لفترات طويلة على مدى نصف القرن الماضي، القول بان تبني نظام شبيه بالنظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق هو الذي من شأنه ان يحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي ويقود الى حل الصراع العربي الاسرائيلي.
اما اليوم، فان قيما وافكارا جديدة اضحت تهيمن على النخب الثقافية والفكرية. بل ان النظم السياسية اضطرت لتبني توجهات وأطر مغايرة تتوافق مع بروز الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الاكثر فعالية ونشاطا.
 
* من الواضح ان التيار الاصلاحي في العالم العربي يشهد انقساما شديدا بين قواه واحزابه وثمة انشقاقات تشهدها قوى المعارضة الامر الذي يؤثر سلبا على فعاليتها الايخصم ذلك من رصيد الحراك السياسي الذي تشهده دول المنطقة؟
* ليس المطلوب ان تكون المعارضة جبهة واحدة. فهذا يمكن ان يتحقق ضمن اطار الصراع من أجل التغيير لتحسين فعالية قوى المعارضة. ولكن في الممارسة الطبيعية من المفترض ان تكون هناك احزاب متعددة ببرامج مختلفة. ومن ثم فإنه لا ينبغي ان ننظر الى التعدد القائم اليوم - رغم إفراطه احيانا - باعتباره امرا سلبياً. صحيح قد تنشأ احزاب من عدد محدود من الافراد، وتنشق احزاب اخرى الى جماعات صغيرة، الا ان ذلك يعكس حالة المخاض التي تمر بها المنطقة التي لم تكتسب السلوكيات والتقاليد الديمقراطية. وليس من السهل بناء الاحزاب والقوى السياسية والتنظيمات المختلفة. وهي عملية تتطلب متسعا من الوقت والجهد والثقافة والتراكم. ومن ثم فانه من الطبيعي ان تشهد المنطقة انقسامات وانشاقات وإعادة تركيب الأحزاب والتنظيمات القائمة. بل قد تموت أحزاب وتنشأ احزاب أخرى. وذلك في حد ذاته لا يثير أية مخاوف لدى. بيد ان الأمر الأكثر أهمية هو: إلى أي مدى تمتلك هذه النخب الجديدة التي تطمح الى تكريس الخيار الديمقراطي القدرة على تجاوز القيود المفروضة عليها من قبل النظم الحاكمة و لتمد الجسور مع المجتمع والرأي العام الواسع حتى تتمكن بالفعل من قيادته. هذا هو التحدي الهائل في تقديري امام هذه القوى.
 
* يبدو لي ان السلوك الغربي تجاه نتائج بعض العمليات الانتخابية الأخيرة في المنطقة قد يشكل خطرا على التجربة الديمقراطية الناشئة في المنطقة العربية هل توافق على ذلك؟
* بالفعل ان السياسات الغربية منذ أكثر من نصف قرن مضرة بالديمقرطية والقوى الديمقراطية بالعالم العربي. ولا تزال تمارس دورا سلبيا فيما يتعلق بنمو القوى الديمقراطية حتى اليوم. وهنا أنا لا أتحدث عن انتخابات بقدر ما اتحدث عن قوى ديمقراطية، لأنه لا قيمة لأي انتخابات بدون وجود هذه القوى المنظمة والمبلورة في اطر تنظيمية وسياقات فكرية والتي تستطيع وحدها قيادة الجماهير وتوجيه جهودها نحو البناء والتقدم وتجنبها التمردات الانتقامية والتخريبية السلبية. فالديمقراطية ليست رديفا للفوضى ولكنها رديف لتأطير الجماهير، حسب رؤاها ومصالحها وبرامجها المتعددة، من اجل اعادة بناء النظام الاجتماعي على اسس تضمن المصالح المختلفة وتضع القواعد التي تقود المجتمع الى حل تناقضاته وصراعاته بالوسائل السلمية. ولا شك اننا ما زلنا في بداية هذا المسار. اما فيما يتعلق بموقف الدول الكبرى فانني اعتقد ان الولايات المتحدة حاولت في السنوات الأربع الماضية ان تصادر مطالب الديموقراطية من اجل ان تغطي على اجندة لا علاقة لها بقضية الديمقراطية على الاطلاق، أي أن تستخدمها لإضفاء قدر من الشرعية على مشروع سيطرتها وهيمنتها الاقليمية. وكما هو واضح في العراق وغيره من المناطق، تسعى واشنطن إلى تكريس هذه السيطرة من خلال تبني بعض شعارات الحركة الديمقراطية التي نمت خلال العقدين الاخيرين، عبر صراع عنيف مع الانظمة القائمة، سواء عبر مؤسسات المجتمع المدني او حقوق الانسان التي دخلت في معارك قوية من اجل الحصول على رخص تشكيلها، او نشاط النخب السياسية والثقافية التي ساهمت في نشاط هذه المؤسسات او نشوء بعض الأحزاب او الحركات المطالبة بالتغيير والاصلاح ومحاربة الفساد والغاء قوانين الطوارئ. ومن هنا ينبغي ان نفصل نهائيا بين الحركة الديمقراطية النابعة من رفض التسلط ورفض الفساد وإعادة إصلاح النظام الاجتماعي وبين محاولات الدول الكبرى ذات المشاريع الاقليمية لفرض الهيمنة والسيطرة على المنطقة من خلال استخدام شعارات هذه الحركة لتبرير سياساتها. وأحسب أن ما حدث في العراق يؤشر الى فشل هذه الدول الكبرى في تجيير أو استخدام الديمقراطية العربية من اجل اضفاء شرعية على مشروع همينتها على المنطقة.
 
* كيف تفسر هذا التخويف من صعود الاسلاميين الى السلطة او البرلمانات في العالم العربي من خلال آلية الانتخابات سواء من قوى داخلية او قوى دولية؟
* لقد تم استخدام الاسلاميين لفترة طويلة كفزاعة من قبل بعض الانظمة. كما استخدموا من قبل الدول الكبرى من اجل ابتزاز الأنظمة وخلق تحالف بين النخب الحاكمة ومشاريع الهمينة الدولية. لكن ما حدث في السنوات القليلة الماضية ان بعض التيارات الاسلامية - وليس كلها - اتجه الى دائرة التطرف المطلق، مثل القاعدة وجماعة الزرقاوي وغيرهما. وهو ما وظفه الامريكيون على نحو جيد من اجل تضخيم مسألة الارهاب وتبرير العدوان في المنطقة وخارجها، فضلا عن مشاريع الهيمنة الدولية. لكن ثمة قسما من هذه التيارات وجد من مصلحته ان يتبنى طريقا اقرب الى الديمقراطية، وان يعيد النظرفي توجهاته وافكاره، وتحول الى قوى بوسعها ان تلعب دورا ايجابيا في تكريس الخيار الديمقراطي، وليس مجرد فزاعة منه. واظن ان التجربة التركية خلقت املا لدى قطاعات عربية عديدة بأنه بمقدور الاسلاميين، اذا تبنوا برامج معتدلة وقبلوا بالتعددية، ان يكونوا جزءا من نظام ديمقراطي قادم. ولاشك ان ذلك يمثل ارهاصات جديدة داخل الاسلاميين لا ينبغي تجاهل اهميتها. فكل القوى تمتلك القدرة على التطور والتغير والتحول بل والتحسن. وينطبق ذلك حتى على اوساط العلمانيين، وليس فقط الاسلاميين. فهناك فئات متطرفة واخرى معتدلة بينهم أيضا. وهناك تيارات اساسية تتجاوب مع الاحتياجات والاهداف الوطنية للمجتمعات العربية، مثلما أن هناك بعض التيارات الليبرالية الموغلة في تطرفها، والتى تعتقد ان التحالف مع امريكا والغرب هو الاساس لاحداث التغيير.
ان المشهد الفكري والسياسي في العالم العربي ما زال شديد التنوع. لكنه ما زال في مرحلة مخاض. وبالتالي لا ينبغي ان نصادر على تقدمه في المستقبل. وفي الوقت ذاته فانه لا يتعين ان ندينه كليا، أو ان نصفق له بكل اكفنا. وعلينا وحدنا تتوقف مهمة صياغة مسار هذه الحركة. فلا يجب ان نقف متفرجين عليها. وعلينا دائما التمييز بين ما يتفق مع المتطلبات الوطنية، معتدلا كان أو متطرفا، وما ينضوي تحت مشاريع الهيمنة الغربية