في عامها الـ6.. مسارات الثورة السورية ومآلاتها

2017-03-14 :: أخبار الآن

راغب شحادة 

 

زمن ما قبل الحقيقة

سقف السماء مزرقّ قاتم مثل وجه شاة منخنقة ويميل الى الصفرة بفعل القيح الخزين، بقايا بشر في بقايا دولة يعيشون على بقايا وطن، وطن تحكمه منذ عقود هراوات شياطين "الأمن"، وتفوح منه روائح القهر والصديد، يقدم فيه المؤمنون مع كل نفس ولاءهم للشيطان مقابل فتات حياة.

صورة القائد تتدلى على الجدران وعلى تقلبات الطقس وقرائح الشعراء، تحكم الزمن وسرائر الناس وتاريخ الأمة.. ووهمه يعطل المنطق ونواميس الكون، ويغتال أي تفكير ينتاب أحدهم بأن جده السابع له حق في المواطنة، أما الحياة فهي منّة منه على غرار ما تكرّم به النمرود، يلقيها للساجدين أمام عرشه.

رقعة رمادية على الخارطة يلفّها سياج من مفاهيم مركبة، جنون يسبق الوعي، وإيمان يورث الهرطقة، حب يشوه أجنة الورد، وبغض يكسو الوجوه صبيحة العيد.. سوريا وعلى حين غفلة من الدهر صارت ثقب اللامعقول الأسود.

 

زمن الحقيقة

بالرغم من وضوحه، ولكن لمّا تتمكن اللغات بعد من وصف الحدث الذي أصاب في  الخامس عشر من آذار/مارس ذلك الصقع المتصدر صفحة الأرض وكتب الأدب وسيَر الحضارات.. باختصار مريح للكاتب والقارئ.. سوريا تؤرخ لثورة كرامة.

ثورة على مثال القيامة، قيامة تفضّ الأكفان وتوقد الأذهان وترفع ما تراكم من حيف على وجه دمشق وأخواتها، ومع تمام سنواتها الست، لا يجد العارفون بها إذا ما تاهت الأوصاف واختلطت الأوراق إسما لها سوى ثورة، ثورة أوقدها السوريون لتكون نبراسهم بعد ظلمة ودليلهم بعد ضلال..

 

وللحديث أكثر عن مساراتها ومآلاتها وما اعتراها خلال السنوات الفائتة، توجه موقع أخبار الآن الى المفكّر السوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون، رئيس المجلس الوطني السوري الأسبق البروفيسور برهان غليون، والذي أجاب لدى سؤالنا عن الأسباب التي أشعلت فتيل الثورة قائلا:

الشعور بالظلم والقهر هو عصب كل ثورة، يبقى أن الانتقال من الشعور إلى الفعل يحتاج إلى شروط أهمها اثنان، الأول وجود فكرة محرّكة وجامعة تشكل مصدر شرعية وإلهام معا، والثاني طريقة عمل أو آلية تثير الأمل بأن هناك حظوظا قوية للنجاح. 

وأضاف: "في سوريا ليس هنالك حاجة لوصف حالة القهر التي يعيشها الفرد والمجتمع، وتعيشها الطوائف والقوميات والحركات  السياسية، التي فقدت أي أمل في حياة طبيعية منذ عقود، بسبب تكريس السلطة المطلقة للرئيس الأب والرب معا وتقديسها، وتجريد جميع الناس من حقوقهم بصورة قانوية ورسمية، وسياسة التدجين اليومية من خلال إطلاق يد أجهزة الأمن والمخابرات، وبالنتيجة حرمان الناس من شعورهم بأي ذرة من الأمن والسلامة والعدالة والمساواة وحكم القانون.

أي معنى من معاني الوطن الذي يحتمون به ويحققون فيه ذواتهم ويطمئنون فيه على حقوقهم من دون أمن ولا سلام ولا حقوق ولا عدالة ولا مساواة لا يبقى هناك وجود لأي أمل ويتحول الوطن إلى معسكر اعتقال.

سوريا مثلما وصفها كانت بحدودها الجغرافية الكاملة معسكر اعتقال لا يختلف كثيرا عن معسكرات اعتقال النازية، وبعقيدة عنصرية مماثلة تعتبر الشعب رهطا من الوحوش والمتعصبين والمجرمين الذين لا يستحقون سوى الدعس والإخضاع وتقبيل أحذية رجال الأمن" 

وقال أيضا:"صمَتَ السوريون طويلا على هذا الوضع لأنهم كانوا يشعرون أن جميع الأبواب مغلقة أمام تحررهم، وأن العالم كله يقف ضدهم، وقد نجح النظام في إغراق جميع انتفاضاتهم خلال أربعين عاما بالدم.

لكن الأمر تغيّر مع رؤيتهم موجة الربيع العربي التي قدمت لهم مثالا عمليا على الإنتفاض بأمان، أو بنوع من الأمان، وكان ربيع دمشق في السنوات العشر السابقة قد عرف تجربة للكفاح من أجل الحرية والديمقراطية، وكوّن جيلا جديدا من الشبان الذين لم يعرفوا هزائم آبائهم أمام النظام، واعتبروا الديمقراطية بحدّ ذاتها مشروعا بديلا للمشاريع القديمة المفلسة، القومية والإشتراكية.

 

هكذا وجدت الفكرة المحفّزة والملهمة، ووجدت الأليّة التي قدمها الربيع العربي من خلال الثورات الشعبية السلمية، لإشعال فتيل الثورة وتفجير برميل بارود القهر المتروس منذ عقود.

وفي الواقع ما يحتاج إلى تفسير ليس قيام السوريين بثورتهم ولكن العكس تأخرهم سنوات عديدة، وهو ما يفسّره جنون العنف والبطش الذي مارسه النظام لعقود طويلة، والذي سيسفر عن وجهه، بشكل لم يسبق له مثيل، في الحرب البربرية التي أعلنها على الشعب فور نزوله الى الشوارع وحاول كالتونسيين والمصريين، احتلال بعض الساحات والميادين العامة". 

وعن سبل رأب الصدع بين أطياف المعارضة التي أوشكت خلافاتها على وأد أحلام السوريين، يعلق البروفسور"غليون" بالقول: 
ما يوّحد السوريين جميعا، بما فيهم جزء كبير ممن يسمون اليوم بالموالين نتيجة قهر النظام، هو الخروج من معسكر الإعتقال الشامل وتهديم أسواره. 

فيما عدا ذلك لم يترك النظام ثغرة للتفريق بين أبناء الشعب، طائفيا ومذهبيا وجهويا ودينيا وجغرافيا إلاّ وعمل على توسيعها خلال عقود طويلة من أجل بث النزاع والقطيعة بين الناس والجماعات، وقتل الثقة المتبادلة، والانفراد بكل فئة على حدة.

 

فالمعارضة لم تأت من سماء أخرى غير سماء الثقافة والممارسة وطرق التعامل التي أرساها النظام في البلاد، وهي قائمة على تحريض الأفراد والجماعات على بعضها، وزرع الفتنة بينها، وإجبار الأخ على خيانة أخيه، بل خيانة الفرد لنفسه، لينجو من الإنتقام والترويع المخصص لكل من لا يقع تحت حمايات المخابرات. 

لذلك كان من الصعب أن يتحرر المعارضون الذين قضوا معظم حياتهم في القبور، تحت الأرض، أو في الزنزانات لسنوات وسنوات، من عُصاب الخوف من الآخر والشك فيه، وأن يطوّروا بسرعة لغة جديدة للتعامل والتعاون، وثقافة حقيقية للحوار، ويتقنوا منطق التداول وحسم الخلافات بالطرق السياسية، وهم لم يعرفوا السياسة مطلقا.

فما يسود هو منطق الحرب والحسم، أنا المصيب وأنت المخطئ، ولا مجال لأي حوار أو تغيير في المواقف أو تسويات. هذا هو أيضا جوهر سياسة النظام قبل الثورة وخلالها، إما أن أكون قاتلا أو مقتولا. وهذا إعدام كلّي للسياسة والحلول السياسية. 

 

قوى التطرف تهدد مشروع الدولة الديمقراطية السورية 

في هذا المنحى يرى البروفسور "غليون" أن داعش والنصرة، وبالرغم من الضجيج الذي تثيره حولهما الدول الغربية وروسيا، طفرات غير طبيعية، خارجة عن المجتمع والتاريخ، ولا يمكن أن تعمّر طويلا، وليست هي القوى المحددة لمسار الأحداث، ويضيف: "على العكس هي ثمرة السياسات الأصليّة الدموية التي وصفتها آنفا: إعدام المجتمع، وإلغاء أي حيّز للسياسة، وفرض الأمر الواقع على الناس، من دون نقاش ولا إمكانية مراجعة ولا حوار، وهذا هو بالضبط جوهر سياسة داعش والنصرة، "العنف كسياسة، والكراهية كثقافة، والوحشية كعقيدة، والإقصاء أو القضاء على الآخر، المرتد أو الخائن والكافر، كبرنامج عمل للحاضر والمستقبل. 

القصد أن مأزق الديمقراطية لا ينبع من وجود داعش والنصرة الطارئتين على المجتمعات، وإنما من همجية النظام القائم ورفضه الإنتقال من نظم حرب وعدوان وتهديد وترويع إلى نظم سياسية تتعامل مع شعوبها كأطراف أصيلة، واعية وحيّة وذات حقوق، وقادرة على الفهم والتعاون والمشاركة في إدارة شؤونها العامة. 

وتابع قائلا: مثل هذا الإعتراف يفرض على الطغم الحاكمة أن تراعي الحد الأدنى من مصالح شعوبها، وتتفاهم معها على مصالحها الخاصة، والحال أن هذه الطغم المافيوزية تريد السطو الكامل على كل موارد البلاد والدولة وتحولهما إلى مزرعة خاصة للأقارب وأبناء العصبيّة والمحاسيب. "الديمقراطية لا تقوم إلا بالاعتراف بالمحكومين كطرف أصيل، ذي أهلية وشرعية وصاحب قرار. وهذا يعني وضع حد لفرعنة الطّغم الحاكمة وخروجها الكلي على العرف والأخلاق والقانون".

 

ملامح الحلّ  بعد سلسلة "جنيف" واجتماعات "أستانة" 

وعود خلّبية يتلقاها السوريون في أروقة السياسة الدولية والتي بدا جلّها من خلال تماهي الأغراض واتفاق المصالح بين الدول الراعية لمؤتمري جنيف وأستانة بالرغم من اختلافها المعلن، وبهذا الصدد يقول البروفسور"غليون":

"سلسلة مفاوضات أستانة وجنيف لا تقود إلى حل لقضية السوريين الأولى والوحيدة وهي الديكتاتورية الدموية والحكم من خلال تعميم المجازر وإسالة الدماء وقتل المعارضين والمختلفين تحت التعذيب في سجون أطلقت عليه منظمة العفو الدولية اسم المسالخ البشرية.

وبالعكس فإنها تسعى إلى الابقاء عليها لاستخدامها لحسابها الخاص، وتبرير تقطيع سوريا إلى مناطق نفوذ للدول المفترسة التي استغلت مأساة الشعب السوري، وتريد اغتصاب حقوقه وفي مقدّمها سيادته على أرضه، وإعادة تشكيل البلاد والنظام بما يحرمه من أن يستعيد حريته واستقلاله وعافيته. 

هي تريد أن تخلق من سوريا رجل مريضا يبرر لها اعتلال صحته البقاء على الأرض السورية وانتزاع ملكيّتها الحقيقية منه، وتحويلها إلى قواعد بريّة وجويّة وبحريّة تستخدمها في سياسة السيطرة وتعزيز المواقع وفي مواجهاتها الجيوسياسية والعسكرية.  

 

المعارضة السورية توصيف من وحي الواقع..

يقول البروفيسور "غليون": ليس لدى المعارضة في وضعها الراهن أي نقاط قوة تذكر، إنها بقرة خائرة تقودها الدول التي تدعي انقاذها إلى الذبح.

ولن تستطيع أن تخرج من محنتها هذه إلا بعودتها إلى الشعب، ولفظها لهوَسها الأيديولوجي من أي نوع كان، والتفكير في تنظيمه وتعبئته ليتمكن من حمل قضيته واسترجاع حقوقه وتحرير بلاده. وهذا يستدعي ثورة فكرية كاملة على المسلمات والترّهات والأوهام التي رعاها وغذّاها نظام الإستبداد خلال العقود السابقة والتي حبست السوري، الفرد الإنسان، العاقل والفاعل، في سجن العصبيات الأيديولوجيّة والسياسية، وفرضت عليه التماهي مع روح قطيع هو نفسه من دون روح.

تجد اليوم في سوريا قطعانا من كل الأصناف، يساري ويميني وقومي وضد القوميّة وإسلامي وعلماني وعسكريتاري وسلموي، يتنازعون على لا شيء، لكن ما لا تعثر عليه في أي مكان هو السوريّ، ومن الطبيعي أن تغيب سوريا بغيابه.

لقد قتلت روح القطيع حرية الفرد واستقلاله وأصالته وكرامته واحترامه لنفسه وعقله وبالتالي قدرته على المبادرة والفعل. وعندما ننقلب على روح القطيع ويكتشف كل سوري الإنسان الحر، المستقلّ والقادر على التفكير من رأسه، لا تبقى هناك حاجة لمعارضة، "لأن جميع السوريين يتحولون آنذاك إلى أحرار".

 

الثورة السورية في عامها السابع

فيما يلي وصف لثورة السوريين المجردة من عوالق السياسة على لسان البرفيسور"برهان غليون" والذي يتسق مع فهم إنسان الشارع لها وإيمانه بها، وصف يترجم ما ثبت على رخام الأوابد، أوابد سوريا العتيقة، وفي وجدان من شرّعوا صدورهم لبرد اليقين أوحرّ الرصاص..

 "غليون": الثورة  السورية غرسة سحريّة عميقة في قلوب وأجساد جميع السوريين الذين عاشوا القتل والعنف المنظّم والذلّ والهوان، بينما كان طغاتهم يستهزئون بهم وينكرون إنسانيتهم، والعالم يتفرج عليهم منتظرا الّلحظة التي يستطيع فيها أن ينتزع شيئا من الفريسة التي ترفض موتها وتقاوم، كما لم يقاوم أي شعب قاتليه والساعين لموته والشامتين به من أهله وجنسه، من قبل. وستظل مدفونة في القلب بانتظار أول قطرة مطر وشعاع شمس. 

 

كلمة أخيرة

لم تكن كلمة البرفيسور"غليون" التي أنهى بها هذه المقابلة، مستطيلة مزخرفة الحواشي، إذ اكتفى بالقول "إن الكلمة الأخيرة لم تكتب بعد، بانتظار أن يلفظ نظام القتل والدم أنفاسه الأخيرة"