دون الخروج من نظام القمع والفساد لا يوجد أي أمل لدى القوى العلمانية والليبرالية في استعادة نشاطها وتأثيرها

2010-10-21 :: موقع “مرافئ”


برهان غليون أستاذ علم الإجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس دكتوراه في العلوم الإنسانية وأخرى في علم الإجتماع السياسي واضع العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسية : بيان من أجل الديمقراطية – مؤسسة الأبحاث العربية/بيروت- المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات/ الطليعة بيروت- مجتمع النخبة /معهد الإنماء العربي / بيروت , إغتيال العقل / المركز الثقافي العربي /بيروت , حول الدولة والدين د . سمير أمين . إضافة الى العشرات من المؤلفات والدراسات .وقد إتصل الزميل ( حيدر وسام ) المشرف على موقع “مرافئ ” العائد للمجلس العراقي للسلم والتضامن بالمفكر برهان غليون وكان معه هذا اللقاء :


* بصفتك مفكر وكاتب له دور بارز في التعاطي مع الموضوعات المختلفة وإبداء الرأي الموضوعي بما يطرح من أفكار وآراء … كيف تنظرون الى أو تقيمون مفهوم ” صراع الحضارات ” المتداول من قبل بعض المفكرين وأبرزهم “صموئيل هنتغتون ” وأين تكمن نقاط التعارض بين ثقافات الشعوب المختلفة ؟ وكيف يمكننا التعاطي مع هذه الفكرة أو المفهوم في تعاملنا مع الآخر وفق صيغة أخرى يبلورها مفهوم مختلف هو “حوار الحضارات” الذي تتطلع له الشعوب من أجل تحقيق السلام العالمي ؟
* خلق انهيار المعسكر الشيوعي، وزوال الاتحاد السوفييتي الممثل له، فجوة كبيرة في الايديولوجية الدفاعية لنظام السيطرة الغربية في العالم. فقد كان العداء للمعسكر الشيوعي وما يمثله من القيم السلبية الوسيلة الرئيسية لدفع الجمهور الغربي الواسع إلى تأييد السياسات الأطلسية الهجومية والالتحاق بها من دون نقد ولا تساؤل، وبالتالي تبرير هذه السياسات والنفقات العسكرية الباهظة المرتبطة بها. والنجاح، انطلاقا من ذلك، إلى إقناع الرأي العام الدولي بأن السيطرة الغربية على العالم ليست أخلاقية فحسب لأنها تحول دون انتصار الشر، ولكنها حتمية أيضا، ولا يمكن التراجع عنها من دون تعريض مجتمعات الغرب ونظمها الديمقراطية وهويتها وثقافتها وقيمها وأسلوب حياتها اليومية للخطر الماحق.
وكان من الطبيعي أن يقود انحسار خطر هذا المسخ التاريخي الشيوعي وزواله من الوجود إلى تصاعد المواقف النقدية إزاء السياسات الهيمنية الغربية، تماما كما كان من المنتظر لزوال الحرب الباردة ومتطلباتها أن يقود إلى تراجع النفقات العسكرية وتنامي فرص التفاهم والتعاون الدوليين لتحسين شروط حياة المجتمع الدولي برمته ومعالجة أقسى مشكلة يعاني منها النوع البشري، أعني الفقر الذي يرزح تحت وطأته أكثر من مليار نسمة.
بيد أن مثل هذه التوجهات لم تكن تتضارب مع ما طبع السياسات الغربية والدولية عموما في القرنين الماضيين من حروب ومواجهات جعلت من تبني مبدأ الاستعداد للحرب وكسب النزاعات المحتملة القاعدة المثلى لتجنب حدوثها فحسب وإنما مع مصالح واسعة ونافذة ارتبطت بعقود طويلة من سيطرة مناخ المواجهة والحرب الباردة، وفي مقدمها مصالح المركب الصناعي العسكري وبيرقراطية الدولة والجيش ومؤسسات الدفاع الإقليمية والعديد من القوى السياسية التي تتحالف معها.
وهكذا ما كان من الممكن ترك الاتحاد السوفييتي ينهار من دون السعي، من قبل هؤلاء، عن عدو جديد يبرر الاستمرار في السياسات الهجومية ذاتها التي تضفي المشروعية على السيطرة الغربية على العالم وتبرر استمرارها. وقبل أن تبدأ أي حركة إسلامية باستخدام العنف على أي نطاق خارج البلدان الاسلامية، وجد أنبياء السيطرة الغربية في رفع العالم الاسلامي والعربي إلى مستوى الخصم التاريخي والحضاري الرئيسي للغرب، سياسة وحضارة واقتصادا معا، المرتكز الوحيد لتمديد مناخ الحرب الباردة وتبرير سياسات السيطرة الغربية.
وهكذا شكل تشويه صورة العرب والمسلمين واستفزازهم خلال أكثر من ربع قرن مادة حرب باردة عالمية حقيقية لن يتأخر منظروا السيطرة الغربية عن إعطائها إسمها الجديد الخاص، الحرب الحضارية والصدام بين الثقافات. ومنذ ذلك الوقت يمكن القول إن الحرب أصبحت سجالا بين المسلمين والعرب من جهة، والنخب الغربية اليمينية التي سعت ولا تزال إلى جر العالم بأكمله إلى تأييد موقفها العدواني والعنصري من الجهة الثانية.
في هذا السياق استعادت ايديولوجية تبرير السيطرة الدولية والسياسات الأطلسية الهجومية اللغة والشعارات ذاتها التي كانت تستخدمها ضد الاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة السابقة. فركزت وسائل الإعلام الغربية على الأخطار المتعددة التي يمثلها العالم العربي والاسلامي الذي يخضع في نظرها، مثله مثل الاتحاد السوفييتي السابق، لثقافة مناقضة في قيمها للثقافة الغربية الحديثة ومعادية لها، سواء في ما يتعلق باعتماده العنف في علاقاته مع الخارج واستلابه لمنطق القوة ومراكمة وسائل وأسلحة الدمار الشامل أو في محاولاته المستمرة لتفجير الأزمات الدولية والحروب الإقليمية أو في دفاعه عن نظم سياسية لا ديمقراطية تسمح للمغامرين من الحكام الديكتاتوريين والطغاة من التلاعب بالجماهير ودفعها إلى العداء المجاني للخارج ولكل ما هو أجنبي في سبيل حرف انتباهها عن مشاكلها الداخلية التي التي تتسبب فيها سياسات أنانية ولاعقلانية.
وجاءت الحركات الجهادية الاسلامية التي تستخدم الإرهاب والخطف وقتل الرهائن كوسائل للضغط على الدول الغربية، في أوضاع المواجهة القائمة في أكثر من مكان، لتكرس الاعتقاد الواسع الانتشار اليوم بأن عالم العرب والمسلمين لا يفهم إلا لغة القوة والعنف وإنه يفتقر إلى ثقافة التعايش والتفاهم والحوار والتفاوض التي هي لغة العصر ومصدر بناء إجماعات دولية لم يكن المجتمع الدولي في أي حقبة أكثر حاجة لها منه اليوم. هذا هو الاصل في ولادة نظرية حرب الحضارات أو الصدام بين الثقافات كما يشير عنوان هنتنجتون. وليست نظرية حوار الحضارات إلا الرد الشكلي والضعيف عليها. الرد الحقيقي هو في العمل على إخراج العالم العربي والاسلامي من الازمة الحضارية التي يعيشها بالفعل، السياسية والاقتصادية والتقنية والعلمية وتبني سياسات تحفز على القيام بنهضة شاملة وعميقة. عندئذ نظهر للغرب أننا لسنا جدارا منخفضا يشجع الجميع على القفز من فوقه وعليه.


* هناك تراجع واضح في برامج القوى العلمانية والليبرالية في المنطقة يقابله مد في نشاط قوى الإسلام السياسي وتأثير برامجه ومناهجها على عقول الناس وخاصة فئة الشباب والنساء .. أين تكمن أسباب هذا التراجع ؟ وكيف للقوى العلمانية والليبرالية إستعادة نشاطها وتأثيرها ؟ .
* البرامج الليبرالية والعلمانية هي جزء من مشروع الحداثة الحضاري الذي جمعنا مع الغرب في القرنين الماضيين. وبقدر تصاعد وتيرة صراعنا مع الغرب بسبب سياساته العدوانية من جهة وسوء إدارة سياساتنا الخارجية من جهة ثانية، زاد ابتعادنا عنه وزادت نزعة شعوبنا للانفصال عنه والارتداد بالمناسبة نفسها عن القيم الحديثة التي تربطنا به في مشروع واحد. وهو ما يفسر في الوقت نفسه عودة الرأي العام بأغلبيته إلى القيم والأفكار التي تميزنا عن الغرب، وهي بالضرورة تلك التي نستمدها من التراث والتاريخ لملء الفراغ الناشيء.
لكن بعكس ما يعتقد الكثيرون، ليس هدف هذه العودة الحياة في التراث وتفعيل القيم القديمة، بقدر ما هي وسيلة لبناء ثقافة جديده مضادة وتبرير موقف معاد للغرب يعكس النقمة عليه والانتقام منه ومن نظم الحداثة التي لم تفرز هنا سوى ممارسات مناقضة تماما لما تعلن عنه.
ولا يوجد أي أمل لدى القوى العلمانية والليبرالية في استعادة نشاطها وتأثيرها من دون إخراج مشروع الحداثة العربي والاسلامي بوجهه المادي ووجهه الفكري معا من المأزق الذي يعيش فيه منذ عقدين، أي من دون الخروج من نظام القمع والمضاربة والتلاعب والفساد المعمم، و وإطلاق روح الحرية والقانون والمبادرة والعمل المنتج والابداع.


* مازالت “نظرية المؤامرة” تتحكم بعقول الكثير من النخب السياسية العربية وأنظمة الحكم في المنطقة .. برأيكم على اي خلفية تأسست هذه النظرية ؟ وهل هناك أرضية لتخصيبها في ثقافتنا وفي وعينا الإجتماعي ؟ .
* الأصل في نشوء فكرة المؤامرة هو التغطية على العجز النظري والسياسي الذي أظهرته النخبة في فهم سياسات الدول الكبرى واستراتيجياتها وايجاد السبل الكفيلة بالرد الناجع عليها وإحباطها. فما نسميه مؤامرة ليس هو في الحقيقة سوى سياسات وخطط منظمة ومعروفة، أو يمكن معرفتها من خلال البحث والدراسة العلمية، تبلورها القوى المختلفة في صراعها من أجل تحقيق أهدافها المنشودة، سواء أكانت هذه الأهداف أهدافا وطنية مشروعة أو أهدافا استعمارية. هكذا يجنب الحديث عن مؤامرات خارجية النخب الاجتماعية، والحاكمة منها بشكل خاص، النقاش في مسؤوليتها عن فهم حقيقة هذه الخطط ومضمونها وتحديد أهدافها وبلورة الاستراتيجيات أو الخطط المناقضة المطلوبة للرد عليها.
والنتيجة هو إخراج العلاقات الدولية من الميادين السياسية وتجنيب الرأي العام مناقشتها على هذه الأرضية ووضعها على أرضية أخلاقية وعاطفية تبرر كل أخطاء السلطات والنخب الحاكمة وتطمس مسؤوليتها عن غياب المبادرة الفعالة لإحباط الخطط الاجنبية. فإبراز الاستراتيجيات المعادية في صورة المؤامرة هي جزء من آليات التلاعب بالرأي العام وحرف نظره عن نقائص النخب الحاكمة وضعفها. وبالتأكيد يتناسب حظ نجاح مثل هذا التلاعب طردا مع ضعف الثقافة السياسية وقيم المسؤولية عند المجتمعات وغياب معايير المحاسبة والمساءلة عند الرأي العام.


* طرحت الإدارة الأمريكية “مشروع الشرق الأوسط الكبير” وتبنت مجموعة من السياسات في هذا المجال وإتخذت من العراق , بحسب إطروحتها المعلنة , نقطة إنطلاق ونموذجاً لتحقيق الديمقراطية في المنطقة .. كيف تقيمون هذا المفهوم ؟ وهل أن ما يجري في العراق وفي مناطق أخرى من العالم من إتساع لعمل الجماعات الإرهابية هو دليل إخفاق لهذا المشروع أم أن هناك إستراتيجيات أخرى للإدارة الأمريكية تعمل على تحقيقها من خلال تواجدها في العراق ؟ .
* مشروع الشرق الأوسط الكبير هو اسم السياسة الجديدة التي أرادت إدارة الرئيس جورج بوش الابن أن تطبقها في المنقطة بعد احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وهدفت من ورائها إلى تعزيز قبضتها على الوضع في منطقة تنطوي في نظرها على مصالح استراتيجية وحيوية، في مقدمها النفط وأمن إسرائيل والموقع الجيوستراتيجي العالمي، وتتعرض لمنافسة قوية فيها ولتهديدات متزايدة مع تنامي قوى المقاومة السياسية والايديولوجية، وتفجر حركات الإرهاب الدينية الموجهة اكثر فأكثر نحو اهداف غربية، وأمريكية منها بشكل خاص. ولم تشكل الديمقراطية في هذه السياسة العامة إلا عنصرا تزيينيا أو ايدلولوجيا دعائيا أرادت من خلاله إضفاء نوع من الشرعية على اهدافها القومية الاستعمارية.
ومن الطبيعي أن تتعرض هذه السياسة الشرق أوسطية الجديدة للإخفاق والانهيار. فقد راهنت كثيرا على تفوقها الاستراتيجي، واعتقدت أنها قادرة على حل جميع المسائل المعقدة بالقوة العسكرية، كما تجاهلت تماما مشاعر شعوب المنطقة وتمسكهم، مهما كانت مذاهب أبنائها وخياراتهم السياسية والايديولوجية، باستقلالهم، واستهترت من دون حدود بقدرة الناس على إدراك مصالحهم الخاصة. لا يلغي هذا احتمال أن تبدل الولايات المتحدة من استراتيجياتها وان تبادر، إذا فقدت الأمل بالسيطرة على عراق موحد على الطريقة الفيدرالية، أي من دون دولة مركزية قوية، وهذه كانت استراتيجيتها الأصلية، إلى القبول بتقسيم العراق وإقراره كأمر واقع، يمكنها من السيطرة عليه كاجزاء متفرقة ومتنافسة بعد أن أخفقت في السيطرة عليها ككتلة واحدة او شبة موحدة.


* بعد سقوط النظام الدكتاتوري في العراق , ظهرت العديد من منظمات المجتمع المدني التي تبنت برامج توعية مختلفة بحقوق الإنسان والمرأة ورعاية الطفولة وتقوم بالتثقيف على أهمية مفهوم المواطنة وقبول الآخر .. توجت هذه النشاطات برعاية المجلس العراقي للسلم والتضامن لحملة وطنية تقودها لجنة مشتركة من هذه المنظمات الفاعلة تعمل تحت شعار ( معاً من أجل العراق ) لمواجهة العنف والطائفية والتهجير ونشر ثقافة السلم والتسامح … كيف تنظرون الى مثل هذه النشاطات ومدى تأثيرها على الحراك السياسي والإجتماعي في العراق ؟ .
* لحسن الحظ أنه لا تزال هناك قطاعات من الرأي العام مستعدة للتضحية من أجل المصلحة العامة، وقادرة على العمل على مستوى يتجاوز النزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية، ويجمع بين كافة العراقين على مختلف أصولهم، وتقديم الخدمات الانسانية والسياسية لهم جميعا من دون تمييز.
ونحن بحاجة إلى المزيد منها، وإلى تقويتها بجميع الوسائل. وربما أمكن لها إذا نجحت بالفعل في تجاوز الحدود الضيقة التي تعمل فيها أن تساهم بقوة في إطلاق ديناميكيات التواصل والتفاهم والمصالحة بين أبناء الشعب العراقي كافة، كما نأمل.