الموقد للفنون والثقافة: العقل العربي ليس في حالة عطب

2011-03-10 :: الموقد للفنون والثقافة

 محمد صالح مجيّد
2011-03-10


في مدينة الحبّ والنّور والغربة باريس، لنهر "السّين" الذي يتدفّق إلى هدفه هازئا بالزّمن، أَلْفُ حكاية يرويها للعشّاق الذين تجمّعوا حوله مع اقتراب أعياد الميلاد، وألف سؤال يطرحه على كلّ مثقّف حمل حقائب السفر واستقرّ -طَوْعا أو كُرها- بأرض يُخصَّب فيها الفكر، باحثا في مخابره عمّا به يُؤَسَّس العقل، وينجو مِنْ مقاصل الاغتيال المنتشرة في مدن التيه بالمشرق.

عندما عبرنا الجسر في الصبح خفافا إلى منزل المفكّر العربي "برهان غليون" مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع بجامعة "باريس" الثالثة كانت الثلوج الباريسيّة الباردة تعزف لحن البياض به توشّح الأرض والسماء.

ولم يكن "السين" سعيدا أو حزينا. كان متطاولا ينظر بلامبالاة إلى مارّيْن لم يَعْنِهِ أن يسأل عن أوجاعهما الشرقيّة مُدركا أنّ القادم إليه موجوع أو مفجوع، فاستسلم لخطوهما، ولحركة يديْهما ترسمان دوائر من هواء في الهواء.و لم يدرك "السّين" المزهوّ بضفّتيه أنّ مرافقي "برهان غليون" احتضن كلّ ضفاف الفكر شرقيها وغربيّها.

ولمّا توارى عن أنظارنا و انتحينا جانبا من المنزل، ابتلعنا الكلام فكان هذا الحوار.

 

* يشهد العالم العربي تنامي التيارات الدينيّة، أو ما أصبح يعرف بالإسلام السياسيّ، في مقابل تراجع رهيب، وانحسار مخيف لمدّ القوى العلمانيّة، برأيك ما هي أسباب هذا التراجع؟ وما هي السبل الكفيلة بعودة العقل الشريد واستعادة القوى العلمانية دورها؟

*أعتقد أنّ مسؤوليّة النخب العربيّة في هذا التردّي، و في هذا الانحسار كبيرة لأنّها أخفقت في تحقيق القيم التي يُفتَرض أنها حاملة لها. في الواقع، هذه النخب التي تبنّت هذه السياسة، أو ادعت أنها تكافح من أجل انخراط المجتمعات العربيّة في الحداثة، وكيفما كانت مرجعياتها قوميّة أو ليبرالية أو علمانيّة أو اشتراكية أو شيوعيّة،أظنّ أنّها أخفقت لأسباب متعدّدة منها ما يتعلّق بتكوينها، ومنها ما يلتصق بخيانتها للأهداف التي تصدّت لتحقيقها وتثبيتها.

إنّ الممارسة السياسيّة لهذه النخب ممارسة حادت عن مبادئ مشروع التحديث، وتحوّلت إلى ممارسة تحتقر الإنسان وتنتهك حقوقه.و بدل أن تخلق المواطن الواعي بدوره، وبمحيطه دفعت نحو خلق الإمّعة والتابعين.

إنّ الفراغ الذي نشأ نتيجة الإخفاق في مشروع الحداثة، نابع مِن سلوك النخب نفسها غير المتّسق، ومِن عدم تماسكها فكريّا ونظريّا. وأعتقد أنّ الحركات الإسلاميّة تعبير عن محاولة لملء فراغ حقيقيّ نشأ نتيجة إخفاق مشروع الحداثة؛ وهذا الإخفاق يشعر به كلّ مواطن مهما كانت درجة وعيه بما يجري حوله.

مثلا بشّرنا-مثقفين ومفكّرين- النّاس بالمساواة وبحكم القانون.لكن لا يوجد في العالم العربيّ إلّا العسف والظلم والفقر والبطالة. والأغلبيّة مشدودة إلى ماضيها أكثر من تعلّقها بقيم التحديث.وهذا الفراغ الرهيب الذي لا يمكن لأحد أن ينكره، كان لا بدّ لهذه الحركات أو التيّارات الدينيّة أن تملأه بشكل مّا.وأعتقد أنّ الإسلاميين هم الذين ملؤوا هذا الفراغ.

لقد كان الإسلاميون موجودين لكنّه في خمسينات القرن الماضي كانوا أقلّيّة سياسيّة في المجتمعات العربيّة. وبعد انهيار حصان الرهان الحداثيّ لم يبق في الساحة إلاّ الإسلاميون الذين جمعوا من حولهم كلّ الناقمين والمستائين، وكلّ الذين شعروا بخيانة النخبة الحديثة العلمانيّة لمبادئها.. فتبعوا التيار الإسلامي كنوع من الاحتجاج وردّ الفعل.

وأعتقد أنّ الإسلاميين يشكّلون حركات احتجاجيّة وليسوا حركات بناء جديد، إذ لم تستطع هذه الحركات التي تملأ ساحة فارغة أن تقدّم مشروعا لإعادة البناء.وهذا برأيي، تأكيد على أنّها حركات ردّ فعل ومقاومة، وليست حركات تشييد تمتلك تصوّرات استشرافيّة واضحة المعالم، وبرامج علميّة دقيقة تشخّص الداء وتبحث عن حلول وفق مقاربات دقيقة.

 

* ألا يعدّ تنامي هذه التيّارات الدينيّة شكلا من أشكال "اغتيال العقل"؟

* إنّ تنامي الحركات الدينيّة هو تعبير عن الفراغ كما قلت.وهو ناتج عن غياب أيّ مشروع مستقبليّ واضح.فالشعور السائد في العالم العربيّ الذي استبدّ بأغلب الناس هو الشعور بانسداد الآفاق،وبموت الأمل في المستقبل،وبأنّ الأمل الوحيد قي العودة إلى التراث، وفي الرجوع غلى الماضي.

والأكيد أنّ هذا النوع من التفكير يمنع العقل من أن ينطلق في آفاق جديدة لتعميق فهم الواقع وتوطين قيم الحداثة الذي مازالت ملتبسة.هناك ما أسميته"ضلوع مشترك" بين الطغيان السياسيّ، والطغيان الدينيّ.

ولا أعني بهذا الطغيان الحركات الدينيّة فحسب وإنّما سيطرة نمط من التفكير الديني يقول للناس وللمؤمنين "لا تفكّروا نحن نفكّر بدلا عنكم".هناك نوع من التضامن الموضوعيّ بين هؤلاء وبين الطغيان السياسيّ الذي يقول أيضا للنّاس "لا تفكّروا... مشاكل السياسة والاقتصاد والأمن ليست من مسؤوليتكم نحن نفكّر عوضا عنكم ..أنتم أطيعوا فقط". وهذا في الحقيقة وجه من وجوه اغتيال العقل عبر فرض الطاعة والإلحاق والالتحاق، وعدم دفع الناس إلى تحمّل مسؤولياتهم في تقرير مصير مجتمعاتهم ومشاركتهم الحقيقيّة في البناء. على هذا النحو تشترك النخب السياسيّة الحاكمة والدينيّة في جعل الجماهير العريضة بعيدة عن تقرير مصيرها تحت شعار"لا تفعلوا شيئا نحن نفعل في مكانكم المطلوب منكم فقط هو الخضوع".

 

* بناء على ما تفضّلت به، هل يمكن القول إنّ العقل العربي في حالة عطب؟

* العقل العربي ليس في عطب، وأظنّ أنّ كلمة "العقل" في ذاتها تحتاج إلى توضيح وتدقيق. لا يوجد عقل عربي أو فرنسي أو أمريكي، يوجد عقل إنسانيّ. وكلّ النّاس قادرون على التفكير بصرف النظر عن ثقافتهم وألوانهم، حتىّ الهنود الحمر والبيض والصفر قادرون على التفكير. هذا ما قامت عليه قيم الحداثة الكونيّة.

والعقل العربي ليس في حالة عطب، المشكلة في السياسات والممارسات التي تحدّ من تكوين العقل، ومن استعماله وتوظيفه، بل وتفرض على الناس أن يجمّدوا عقولهم كي يتأقلموا، وكي يستطيعوا العيْش. ومن يفكّر يمكن أن يكون في أغلب الأحيان مُستهدفا، وأنْ تكون لتفكيره نتائج سلبيّة عليه. وليست الحركات الدينيّة، ولا الدين مَنْ يغتال العقل، بل النّخب الحاكمة التي قررت أن تحتكر كل الموارد المادية والسياسيّة و الفكريّة والسلطويّة، وأن تنظر إلى الآخرين على أنّهم رعايا غير عاقلين..وفي الواقع هذه النخبة هي التي تغتال العقل، وهذه النخبة فاقدة للعقل.

 

* إزاء ما يجري، برأيك هل مِنْ دور للأنتلجسنيا العربيّة؟ هل يمكن الحديث فعلا عن عطالة المثقف؟

* "الأنتلجنسيا" العربيّة ممزّقة بين مجموعة تعيش تحت الضغوط، وتضطرّ إلى أن تتكيّف مع القمع القائم-وهو قمع استثنائيّ ليس له مثيل- ومجموعة أخرى لدوافع "شعبويّة" التحقت بالمشاريع، وبالحركات الإسلاميّة ومشاريع الاحتجاج والمقاومة بما فيها المقاومة ضد العدوان الأجنبي.

وجزء من وظيفة التيارات الإسلاميّة سدّ الفراغ.وجزء من هذا الفراغ الذي ملأته الحركات الإسلاميّة هو الأمن الوطني غير الموجود كما تظهر تحديات الاستيطان اليهوديّ في فلسطين. هناك فراغ كبير ورهيب. بعض المثقفين يوظّفون أنفسهم في خدمة مشاريع المقاومة والاحتجاج الداخلي والخارجي. أمّا المجموعة الثالثة التي تمثّل أقلّيّة فهي تكرّس جهدها جهد للتفكير والتحليل، وتفكيك هذه الأزمة العميقة التي يعيشها العالم العربي والمجتمعات العربيّة.

وأنا أعتقد أننا في أزمة ينبغي أوّلا أن نعترف بها، وأن نقوم ثانيا بعمليّة مراجعة. و عند الأزمات مِنَ الطبيعيّ أن يكون هناك تخبّط، وارتباك، وتشوّش في الأفكار، وتصادم في الآراء بين مجموعات مختلفة. المهمّ كيف نصل إلى تفكير واحد، ورؤية موحّدة لمشاكل العالم العربي المتنوّعة، وللحلول التي يجب أن تقدّمها النخب الفكريّة إذا ما توصّلنا إلى هذه الرؤية الموحّدة والمنهاج المشترك نكون تجاوزنا هذا التشرذم والانقسام.وعندها فقط يمكن الحديث عن "أنتلجنسيا" عربيّة.اليوم لا وجود لأنتلجنسيا عربيّة.

يوجد مثقفون يتخبّط جزء منهم هنا وهناك، وجزء يقاوم، والآخر تابع للأنظمة يسير في ركابها. وليس هناك "أنتلجنسيا" بمعنى مجموعة من المثقفين تفرض نوعا من التفكير المهيمن والمسيطر الذي يوجّه المجتمع، ويقوده نحو التغيير. الآن، نشهد تفجّر "الأنتلجنسيا" وتمزّقها. وهذا التشرذم جزء أساسيّ من هذه الأزمة الفكرية والإيديولوجية التي تتخبّط فيها المجتمعات العربيّة، و التي لا تقلّ عمقا عن الأزمة السياسيّة.

 

* يؤرّخ البعض لبداية وعي عربيّ جديد بحملة "نابليون بونبارت" على مصر، هل خلقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر تحوّلا في الوعي العربيّ؟

* أنا لا أعتقد أن "الحادي عشر من سبتمبر" قد خلق تحوّلا نوعيّا في وعي المجتمعات العربيّة. ما نلاحظه هو أنّ التيارات الإسلامية تتقوّى مِنْ فشل المشروع العربي الذي استثمر فيه العرب منذ القرن التاسع عشر، وباءت جميع هذه الاستثمارات بالفشل. في رأيي الحادي عشر من سبتمبر يعبّر عن الأزمة التي يعيشها النظام الدوليّ الذي كان يستند إلى توازن القوى بين القطبيْن، ثمّ انتقل إلى نظام أحاديّ أخذته العزّة بالقوّة.

جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكسّر هذا القطب الواحد، وتظهر فشل الدولة العظمى التي عدّت نفسها المرجع الرئيسي في كلّ ما يتعلّق بحلّ جميع النزاعات في العالم،ومصدر بناء أجندا سياسيّة عالميّة. لقد ساهم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في خلق نوع من الفوضى. وهي فوضى مدمّرة، تجلّت بعض مظاهرها في سياسة "بوش" الابن التي انتهجها في العراق، والتي أدّت إلى تكسير العالم العربي كما لم يُكسّر من قبل.وبتدمير العراق باسم إرساء الديمقراطية،وقع تحطيم أحد أركان التوازن الجيوسياسيّ في المنطقة لصالح إسرائيل. إنّ الحادي عشر من سبتمبر قد غذّى الحركات الإسلاميّة المتطرفة لا تلك التي تستخدم التراث، وتوظّفه من أجل انبعاث حضاريّ جديد. وما انجرّ عن هذا الحدث العالميّ المرعب تنامي جماعات القتل والإرهاب،وإضعاف إمكانيّة التوصّل إلى حلول للنزاعات في المنطقة.وفي النهاية يمكن القول إنّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت كارثة على العالم العربي طالت شظاياها الفكر والسياسة والمجتمع.

 

* انعقد في باريس منتدى"أمن الخليج" في 15ديسمبر/كانون الأول2010، فما هي مرتكزات أمن الخليج والأمن العربي عموما في ظلّ التحدّيات الراهنة؟

* أعتقد أنّه لم يعد هناك أمن وطني بالمعنى الحرفي للكلمة. لم تعد هناك دولة قادرة على أن تصون أمنها بمفردها، وبمعزل عن التفاهمات الدوليّة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة التي هي أعظم قوّة عسكريّة وإستراتيجية.

الأمن اليوم مسألة إقليميّة وعالميّة. ولم يعد مسألة وطنيّة. وفي رأيي، إنّ أمن الخليج لا يتحقق بالالتصاق بإيران ولا بعدائها.يتحقّق الأمن متى أمكن للعرب وللإيرانيين وللأتراك، والأكراد أن يجدوا صيغ تفاهم حول تنظيم الأمن الإقليميّ بما يخدم مصالح الجميع، ويكبح جماح حب التوسّع عند هذا الطرف أو ذاك، ويرسي علاقات متينة ودائمة قائمة على تبادل المنافع، والالتزام بعدم الاعتداء والهيمنة، والتخلّص من فتنة استخدام طرف ضدّ آخر. وسيبقى "أمن الخليج" هشّا، حتّى في ظلّ الحماية الأمريكيّة، ما لم تصل المنطقة إلى تفاهم بين أقطابها الرئيسيّة. ومثل هذا التفاهم مِن شأنه أوّلا أن يُخفف مِنَ الهيمنة الأمريكيّة الفجّة، وأن ينظّم ثانيا العلاقات بين الأجوار على أساس التفاهم، ويلجم ثالثا، التطلعات التوسعيّة عند هذا الطرف أو ذاك وبالأخصّ "إيران".

نعم لإيران نزعة توسعيّة لا في الخليج فقط، بل في العالم العربي عموما مشرقا ومغربا. لقد سعت الولايات المتحدة الأمريكيّة، بالتعاون مع بعض الدول العربيّة، إلى عزل إيران وتطويقها بالحصار. وقد ضغطت بجميع الوسائل من أجل أن يقف العرب في صف العداء لإيران.والأكيد أنّ كل دولة تجد نفسها في محيط يناصبها العداء ستبحث عن فتحات، وعن حلول أخرى في دول بعيدة. وهذا بالفعل ما تقوم به إيران.

 

* هذا لا ينفي أنّ إيران دولة معتدية فهي مازالت تحتلّ جزرا إماراتيّة!

* نعم، هذه حقيقة.. لكن لا يتحقق الأمن باتخاذ مواقف عدائيّة تجاه الآخر مادام في الإمكان إقامة علاقة حسن جوار وحوار يسعى إلى تنظيم الأمن الإقليمي والجماعي. إنّ احتلال الجزر يعود إلى عهد "الشاه". وهو جزء من الملفات التي يجب أن تُفْتَح. لكن لا يمكن التعاطي مع هذا الملف باتخاذ موقف العداء. ولا يمكن للتحالف بين الخليج والأمريكان أن يكون السبيل لتحرير جزر الخليج. والحرب ضدّ إيران لا تقدّم حلاّ. ولا يستطيع الخليج أن يقيم علاقات متوازنة مع إيران، ولا مع أي طرف آخر إلاّ في إطار عربيّ، من خلاله يُقام تفاهم أمني مع إيران وتركيا، ومع القوى السياسيّة والاقتصادية في العالم.

والعالم العربي في فراغ استراتيجيّ هو الآخر.ليس هناك عصب قويّ يُعتَمد عليه من أجل الأمن العربيّ.العرب يتنازعون فيما بينهم، ويبحثون عن تفاهمات خارجيّة.والخليج الذي ينام على احتياطي العالم من النفط،يبحث عن حماية خارجيّة أمريكيّة.وجزء آخر من الدول العربيّة يبحث عن حماية إيرانيّة أو تركيّة.

العالم العربي هو ضحيّة التدخّلات الأجنبيّة. ولن يخرج من التلاعبات، ومن التجاذبات إلاّ إذا نجح في صياغة تفاهم إقليميّ، وفي إنشاء منظّمة للأمن والتعاون الاقتصادي تضمّ كلّ شعوب منطقة الشرق الأوسط،وتصوغ برامج للعمل المشترك لإخراج المنطقة من الهوّة التي تدحرجت إليها. وفي اعتقادي لمنطقة الشرق الأوسط من الموارد الاقتصاديّة والبشريّة ما يجعلها أحد أهم أقطاب التنمية في العالم مثلها مثل الصين والهند لا مجرّد ممالك وجمهوريات موز تتصارع فيما بينها. هناك شعور عند الإيرانيين بأنّهم محاصرون، وبأنّ فكّ الحصار يستدعي أن يخترقوا جدران الآخرين ودفاعاتهم. إنّهم يستثمرون في سوريّة، وفي لبنان، والآن في العراق. وكوّنوا محورا قويّا يخترق العالم العربيّ نفسه.

وفي المقابل يساهم الأمريكان مساهمة كبرى في "شيطنة" إيران من أجل دفع العرب إلى الالتحاق بهم، والتعويل عليهم وتصدير الأسلحة إليهم. وقد وقّعت الدول الخليجيّة على عقود بلغت قيمتها 128مليار دولار. وما كان الإنفاق العسكريّ ليصل إلى هذا المستوى لولا التلويح بالتهديد الإيرانيّ، وضغط الأمريكان في هذا الاتجاه. لأمريكا أكثر من مصلحة في توتير العلاقة بين العرب وإيران. وهذا لا يعني إنكار مسؤولية إيران في تأزيم الوضع، أو تجاهل حقيقة رغبتها في التوسّع.

والعرب هم أيضا مسؤولون عندما ظنّوا أنّ إيقاف التوسّع الإيرانيّ يكون بالدخول في تحالف مع أمريكا. ويمكن اعتبار سلوك إيران العدواني ردّ فعل على الحرب العراقية الإيرانيّة التي موّلها العرب.كلّ طرف مسؤول عن زعزعة الاستقرار في المنطقة،وعن هذا التسابق على التسلّح. وفي المقابل تتوسّع إسرائيل دون خوف، ودون أن تُواجه بردّ فعل جدّي.العرب يتصارعون مع جيرانهم الذين سيعيشون معهم لأسباب جغرافيّة وتاريخيّة لا يمكن إلغاؤها،وفي المقابل يتغافلون عن التوسّع الإسرائيليّ في فلسطين.

 

* ردّ العرب على نظرية صدام الحضارات التي ابتدعها الأمريكي "صموئيل هانتنغتون" بالدعوة إلى حوار الحضارات، كيف ينظر المفكّر "برهان غليون" إلى هاذين المصطلحيْن؟

* إنّ الدعوة إلى حوار الحضارات هي في الحقيقة ردّ فعل العالمين العربي والإسلامي عن نظريّة "صراع الحضارات"، فخاتمي الرئيس الإيراني السابق، هو الذي اقترح على الأمم المتحدة حوارا منظّما للحضارات تبنّته هذه المنظّمة الدوليّة.. وفي رأيي صدام الحضارات ليس مفهوما أصيلا وثابتا يستحقّ التعميق.

وكذلك شأن "حوار الحضارات". لا وجود لصدام الحضارات لأنّ الحضارات لا تتصادم ولا تتفاهم. مَنْ يتصارع، ويتفاهم هو البشر والمجتمعات. ليس صحيحا أنّ العالم العربي في صراع مع الحضارة الغربيّة، فحياتيّا، نحن نعتمد بشكل رئيسيّ على معايير الغرب، وإبداعاته وتقنياته.

ونحن نسعى إلى تمثّل أكثر ما يمكن من قيم هذه الحضارة الحقوقيّة والمدنيّة والإنسانيّة. نحن في صراع مع سياسات الهيمنة والسيطرة الأمريكيّة التي لا تمثّل القيم النبيلة للثقافة الغربيّة، وثقافة الحداثة والتنوير والعقل والقانون.. سياسات الهيمنة هذه هي تعبير عن مصالح ماديّة لفئات معيّنة داخل هذه المجتمعات. إنّ الثقافات تتفاعل وتتبادل، ونحن أكثر الأمم تفاعلا مع الثقافات الأخرى اليونانيّة، و الهنديّة، والفارسيّة والإفريقيّة والصينيّة. أنا أرفض مصطلح "صراع الحضارات" وهو ليس مفهوما علميّا لفهم النزاعات الدوليّة.

كما أرفض الردّ الأيديولوجيّ القائم على حوار الحضارات؛ كما لو كنا نعتقد أنّ الحوار مع الآخرين سيحلّ مشاكل النزاع. إنّ الغَرب يريد توطين "إسرائيل" توطينا نهائيّا من أجل حلّ المسألة اليهوديّة التي صدّرها إلى العالم العربي منذ بداية القرن الماضي. وهو يريد السيطرة على منطقة جيواستراتيجيّة حساسة، وعلى تراث روحيّ وديني في العالم. هذا هو لبّ الصراع وسببه. وليس هناك نزاع فكري أو صدام حضاري. نحن نطالب، بدل حوار الحضارات، بمفاوضات دوليّة حول أجندا سياسيّة دوليّة. هذا هو المطلوب اليوم من أجل تحرير العالم مِن التوترات والنزاعات والفقر والبطالة.أنا أعتقد أنّه بدل حوار الحضارات ينبغي أن نناضل من أجل مفاوضات دولية حول مشاريع التنمية والاقتصاد والسياسة، ومن أجل نشر السلام في العالم.العرب وجزء غير قليل من سكان العالم ضحايا نظام الهيمنة والسيطرة الذي تقيمه الولايات المتحدة الأمريكيّة.

 

* انتشرت في الغرب "مجموعات التفكير" "think tank" ومراكز الدراسات الاستشرافيّة، التي تقرأ التحوّلات القادمة وتستنبط الحلول، برأيك ما الذي يمنع قيامها في العالم العربي؟

* لقد وُجِدت هذه المراكز في الغرب، لأنّ العالم يتطوّر بسرعة، ويتحرّك في كلّ الاتجاهات.إنّ الشعوب في حاجة دائمة إلى التفكير من خلال مثقفيها وعلمائها لبلورة آراء وسياسات سليمة إزاء هذه المتغيّرات السريعة، والصراعات الواسعة الموجودة في العالم. ويعود غياب هذه المجموعات الاستشرافيّة ومحدودية تأثيرها في العلم العربي، إلى أنّ العرب لا يستثمرون إلاّ في الأمن الداخلي، وفي السلاح، وفي العقارات، وفي المراكز التجاريّة الكبرى، والأبراج العالية التي تُقام أمام أعين لا تستطيع الارتفاع إلى السماء. إنّ الدول العربيّة لا تستثمر جدّيّا في تكرين العقل، ولا في بناء مجموعات تفكير في القانون وفي احترام حقوق الإنسان. أليس هذا دليلا على أنّنا لم ندخل بعد الحضارة وعلى افتقارنا إلى المدنيّة؟.

مازال العرب تحت سيطرة نخب همجيّة تقرّر مصائر الشعوب.للنخب الحاكمة في الدول العربيّة مسؤوليّة كبرى في الأوضاع التي تعيشها الشعوب العربيّة.إنّ العالم العربي يفتقر إلى مراكز البحث و الدراسات الإستراتيجية الاستشرافيّة،وإلى سياسات اقتصاديّة إنمائيّة واضحة تحلحل الوضع القائم الماثل، وتبني فرص عمل تخفف من اليأس. ما يعيشه العالم العربي الآن ثمرة خيارات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة خاطئة انتهجتها النخب الحاكمة في غياب خطط إستراتيجية واضحة المعالم.وعلى نقد هذه الخيارات، يتوقّف المستقبل, وتتوقف إمكانات الشعوب للوصول إلى طرق جديدة، وإلى نتائج أفضل.

 

* قلت إن مشاريع الإصلاح في الدول العربيّة خرافة !.هل يعني ذلك غياب أي مخطّط للإصلاح حقيقي في العالم العربيّ!!؟

* ليس هناك في الدول العربيّة مشاريع إصلاح حقيقيّة.آخر ما اتفق عليه العرب سنة2004 هو عقد مؤتمر الإصلاح داخل الجامعة العربيّة.وعند النقاش قرّروا ألّا يستعملوا مصطلح "إصلاح". وعوّضوه بتعبير صاغه السّوريون للداخل، ثم وقع تعميمه، وهو"التطوير والتحديث"حتى يتجنبوا كلمة إصلاح. وبذلك رفضوا الإصلاح وألغوه. التطوير والتحديث هو أشبه بتعويض آلة قديمة بأخرى حديثة لكن دون تفكير أو تخطيط.اكتفوا بتغيير مكتب قديم مهترئ بآخر جديد !!.ليس هناك أيّ رؤية حقيقيّة لدى النخب الحاكمة للتحدّيات القادمة التي تواجهها المجتمعات العربيّة.همّ النخب الحاكمة السيطرة على الموارد دون تفكير في توزيعها توزيعا عادلا يعزّز الأمن والاستقرار.

 

* تبدو القضيّة الفلسطينيّة عند بعض الأنظمة العربيّة الدجاجة التي تبيض ذهبا.فأيّ الظُلمَيْن أشدّ قسوة على الفلسطينيين ظلم ذوي القربى أم ظلم الصهاينة؟

* كلّ الأنظمة العربيّة، دون استثناء، استخدمت القضيّة الفلسطينيّة لمصالحها الخاصّة،واستغلّتها غطاء لَإضفاء مشروعيّة على بعض السياسات.وكلّ نظام لعب، بطريقته، على هذه القضيّة، ووظفها بما يعزّز أمنه الداخلي فحسب.

الدليل الأساسيّ هو أنّ القضايا الفلسطينيّة كثيرا ما كانت موظفة لتبرير سياسات عامة، والتغطية على خيارات خاطئة وسيئة لبعض النخب السياسيّة الحاكمة هنا وهناك.فما هو الجهد الذي قدمته الدول العربيّة لتحرير فلسطين في السنوات الأخيرة.؟؟ ما هي الجهود الحقيقية المبذولة في العشرين سنة الأخيرة لتخليص الفلسطينيين من المعاناة.؟ لا شيء باستثناء البيانات، والدعم المادي الخجول لتلهية الرأي العام. لكن ليس هناك استثمار حقيقي وجدّي لدعم الفلسطينيين، ولتحرير الأراضي المحتلّة.ولذلك ليس من الصدفة أن تدخل إيران على الخط، وأن تكون حماس بين يديها. لقد دخلت إيران بقوّة مستغلّة الفراغات التي خلّفها العرب.

وما لجأت حماس إلى إيران إلّا بعد أن أهملها العرب.لا يستطيع الفلسطينيون تحرير أرضهم بمفردهم.والقضيّة الفلسطينيّة ليست شأنا فلسطينيّا.إنّها لبّ الأمن القومي للمنطقة العربيّة.وإسرائيل لا تهدّد الفلسطينيين فقط.هي تهدّد جميع البلدان العربيّة من الداخل بما فيها تلك التي عقدت معها معاهدة سلام.وفلسطين ضحيّة تنازع دول أخرى وليس للعرب قدرة على إجراء تغيير على الأرض.

 

* كيف تنظر إلى انتباه الجامعة العربية المتأخّر بأهميّة دور اللّاعبيْن التركي والإيراني في المنطقة، والدعوة إلى إقامة حوار مع الدولتيْن؟

* "تركيا" و"إيران" لم ينتظرا الجامعة العربيّة التي وصلت متأخّرة.فقد مدّا الأذرع بعيدا في الأراضي العربيّة منذ مدّة زمنيّة غير قصيرة. وهما دولتان موجودتان على الأرض. وتركيا مثلا قد وقّعت عقودا، واتفاقيات حريّة التجارة مع سوريا ولبنان والأردن، وليبيا مؤخرا. والحدود مفتوحة بين هذه البلدان الآن. والجامعة العربية التي تجاهلت هذه الوضع سابقا وجدت نفسها مضطرّة للتعامل مع هذا الواقع الجديد.

ومن الطبيعي أن تدعو إلى الحوار حتى تضبط، على الأقلّ، هذا الثقل الإقليمي، وهذا المدّ.ولكنّ دول الخليج رفضت فكرة الحوار فدُفن المقترح في المهد .وهذا الرفض العربي من شأنه أن يدفع تركيا وإيران إلى التوسّع دون اهتمام برأي الدول العربيّة التي يمكن أن يكون لها دور في تعديل موازين القوى، وإقامة علاقات متوازنة مع هاتين الدولتيْن. لا يمكن للعرب، إن أرادوا إقامة أمن إقليميّ، أن يغفلوا عن الدور التركي أو الإيرانيّ.إنّ الحوار لا يعني الدخول في فلكهما. فالحوار هو سعي إلى إقامة علاقة دائمة ومتوازنة. ولكنّ ما يحدث على الأرض هو أنّ الدولتيْن تستحوذان على كلّ ما هو ضعيف في المنطقة ويتوغّلان عميقا.و إذا لم تتدخل الدول العربية الكبرى"السعوديّة/مصر" ستأكل تركيا وإيران الخراف الصغيرة.

 

* اقتحم العرب مؤخّرا مجال الإعلام المرئيّ الفضائيّ، برأيك هل يمكن أن يكسبوا جولات في هذه المعركة الإعلامية مع "إسرائيل"؟

*" إسرائيل" متقدّمة إعلاميّا وهي تتقن توجيه الآلة الإعلاميّة لصالحها، وللتغطية على سياساتها التوسّعيّة. العرب قاموا في العقد الأخير، بقفزة هائلة في مجال الإعلام في السنوات الأخيرة. لكن لا يمكن للإعلام أن يسير لوحده. يكون الإعلام ذا صدقية ومؤثّرا عندما يسير بموازاة القوى الأخرى العسكريّة والسياسيّة.

الإعلام الإسرائيلي يستمدّ قوّته من قوّة إسرائيل العسكريّة والدبلوماسية والاستراتيجيّة لذلك هو مؤثّر ومهيمن.لو كان للعرب قوّة اقتصاديّة وعسكريّة لكان لإعلامهم دور كبير، فمن يهتمّ بإعلام دول لا تثير العالم من ناحية الإبداع العلميّ أو التوسّع الاقتصاديّ، ولا تملك القدرة على حماية أراضيها!!؟ في المقابل كلّ العالم يهتمّ بما يقدّمه الإعلام التركي، لأنّ تركيا برزت قوّة سياسيّة و اقتصادية وعسكريّة في المنطقة. فهي دولة ينمو اقتصادها بما يفوق8%وتعبّر عن مواقفها السياسيّة في المنطقة بوضوح، وبقوّة تفوق ما اتخذه العرب. إنّ مشكلة العرب ليست في ضعف الإعلام بالعكس أصواتهم عالية. لكن الصوت يجب أن تكون له قدمان قويّتان. لا وجود لعصب استراتيجيّ عربي على الأرض.. ولا وجود لتفاهم عربيّ ولا لقوّة عسكرية ترهب الأعداء، وبذلك فالعرب لا يخيفون أحدا.