مجلة الرافد: الانقسـام مـا بيـن الواقـع والوعي – لا مخرج دون التغييـر

2011-10-10 :: مجلة الرافد


  مبارك حامدي -  مجلة الرافد


يعتبر الدكتور برهان غليون أحد أعلام الفكر العربي المعاصر، لا بسبب غزارة إنتاجه الفكري فحسب، بل بالنظر إلى تأثير أطروحاته الفكرية واجتهاداته النظرية في الأوساط الثقافية والشعبية على السواء، وذلك خصوصاً منذ صدور كتابه «اغتيال العقل» سنة 1985 لما تضمنه من تشخيص للأزمة الحضارية العربية الراهنة، ولما اقترحه من حلول. وكان الدكتور غليون أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة السوربون، قد انخرط في الشأن الثقافي منذ أوائل السبعينيات، إذ أصدر أول مؤلف له بالفرنسية عن «الدولة والصراع الاجتماعي في سوريا» سنة 1974.
ثم توالت مؤلفاته حول: بيان من أجل الديمقراطية 1977، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، سنة 1979، خطاب التقدم، خطاب السلطة 1982، التاريخ وتنوّع الثقافات (مع آخرين بالفرنسية) 1984، المحنة العربية الدولة ضد الأمة 1991، اغتيال العقل: الثقافة العربية بين السلفية والتبعية 1985، مجتمع النخبة 1985، نظام الطائفية: من الدولة إلى القبيلة 1990، العرب ومعركة السلام 1984، حوارات من عصر الحرب الأهلية 1987، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة 1999، نقد السياسة: الدولة والدين 1998، والإسلام والسياسة: الحداثة المهدورة 1997(بالفرنسية)، وأخيراً الاختيار الديمقراطي في سوريا 2003، النظام السياسي في الإسلام 2003، والعرب وعالم ما بعد 11 سبتمبر 2005.
ونحن إذ نتواصل مع الدكتور برهان في هذا الحوار، فإننا نريد أن نقف على بعض آرائه حول مسائل فكرية تشغل بال المعنيين بالشأن الثقافي العربي. وبمناسبة إحياء الذكرى 600 لوفاة ابن خلدون من الضروري أن ينال هذا المحور نصيباً من حوارنا قبل التطرق إلى قضايا ثقافية عربية عموماً وإلى مساءلته عن بعض اجتهاداته الخاصة.


المحور الأول: الظاهرة الخلدونية
* مما يستوقف الدارس أن الفكر العربي الحديث والمعاصر قد دأب على استدعاء بعض الأمور الثقافية والفلسفية التراثية فيما يشبه «الموضة» نحو استدعاء الفكر الاعتزالي وابن رشد والمتصوفة.. إلخ، غير أن استدعاء الموروث الخلدوني قد كان – من بينها – الأكثر تواتراً، وكان موضوع رسائل جامعية وأبحاث ضخمة وندوات لا يكاد يحصيها عَدّ، وقد عُدّ حيناً مؤسس علم التربية وعُدّ حيناً مؤسس علم الاقتصاد أو علم الاجتماع إلى غير ذلك. وقلة هم المثقفون العرب المرموقون الذين لم يتناولوا ابن خلدون أو يوظفوه توظيفاً معرفياً أو أيديولوجياً، بدءا بطه حسين وصولاً إلى محمد عابد الجابري وعلي أومليل وأبو يعرب المرزوقي فعبدالله العروي.. إلخ، فكيف ينظر برهان غليون إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بالظاهرة الخلدونية في الفكر العربي؟
* أثار ابن خلدون اهتمام الباحثين العرب وغير العرب منذ القرن التاسع عشر ولا يزال لأسباب عديدة: الأول المنهج الذي اتبعه في كتابة التاريخ، والذي قام على ما نسميه اليوم الملاحظة العلمية للوقائع، وقطع مع المألوف في صناعة التاريخ العربي الذي سبقه، والقائمة على رواية الأخبار المسندة أو غير المسندة، ونقده الواضح والقوي لها. والثاني المضمون الجديد الذي أعطاه للتاريخ والذي جعله يكتشف، كما يذكر هو نفسه، علماً جديداً هو علم العمران، ويميزه عن غيره من العلوم. ولا يزال هناك اعتقاد كبير عند الكثير من الباحثين حول العالم العربي في ميدان العلوم الاجتماعية بأن كشوف ابن خلدون المتعلقة بالعصبية ووزنها في تكوين السياسة والاجتماع العربيين لم تفقد قيمتها بعد في تأويل التاريخ أو تفسير التشوهات التي تسم بنية الحياة الاجتماعية في هذه المنطقة. والثالث هو الطابع الكوني لتأويله التاريخي ومجمل عمله الفكري الذي يجعل منه رائداً في بناء خطاب كوني في التاريخ، أو خطاب تاريخي ذي طابع عالمي، وبالنسبة إلى البعض في إنشاء نظرية في الحضارة.
وفي وقتنا الراهن يستحضر ابن خلدون وفكره التاريخي عند العديد من الباحثين والأيديولوجيين، في سياق محاولة تفسير العودة القوية للعصبيات القبلية والطائفية في بعض المجتمعات العربية وفي الوقت نفسه، بطريقة غير مباشرة، لإضفاء المشروعية عليها باعتبارها جزءاً من بنية عصية على التغيير. كما أن العديد ممن يستعيدون فكر ابن خلدون من بين الباحثين العرب المعاصرين يفعلون ذلك في سياق استراتيجية دفاعية تسعى إلى تبيان عظمة التراث العربي الإسلامي ورياديته، وبالتالي قدرة العرب والمسلمين على الوقوف جنباً إلى جنب مع الغرب، وعدم الاضطرار إلى الخضوع له أو التبعية له، ومن ثم الأخذ الأعمى بعلومه. ويشكل هذا الاستحضار للفكر الخلدوني وسيلة للتخفيف من الشعور بالإحباط والنقص تجاه الغرب المتغطرس من جهة، وأساساً لاستراتيجية الاستقلال الثقافي وإعادة بناء العلوم على قاعدة عربية تضمن استمرار الهوية، وتؤسس لتاريخية خاصة، أو تعزز فكرة وجود زمانية حضارية عربية إسلامية متميزة عن الزمانية الحضارية العالمية الموسومة بالطابع الغربي.
لا شك في أن ابن خلدون معْلَم كبير على طريق نهضة النظرة العلمية في العلوم الاجتماعية، بشكل عام وليس في العالم العربي فحسب، لكن قراءته لا تغني عن الأخذ بمناهج البحث التاريخي الحديث الذي تجاوزه، كما أن تأويله للتاريخ، حتى العربي منه، أصبح بعيداً جداً عن أن يفي بحاجة بناء علم لتاريخ بناء الدول والممالك والسياسات والاجتماع البشري للأقطار العربية المعاصرة، ومن باب أولى ببناء النظم الاجتماعية والسياسية في أقطار العالم. لقد تغير العالم كثيراً وتغيرت الوقائع، وهي تحتاج إلى علم جديد يتسق مع ما حصل من تغير. فالمجتمعات العربية أصبحت مندمجة كلياً اليوم في تاريخ عصرها ومشابهة في بنياتها للمجتمعات الحديثة، بالرغم من التشوهات التي لا تزال تطبع حداثتها. ولم يعد من الممكن فهم ما يجري فيها ويطرأ لها من دون اعتبار هذه التغيرات، وفي مقدمها ما أطلقت عليه اسم الحداثة الرثة بما تتضمنه من عناصر الآلية والتفكك والخضوع للسيطرة الخارجية ورأسمالية المضاربة.
لا تنبع أهمية ابن خلدون إذاً مما يقدمه لنا من أدوات لفهم تاريخنا الراهن وحركة مجتمعاتنا، وإنما مما يرمز إليه بالفعل من طفرة في تاريخ الفكر والعلم الإنسانيين، أي في ما يمثله بالنسبة إلينا من الانتماء الفعلي وليس الوهمي في التاريخية العالمية وفي العالمية ومشاركتنا أو شراكتنا الأصيلة في الحضارة الكونية. وهو تماماً عكس ما يتم استحضاره له اليوم لسوء الحظ. فنحن نستحضره اليوم لنؤكد أصالتنا وتميزنا، في الوقت الذي يمثل هو عالمية فكرنا وإنسانيته وكونيته التي أصبحنا نضيق بها.


* عرف الجهد الفلسفي لابن رشد انتشاراً واسعاً اعتبر رافداً مهماً من روافد النهضة الأوروبية، إذ تشكلت حوله مدرسة فلسفية تدعى «الرشدية». غير أن هذا الاحتفاء لم يكن من نصيب أفكار ابن خلدون، فهل يعود ذلك في نظر برهان غليون إلى بنية الفكر الأوروبي والإشكاليات التي طرحها على نفسه والآفاق التي رسمها لجهده النظري، أم أن الأمر متصل بخصوصية عربية إسلاميه ما، اتسم بها الفكر الخلدوني؟
* لا يدخل الفكر في مكان ما أو عند جماعة لذاته، وإنما استجابة لطلب اجتماعي. وفي اعتقادي أن الطلب على فكر ابن رشد كان قوياً في الغرب بقدر ما كان يستجيب للمناظرة الفكرية الدينية أو اللاهوتية التي كانت تسيطر على الفكر الأوروبي في سعيه للخروج من مناخ القرون الوسطى. وقد قدم ابن رشد الذي دمج في فكره فلسفة اليونان من دون أن يتجاهل الشريعة الإلهية عناصر مفيدة جداً للتيار التحرري الذي بدأ ينمو داخل الكنيسة الكاثوليكية وضدها أحياناً. وليس الأمر كذلك في ما يتعلق بفكر ابن خلدون ومنهجه التاريخي الذي لم يكن يستجيب لأي طلب اجتماعي واضح. فلم يكن التاريخ ولا كتابة التاريخ من الهموم والانشغالات الرئيسية في أوروبا تلك الحقبة، لكن الأمور اختلفت في القرن التاسع عشر عندما بدأت العلوم الاجتماعية تتأسس في هذه القارة. ففي تلك الفترة اكتشف الأوروبيون ابن خلدون، ولم يكن العرب أنفسهم قد اهتموا به. والأوروبيون هم الذين عرفونا بابن خلدون بهذه المناسبة التي تنبع من انشغالاتهم الخاصة، وليس لها علاقة باكتشاف عالم عربي أو إسلامي.


* كيف يفسر الدكتور برهان انقطاع النفس النظري الخلدوني، وعدم تأثيره في المحيط العربي في عصره بصورة توقف حالة التدهور التي كانت سائدة؟ وهل يعتبر ابن خلدون حقاً نسيج وحده، وأن فتوحاته الفكرية إنما كانت محض عبقرية فردية؟
* ما ينطبق على الأوروبيين في موضوع اكتشاف ابن خلدون والبناء عليه ينطبق على العرب أيضاً. فقد زال ما يسميه ابن خلدون بمصطلحاته ملك العرب والبربر، الذي كرّس تاريخه الجديد لوصفه وشرحه، في الوقت نفسه الذي كان يكتب فيه كتاب العبر. والواقع أن تاريخ العبر هو استكمال وإنجاز نهائي للتقليد التاريخي العربي الكبير وختام له في الوقت نفسه. فلم يعد التاريخ بعدها من صنع العرب ولا البربر ولكنه سوف ينتقل إلى الترك.
لكن علم التاريخ نفسه لم يعد يعني العرب ولا الترك الصاعدين أيضاً. فالتاريخ يأتي في حلقة متأخرة من بناء ما يسميه ابن خلدون العمران ويعبر عن اكتماله. بهذا المعنى كان كتاب التاريخ الكبير لابن خلدون نشيد رثاء وتأبين للمدنية الإسلامية في المشرق والمغرب معاً.
هكذا سيعقب تأليف كتاب ابن خلدون صعود سيطرة جديدة من نمط مختلف لا تخضع للقوانين التي اكتشفها ابن خلدون، أو لا يستنفد فهم حركتها فيها، أعني قوانين الغلبة العصبية. وسوف تنشأ دولة من نوع جديد أيضاً تتجاوز ما عرفته الدول الصغيرة التي عاش ابن خلدون تاريخ نشوئها وانهيارها. كما أن السيطرة الجديدة الصاعدة القوية لم تكن معنية بما كتبه ولا حتى بفهم قوانين صعودها هي نفسها في تلك الحقبة. فهي ما زالت في عصر التقدم والإنجاز ولم تظهر فيها الحاجة لتأمل نفسها وتبين موقعها في الخارطة الكونية والتفكير في مستقبلها. لقد كانت واثقة من نفسها وقوية بما فيه الكفاية حتى تعتقد أنها خالدة ولا خوف عليها.
لكن الأتراك العثمانيين سوف يكتشفون ابن خلدون أيضاً قبل العرب على ضوء البحث في أسباب انحطاط السلطنة العثمانية، عندما بدأت الحاجة تظهر من جديد للتأمل في مصير السيطرة الإمبراطورية وتبين مسارها وموقعها في مسار التاريخ العالمي.
لكن في ما وراء ذلك كله لا أعتقد أن ابن خلدون كان قادراً على أن يكون نقطة انطلاق تأسيس علم تاريخ حديث، لا في الغرب ولا في العالم العربي المعاصرين، حتى بعد اكتشافه من قبل العرب والأوروبيين أيضاً. فهو مطبوع بعمق بنظرة القرون الوسطى الجبرية والدائرية التشاؤمية التي لا ترى الجدليات الكونية التي تعبر المجتمعات وتوحد في ما بينها معاً. فباستثناء العناصر المنهجية النقدية والعقلية التي أدخلها في كتابة التاريخ، وهي التي تم إدراجها كما قلت في العلم الحديث وتجاوزها في الوقت نفسه، ينطوي تاريخ ابن خلدون المستند إلى مفهوم العصبية والغلبة المادية على رؤية وتأويلات محافظة ومتشائمة جداً، لا تفتح أي أفق ولا تنسجم مع المنظورات التي قادت الحداثة ورافقتها منذ الخروج من العصور الوسطى.


المحور الثاني: قضايا الثقافة العربية
* يتمفصل كل فكر حي منتج تمفصلاً مزدوجاً في اتجاه جذوره وذاكرته أولاً، وإزاء الإنتاج الفكري الأجنبي ثانياً. فما رأي الدكتور برهان في مدى تحقيق الفكر العربي المعاصر لهذه المعادلة التي يعصمه تحقيقها من الغرق في التعصب، ومن الوقوع في التغريب؟ وهل ما زال لهذه الثنائية معنى أصلاً؟
* لا يمكن الحديث عن الفكر العربي المعاصر كما لو كان إيديولوجيا واحدة موحدة. هناك داخل هذا الفكر تيارات واتجاهات وتصورات متعددة ومتباينة ترتبط بخيارات الأشخاص الذين يصنعونه وثقافتهم والسياق الذي يكتبون فيه. ولا أعتقد أن التمييز بين فكر ماضوي بتياراته المختلفة وفكر حداثوي باتجاهاته المتباينة أيضاً قد فقد راهنيته، بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت داخل كل معسكر. ثم لا بد من التمييز بين ما تسميه الفكر العربي، وتقصد به التوجهات الأيديولوجية العامة التي تسيطر على الإنتاج الفكري في العالم العربي في هذه الحقبة، وبين الدراسات والأبحاث ذات الطابع العلمي التي شهدت تطوراً كبيراً في العقود الماضية. ينبغي منذ الآن الحديث عن مناهج بحث ونظريات وتصورات محددة في شتى الميادين العلمية. لم يعد للحديث عن فكر عربي بالإجمال معنى كبير إلا إذا كان المقصود الحديث عن الخيارات الأيديولوجية الكبرى للباحثين والدارسين في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية.


* أعادت العولمة صياغة الإشكاليات واستحدثت إشكاليات أخرى في زوايا العالم الأربع، ومنها المنطقة العربية دون أن تكون الإشكاليات القديمة قد حلت من قبيل الأصالة والمعاصرة والدين والدولة والاجتهاد والديمقراطية.. إلخ، فكيف ينظر الدكتور برهان للفكر العربي في علاقته بظاهرة العولمة؟
* ما يميز التفكير العربي في هذا المجال لا يكاد يختلف كثيراً عما هو سائد في المجتمعات الأخرى. فهناك من يراهن على العولمة باعتبارها نافذة للفرص، في ما يتعلق بالانفتاح على العالم أو بالاندماج به، وتوسيع دائرة التفاعل الإنساني، واكتساب المعرفة وتعميم نمط واحد للإنتاج والبحث. وهناك من ينظر إليها باعتبارها مصدراً للمخاطر التي تهدد الهوية والاستقلالية الوطنية في مستوياتها المختلفة المادية والفكرية، لكن بالتأكيد تطرح العولمة إشكاليات جديدة على العرب وغيرهم معاً، كما تعيد طرح جميع المسائل التي لم تحل في الحقبة السابقة، بما فيها مسائل الهوية والعلمانية والديمقراطية في إطار مختلف وشروط جديدة. وبالتأكيد لم يعد هناك تركيز على الإشكاليات السابقة بقدر ما تحتل مشاكل إعادة بناء نظام عالمي جديد ومسائل الدولة والديمقراطية وبناء فضاء مشترك للعلاقات الدولية، وربما أخلاقيات عالمية، مركز الصدارة اليوم.


* شهدت الساحة الفكرية العربية منذ أواسط السبعينيات مشاريع فكرية حاول أصحابها بناء أنساق كاملة متكاملة للنهج والتفسير أو للتبشير والتنظير على نحو ما نجده عند طيب تيزيني وحسين مروة في قراءتهما الماركسية للتراث، أو في مشروع عبدالله العروي وقراءته الأيديولوجية للفكر العربي المعاصر، أو في مشروع الجابري وقراءته الفلسفية الأبستيمولوجية للتراث العربي الإسلامي، ومشروعكم أنتم ذاته وقراءته للفكر العربي المعاصر. فما هو رأي الدكتور برهان في فكرة الأنساق الفكرية نفسها، وما الدلالة الفلسفية والأبستيمولوجية في تركيز المشاريع الأخيرة على نقد العقل؟
* التركيز على نقد المعرفة السابقة هو سمة بارزة في كل مراجعة نظرية في أي مجتمع من المجتمعات. ولا شك أن المجتمعات العربية قد عرفت مثل هذه المراجعة أو لا تزال تعيشها منذ السبعينيات، على أثر انهيار ما يمكن تسميته المشروع العربي القومي الذي كان يعد العرب بمرحلة جديدة من التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي والاستراتيجي، مع بناء دولة الوحدة العربية وتحقيق الثورات التعليمية والسياسية القومية والصناعية والزراعية وتحرير الإنسان من الفقر والجهل والمرض. ومنذ ذلك الوقت ونحن نسعى إلى فهم لماذا انهار هذا المشروع، وما الذي يمكن أن يحل محله كعقيدة جديدة لتوجيه الفعل وإعادة بناء الإرادة الجمعية الموحدة، وما هي الأهداف والغايات الرئيسية للاجتماع العربي نفسه. وكان بناء الفكرة القومية التي وجهت المجتمعات العربية منذ بداية القرن العشرين، وانتهت بمشروع القومية العربية، قد أخذ أكثر من نصف قرن حتى اكتملت معالمه، هذا إذا كان من الممكن الحديث عن اكتمال في هذا المجال. ومن الواضح أننا اليوم بصدد إعادة بناء الفكرة العربية الموجهة حول قيم الديمقراطية التي تحول عوامل داخلية وخارجية كثيرة دون تحقيقها حتى الآن. ولهذا ينمو الشعور لدينا بأننا نراوح في المكان. وبالفعل فنحن نعيش في أزمة مفتوحة منذ سنوات، وليس هناك بعد في الأفق ما يبرر الأمل بتوفر العوامل الضرورية للخروج السريع منها.


المحور الثالث: مسـاءلات حول أطروحات برهان غليون
* تتلخص أطروحات برهان غليون في تشخيصه للأزمة العربية الشاملة في الصراع بين السلفية والحداثوية، وذلك في كتابيه المفصليين: اغتيال العقل (1985) والمحنة العربية: الدولة ضد الأمة (بالفرنسيه 1991 – بالعربية 1993)، إلا أن الملاحظ أنه قد جرت منذ تاريخ صدور الكتابين مياه كثيرة في النهر العربي وصارت السلفية سلفيات (شيعية / سنية – سلفية جهادية / سلفية إصلاحية..) والحداثة حداثيات (ليبرالية أو أوروبية وأمريكية..) ولم يعد التناقض الرئيسي الذي ينذر بالحرب الأهلية التي حذرتم منها قائماً بين السلفية والحداثوية، ولكن داخل السلفية ذاتها وداخل الحداثوية نفسها، ويكفي أن ننظر إلى الحرب الطائفية والدينية القائمة في مناطق من الوطن العربي أو الكامنة في مناطق أخرى في انتظار «عود ثقاب» لإشعالها. فهل يرى الدكتور برهان أن الإشكاليات والمفاهيم والرؤى التي طرحها في الثمانينيات ما زالت تحتفظ براهنيتها لفهم ما يجري في الساحة العربية.
* الصراع القائم بين الطوائف والأقوام لا يلغي الأزمة الفكرية التي تعيشها المجتمعات العربية، والتي تتجسد في انقسام الوعي، والتنازع بين متطلبات حفظ الهوية وحاجات التقدم على طريق الاندراج في الحضارة واكتساب التاريخية. إنها، بالعكس، أحد مظاهر هذا الانقسام الرئيسية ونتيجة طبيعية له. فتفكك المجتمعات العربية أو بعضها من الناحية السياسية، وهذا هو معنى النزاعات الأهلية، يشكل تجلياً من تجليات الأزمة الشاملة التي تحدثت عنها، أي أزمة الحداثة العربية أو مشروع الحداثة العربية القومية الذي تبلور قبل وبعد الاستقلالات الوطنية. وهو تعبير عن فشل المشروعات القومية والوطنية معاً.


* اشتغلتُ منذ سنوات قليلة بدراسة إشكالية العقل والعقلانية لدى برهان غليون وعبدالله العروي في دراسة تحليلية نقدية، وذلك في إطار رسالة جامعية، وقد تملكتني - شخصياً - حيرة إزاء الحل الذي تقترحونه للخروج من حالة الاقتتال في المجتمع العربي بين «السلفية المفقرة» و«الحداثوية المضيعة»، ومنشأ هذه الحيرة أنني أحس إحساساً غامضاً بأن هذا الحل هو الحل الأمثل لإدارة الصراع، ولكنني في ذات الحين لا أجده حلاً بإمكانه الصمود أمام اتهامه بالتوفيقية واللاواقعية والسحرية، كما يذهب إلى ذلك كثيرون، ومنهم سمير أمين وحلمي سالم وحسين إبراهيم.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى فضل إيضاح. فما هو رد الدكتور برهان؟
* لم أقرأ لسوء حظي هذه الانتقادات، ولا أعرف أين قرأتها أنت، ولا أعتقد أنها قائمة على أي بيان. فما قلته هو العكس تماماً من ذلك إذ وصفت الانقسام في الوعي بأنه تعبير عن أزمة أعمق بكثير من أن تكون أزمة ثقافية، ولا يمكن ترميمه من دون تغيير الشروط السياسية والاجتماعية والاستراتيجية التي تدفع إلى هذه الأزمة ولا تزال تضمن استمرارها. قلت بالتأكيد إن من واجبنا وقف الحرب، لكن هذا لا يعني إلغاء الطرفين لمصلحة تشكيل جديد ينصهر فيه طرفا الصراع. وقد أكدت ذلك بشكل واضح في الكتاب، وقلت إن أي محاولة توفيقية ستبوء بالفشل؛ لأن الانقسام ليس بالأصل ثقافياً ولكنه سياسي واجتماعي