المجتمع المدني ومشاكل إصلاحه في سورية

2007-01-05 :: أبيض وأسود

 جابر بكر

 

* بداية ما هي إمكانية نمو أو تطوير فكرة المجتمع الأهلي في سوريا؟

* استخدام مفردة الأهلي بدل المدني يعقد الامور على القاريء. الأصل أن المجتمع المدني ليس شيئا مناقضا للدولة أو خارجا عنها وإنما هو جزء لا يتجزأ من المجتمع ا لسياسي الديمقراطي، ولا يوجد من دون الدولة الديمقراطية الحديثة. بل لا تكون الدولة الحديثة ديمقراطية من دون المجتمع المدني. لماذا؟ لأن المجتمع الحديث، بعكس المجتمع التقليدي، قائم على مبدأ المساواة بين أفراده، لا على مراتب طبقية ثابتة ودائمة تحدد مكان كل فرد ودوره مسبقا، كما كان عليه الحال في المجتمع الارستقراطي، حيث تحتكر الارستقراطية من دون نقاش سلطة الحكم والقرار.  وعندما نتحدث عن مساواة فنحن نتحدث بالضرورة عن الفردية، فالمساواة تعني تكافؤ الأفراد في الحقوق والواجبات لا تكافؤ الطوائف أو الطبقات أو الأصناف. وهذا التكافؤ يعني قبل أي شيء آخر المساواة في درجة الحرية، لأنني إذا لم اكن على نفس المستوى من الحرية كالآخرين فأنا لست متساويا معهم. أي لا مساواة بين الحر والعبد. والحرية تعني بالنسبة للفرد المواطن الحديث التمتع بالحقوق الطبيعية او التي نظرت إليها النظرية السياسية الحديثة بوصفها حقوقا طبيعية، أي ليست من عطايا الدولة وإنما هي ملازمة للفرد لمجرد كونه إنسانا، وبصرف النظر عن السلطة العمومية، وبشكل سابق عليها. ولذلك لا يجوز لهذه الدولة أن تتعرض بأي شكل لهذه الحقوق أو تعتدي عليها. بل إن هذه الدولة الحديثة او سلطتها العمومية لا تستمد شرعيتها، أو لا تكون شرعية، إلا بقدر ما تضمن هذه الحقوق وتؤكد احترامها لها وقدرتها على الحفاظ عليها. متى ما أخفقت في ذلك زال مبرر وجودها أصلا. فهي حقوق أصيلة لا يمكن التصرف بها ولا يحق لأحد إنكارها على أصحابها أو انتزاعها منهم. هي وحدها، إذا شئتم استخدام تعابيرنا الرائجة التي تعبر عن همجية ثقافتنا السياسية، الخطوط الحمر التي لا يحق لأحد، لا سلطة دولة ولا فرد ولا طبقة ولا سلطة دينية أو مدنية، تجاوزها أو الاعتداء عليها.  فهي حرمة خاصة، أو أرض محرمة، كحرمة الحياة، لأن الحياة لا قيمة لها من دونها. فما قيمة الحياة الاجتماعية خارج وجود القانون والكرامة الشخصية والحريات الأساسية والمساواة في تقرير الشؤون الجماعية. ولهذا يشكل أي تجاوز لهذه الحقوب في المنظور السياسي الحديث سببا في تدمير أسس الاجتماع المدني وبالتالي تفجير الحرب الداخلية او تبرير الثورة والخروج على النظام. ومن هذه الحقوق ما هو مدني مثل حق الحياة والحفاظ عليها، وحق التنقل والعمل واختيار طريقة الحياة، ومنها السياسي المرتبط بحق التعبير وتكوين الجمعيات التي تعبر عن مصالح الأفراد وطموحاتهم، وحق المشاركة في تقرير الشؤون العامة، والحق في المساواة وفي قضاء عادل، إلى غير ذلك من الحقوق المعروفة.

من هنا، وفي هذا الإطار لمجتمع المساواة والحرية التي تضمن هذه المساواة، يبرز مفهوم المجتمع المدني وتظهر الحاجة إليه أيضا. فهو ليس شيئا آخر غير تكاتف الأفراد المتساوين والأحرار، عبر المنظمات الطوعية، للدفاع عن حقوقهم وحمايتها، في إطار دولة تقوم على مبدأ القانون والسيادة الشعبية، من أي أخطار يمكن أن تتعرض لها، سواء أجاءت من داخل الدولة أو النخب التي تسيطر عليها، أو من داخل المجتمع وفئاته المختلفة. لكن إذا انعدمت هذه الحقوق أصلا، أو قام نظام الدولة نفسه على نفيها والتضحية بها، أي إذا لم تكن السلطة العمومية قائمة على شرعية مستمدة من ضمان ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم، ومرتبطة بموافقتهم وتأييدهم، لن تكون هناك حاجة للمجتمع المدني ومؤسساته، بل من الصعب أن ينبثق مفهومه أصلا أو يدرك الناس معناه. وهي الحالة التي نعيشها في الواقع في مجتمعنا، حيث الحق هو حق السلطة في التحكم الشامل في كل ما يعني الفرد أو يتعلق به، بعقيدته وفكره وعمله ومصالحه وعلاقاته العامة والخاصة، بينما لا يملك الفرد سوى حق التأييد والطاعة والامتثال. في دولة استبدادية لا يمكن لمفهوم المجتمع المدني أن يكون شيئا آخر سوى مفهوم نقدي وناقض معا، أي رديفا للاحتجاج على نزع الحقوق الطبيعية وللكفاح من أجل استرجاعها. وهو ما يعكس واقعنا بدقة اليوم حيث ترفض الدولة المفهوم نفسه وتحاول أن تقضي بكل الوسائل عليه، بتبديل ألفاظه ومعناه، وبإنزال العقوبات اللا إنسانية بمن يستخدمه لتطوير ممارسة سياسية مختلفة تفتح أفق بناء مفهوم الحق، وما يعنيه من حرمة حياة الشخص وحقوقه وحرياته وأمنه، وتأكيدها في وجه سلطة عاتية. نمو المجتمع المدني، كمفهوم وكممارسة وكهيئات، يرتبط إذن بشكل مباشر بقدرة المجتمع، عبر كفاح أبنائه، على كبح جماح نزعة التسلط الكامنة في كل سلطة وقوة، وفرض قيود على استخدام السلطة، أي في قدرته على توسيع فسحة الحرية في نظام السياسة على حساب السلطة المطلقة. ولأن الأمر يتعلق بممارسة وليس بتفكير مجرد فقط، ليست النتائج محسومة سلفا ولا يمكن أن تكون. إنها مرتبطة بنجاعة استراتيجيات المقاومة وتقدمها المطرد. وكما هو الحال في كل معركة هناك احتمالات التقدم والتراجع والتوقف أحيانا، كما أن هناك احتمالات النجاح أو الإخفاق. لكن بالتأكيد ليس هناك أي أمل لأي مجتمع باسترجاع حقوقه وحرياته، وبالتالي بناء نظم سياسية وهيئات مدنية إنسانية تحترم الفرد وتحرم انتهاك حقوقه، من دون مقاومة فعالة وناجحة للاستبداد وفرض احترامه عليه. فالمجتمع المدني والحرية صنوان لا ينفصلان. إنه ببساطة ممارسة الحريات العامة من قبل الأفراد. ولا يمكن أن يوجد من دونها. ولذلك أيضا، لا يمكن للاستسلام أن يفضي إلا إلى المزيد من استباحة السلطة العمومية، بل والسلطات الخصوصية الأهلية، الدينية والطائفية والعشائرية، لحقوق الأفراد وحرياتهم، وبالتالي للمزيد من التسلط وانتهاك القانون والفساد والانحطاط المادي والأخلاقي معا.

 

*  إلى أي حد يرتبط المجتمع الأهلي وبناؤه بالإصلاح السياسي؟

* اعتقد أن الأمر واضح. بقدر ما ينتزع المجتمع من السلطة العمومية، التي من المفروض أن تكون ممثلة له ونابعة منه، الاعتراف بحقوقه وحرياته، تنمو قدرته على التكون كمجتمع مدني، أي على تنظيم نفسه في هيئات مدنية طوعية ومستقلة، لا تخضع لسيطرة الدولة ولا تشكل ادوات في يد السلطة العامة لإخضاعه وتكبيله، كما هو الحال في ما نعرفه من تنظيمات نقابية واجتماعية خاضعة مباشرة للدولة والحزب. ومن الخطأ أن نتصور أن أي نخبة حاكمة ستتنازل من تلقاء نفسها عن سلطاتها الاستثنائية متى ما حصلت عليها، حتى لو كانت نخبة ديمقراطية أو منتخبة حسب الأصول الديمقراطية، فما بالك بسلطة قامت على القوة، وتدرك أن من المستحيل لها أن تستمر من دون تخليد القوانين الاستثنائية التي لا هدف لها سوى ضمان حرمان الأفراد من حقوقهم وحرياتهم الأساسية. والقصد أن الاصلاح السياسي يحصل داخل نظام سياسي معين لا في الفراغ المجرد. وهو يحصل لتحسين عمل النظام القائم لا للانقلاب عليه. وإصلاح النظام الاستبدادي يهدف إلى تعزيز دور النخبة المستبدة وتأمين شروط إعادة إنتاجها، تماما كما يهدف الاصلاح في النظام الديمقراطي إلى تعزيز آليات العملية الديمقراطية وتوسيع دائرة مشاركة الأفراد فيها، وبالتالي تأمين شروط  أفضل لإعادة إنتاج النخبة الديمقراطية، أي زيادة فرص التداول النزيه والسلس للسلطة بين النخب الاجتماعية الأكثر جدارة.

 

*  ما هو شكل الإصلاح المطلوب إن كان سياسيا أو قانونيا؟

* كما ذكرت، يمكن للنظام القائم أن يقوم بإصلاحات عديدة قانونية وسياسية، مثل تعديل قانون الانتخابات الشكلية الراهن، وتوسيع الجبهة التقدمية المتحجرة، وتنشيط العلاقات بين أطرافها، بل وربما تخفيف قبضة الأجهزة الأمنية على الحياة الخاصة والعمومية معا، في الشارع والإدارة والمؤسسات الاقتصادية وغيرها. فهي قبضة مبالغ فيها بشكل كبير ولا تخدم النظام ولكنها تسيء إليه في نظر الرأي العام المحلي والخارجي لأنها تظهر خوفه وهشاشته، وتقدم عنه صورة سلبية لنظام بدائي لا علاقة له بمفهوم الحكم السياسي ولا العصر، ولكنه أقرب إلى تحكم الامراء الإقطاعيين في القرون الوسطى بأقنانهم وأتباعهم. لكن هذه الاصلاحات سوف تعزز النظام القائم ولن تفضي إلى توسيع دائرة ممارسة الحريات والحقوق الطبيعية ولا إلى ظهور مجتمع مدني حي ونشيط وفاعل. وهوس النظام الشديد وغير المبرر بأمنه واستقراره هو الذي يمنعه من تحقيقها.

بالمقابل، لا قيمة للاصلاح السياسي إلا عند الاعتراف بضرورة الخروج من نظام السلطة المفروضة بالقوة والقائمة على فرض الإذعان، والدخول في منطق السلطة الصادرة عن الشعب والمعبرة عن سيادته الأصيلة والاعتراف بحقه في أن يكون المرجعية الأولى والأخيرة لها. لذلك منذ بداية هذا العقد من القرن الجديد قلت أنه لا امل في أي تقدم سياسي في سورية من دون تفكيك نظام الحزب الواحد والسلطة المطلقة القائمة على تخليد القوانين الاستثنائية وتعليق القانون. وهذا التفكيك ممكن، ولا يحمل أية مخاطر على أحد إذا حصل على أساس التفاهم بين القوى السياسية والثقافية والنخب الاجتماعية عموما، وتم في إطار سلمي وتدريجي مسيطر عليه. ومن دون البدء بعملية التفكيك الإرادية هذه لن يكون هناك أي إصلاح لا سياسي ولا حتى إقتصادي او إداري. ولن يكون هناك أي امل بأي جهد نبذله. بل إن جميع جهودنا سوف تذهب سدى، لأن فساد النظام الأحادي القائم أصبح على درجة من الشدة والعمق لا يسمح بتحقيق أي إصلاح بل إنه قادر على ابتلاع أي تقدم مهما كان صغيرا في هذا السبيل. من هنا، لم يعد من الممكن تحقيق أي إصلاح من دون تغيير الأسس التي تقوم عليها ممارسة السلطة في البلاد، أي من دون الالتزام بالأسس الديمقراطية التعددية التي تحترم مصالح الجميع وتعترف بحقوقهم الأصيلة في المشاركة واتخاذ القرار. فهي التي تضمن وحدها تجديد القيادات المدنية والسياسية وإدخال دماء غير ملوثة، وخلق شروط ولادة قوى حية غير مهترئة ولا مستهلكة.

 

* هل تعتقد فعلا أن المشكلة تكمن في السلطة الرافضة للمجتمع الأهلي وأفكاره أم أن المجتمع بالتكوين السكاني والثقافي غير قادر على التأقلم مع هذه الفكرة ومتطلباتها؟

* تكمن المشكلة في الاثنين. في المجتمع الذي يفتقر، بسبب ضعف مستوى الثقافة السياسية الحديثة، وسيطرة الايديولوجيات القوموية والاسلاموية المديدة، للقيم المدنية عموما، بما تشمله من تمثل النزعة الانسانية التي تشجع على احترام الفرد والتسليم بحقوقه الفطرية التي لا يمكن التصرف بها أو انتهاكها، وقبول المساواة الأخلاقية والسياسية والقانونية، وممارسة الحرية التي لا تنفصل عن تمثل مفهوم المسؤولية، واستطان معنى العدالة القانونية، واكتساب القدرة على المشاركة في تقرير المصائر العمومية. كما تكمن في السلطة التي تستغل نقاط ضعف ثقافة المجتمع السياسية، وتعمل على تعميقها، من أجل تأمين وسائل ا لسيطرة الشاملة التي تتيح لها حرية التصرف الكامل بالموارد العامة، والحكم والإدارة من دون الحاجة إلى تحمل المسؤولية، أو إلى تقديم كشف حساب عن سياستها واختياراتها الاستراتيجية. لكن النتيجة هي فساد جميع مؤسسات الدولة، وانحطاط لا مثيل له في مستويات الأداء السياسي والإداري والاقتصادي، وتأخر مطرد للمجتمع، وفساد للعلاقات الانسانية، وتدهور معايير السلوك، يهدد بدفع مجتمعنا نحو التوتر والتصادم الداخلي والعنف والبربرية.

وهذا يلقي مسؤوليات كبيرة على جميع النخب الاجتماعية، السياسية والثقافية والاقتصادية. وينبغي أن يدفع الجميع، نخبا وأفرادا، إلى إدراك الحاجة الملحة لتغيير سلوكنا وأساليب عملنا البالية، والتفكير بشكل أعمق في معنى المصلحة العمومية الذي يبدو لي أنه الغائب الأكبر في سياساتنا العامة والخاصة معا.

 

* كيف ترى مستقبل هذه الفكرة أو الطموح؟

* التنظيمات الأهلية التي نسميها المجتمع المدني ليست جزءا لا يتجزأ من بنية الدولة الديمقراطية الحديثة فحسب، أي الدولة التي نسميها بلغتنا: الوطنية او القومية، في مقابل الدولة الطائفية والإقطاعية والدينية، ولكنها تشكل اليوم، أكثر من ذلك، الإطار الجديد الذي تراهن عليه النخب الاجتماعية، في كل البلدان، لتعميق  الشعور بالمسؤولية، وتعزيز المبادرات الابداعية الحية، وتوسيع دائرة المشاركة للشعوب في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لمواجهة تحدي المنافسة الشديدة التي تنشؤها العولمة الموضوعية. والمسألة واضحة وبسيطة: إذا لم ننجح في تفعيل مجتمعاتنا وتفجير قواها وطاقاتها الابداعية سوف نذهب ضحية النخب والدول التي تظهر مقدرة أكبر على إطلاق قوى التجديد والمبادرة والابداع في حضن مجتمعاتها. وحتى لا نذهب بعيدا، نستطيع منذ الآن أن نقارن وضعنا بوضع بلدان عربية أقل موارد منا بكثير، تنافسنا وتبزنا في كل شيء، في مستوى تأهيل الأطر والكوادر واستيعاب المعارف وجذب الاستثمارات وتطوير الثقافة والتفاعل مع العالم والاندراج في الحياة الدولية. نكاد نبدو أمام العديد منها عزبة إقطاعية خارجة من القرون الوسطى، سعيدة بفقرها وتأخرها وفخورة بالعزلة التي تضربها على نفسها، تستمريء العيش على التقاليد والأعراف القديمة التي ورثتها، وترفض الجديد والمبدع باعتباره يشكل خطرا على وجودها، بينما تستبدل التنمية الانسانية الجدية، التي تعنى بالفرد الإنسان، بمشاريع قوة فارغة، وتجعل من التعبئة الايديولوجية والغوغائية قناعا لإخفاء الهشاشة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتفاقمة. للأسف يبدو لي أن كل سياساتنا لا تهدف اليوم إلا إلى التغطية على الأزمة العميقة التي نعيشها وتجنب التفكير الجدي فيها وفي التضحيات المطلوبة للتغلب عليها.