الثورة بين الدولة الدينية والمدنية

:: face book

 

يسأل البعض ما المقصود بالتيارات والاتجاهات المدنية التي غالبا ما توضع، في سياق الصراع الراهن في ثورات الربيع العربي على مفهوم الدولة، المدنية والاسلامية، في مقابل التوجهات والتيارات الدينية. 
والجواب هو أن من ينادون بالدولة الاسلامية يعتقدون أن قوانين الدولة وتنظيماتها وإدارتها وكل ما يتعلق بها ينبغي ان يستمد من الأحكام الشرعية، أي الدينية. وبهذا المعنى تصبح السياسة، أي إدارة الدولة وتسييرها، فصلا من فصول الفقه، الذي يقوم عليه رجال الدين المختصون والقيمون على تأويل النصوص الدينية، من كتاب وسنة، وتفسير أهدافها ومقاصدها وغاياتها. وهذا على قاعدة أن الاسلام دين ودنيا، أي أنه يحكم أمور الحياة كلها، العقدية والمادية.

بالمقابل، ينظر أنصار الدولة المدنية إلى الدولة بوصفها تنظيما لشؤون الحياة المادية، ونوعا من التنظيمات التي تستمد مبادءها من الرأي العقلي، وتتطور مع التجربة وتقدم الحضارة، وأن السياسة بالتالي ليست من ميدان الفقه الديني الذي تستمد أحكامه من تأويل النصوص، وإنما هي من ميدان العلم والتجربة والرأي والاجتهاد العقلي. الدولة المدنية تقاد بالعقل، ويشارك في قيادتها وتطوير تنظيماتها وطرائق عملها، وشكل إدارتها، جميع أصحاب الاختصاص، من رجال السياسة والحرب والاستراتيجية والصناعة والزراعة والعلوم المختلفة، وأيضا من رجال الدين، لكن ليس وحدهم، وذلك حسب ميدان الاختصاص وانطلاقا من معايير الفاعلية والخبرة العملية والنجاعة المادية والأخلاقية.

فإذا كان المطلوب من رجل الدين أن يجتهد لايصال روح الرسالة الدينية لجمهور المؤمنين، من أجل ضمان سلامة اعتقادهم، وموافقة ممارستهم الدينية لمقاصد الشرع، وبالتالي مطابقة سلوكهم لأوامر الدين وأخلاقه، وهذا هو السبيل لضمان خلاصهم في الدنيا والآخرة من الناحية الدينية، فإن المطلوب من رجل السياسة ليس خلاص الأفراد الديني تجاه خالقهم بالدرجة الاولى، وإنما تنظيم شؤون حياتهم والارتقاء بقدراتهم العلمية والعملية، ووتعظيم قدراتهم على منافسة غيرهم من المجتمعات في تمثل العلوم والتنقنيات المدنية والعسكرية الارتقاء بمستوى معيشتهم، وكل ذلك من خلال تحسين طرائق الإدارة وسياسة الدولة والصناعة والزراعة والتعليم والصحة وغيرها من النشاطات الاجتماعية. وهذا لا يتحقق إلا باكتساب العلوم واستلهامها في التنظيمات المدنية، في الحرب والصناعة والزراعة والعلوم والبحث، وغير ذلك.

فإذا كانت مهمة رجل الدين مساعدة المؤمن على تطبيق مباديء الدين بصورة سليمة، فإن مهمة رجل الدولة هي تنظيم شؤون المجتمعات بطريقة تسمح لها بتأمين حاجات المجتمعات المادية من غذاء وكساء ودواء وسكن وأمن وسلامة الأرواح والأرزاق. وكلها أهداف مرتبطة بتطوير الوسائل ولا علاقة لها بالغايات، من مثل تحقيق التقدم في تنظيم الجيوش وقوى الأمن ووسائل الانتاج والتعليم وكل ما يتعلق بالتقدم المادي والعلمي والتقني.

والواقع ليس هناك تناقض بين الدولة المستندة في إشادة مؤسساتها على الرأي والعقل، وتحقيق مباديء الدين ورسالته، بل إن العكس هو الصحيح. لأن المجتمعات التي تخفق في تحقيق الحد الأدنى من التقدم المادي في الوسائل، ويتدهور مستوى معيشتها المادي، تنحط أخلاقيا ودينيا في الوقت نفسه. ولأنه لا يوجد تناقض بين الدين والعلم، لأن علم الدولة يتعلق بالوسائل، أي بالآلات والتقنيات والتنظيمات، وعلم الدين يتعلق بالتعريف بالغايات الكبرى والقيم التي تحكم حياة الأفراد والجماعات. وكل مجتمع يستخدم الوسائل ضمن الغايات وحسب القيم التي يستلهمها من عقائده وثقافته. فالصناعة كالحرب والإدارة وتسيير المجتمعات وعلوم الطبيعة، ليست مرتبطة بدين أو محكومة بمذهب معين، وإنما هي من متعلقات العقل الذي هو الهبة المستركة للانسان كإنسان.

وقد جاء في الحديث،”إعقلها وتوكل”. فالعقل هو العمل بالخبرة والتجربة والتامل والاجتهاد بالرأي، والتوكل هو الثقة بالله واستلهام آياته وأحكامه وقيم الدين ومقاصد الشريعة الكبرى وغاياتها المرتبطة بتحقيق العدل والصلاح في الدنيا والآخرة. فالعقل والتوكل أو الايمان، يتكاملان بمقدار ما ينجح المجتمع في تحديد ميدان اختصاص كل منهما، ويعرف كيف يتجنب الخلط بين ما هو من ميدان الرأي والعقل، وما هو من ميدان الوحي والنقل والعبادة. فكلاهما، العقل والوحي، آية من آيات الله وفضله وكرمه على العالمين..