عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل

 

يتزامن صدور كتابي "عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل"، مع الذكرى الثامنة للثورة السورية بعد انقطاع عن التأليف  دام لعقد كامل تقريبا. فلم يكن من السهل نفسيا واخلاقيا تحرير اي بحث قبل تحرير الذات من عبء التجربة السلبية التي جسدها الفشل في إنجاز المهمة التي أوكلت الى المجلس الوطني والي شخصيا، والذي سيكون له وقع مأساوي على مصير الثورة ومآلها، وعلى مستقبل سورية لسنوات وربما لعقود. قاوم رغبتي العنيدة في كشف الغطاء الخوف من سوء الفهم والاستغلال الرخيص بينما كانت المعركة مفتوحة. لكن لم تفارقني فكرة أن التاريخ جاء ألينا مقبلا على موجة عالية، وبدل أن نصنعه بأيدينا، تعاملنا معه، كما تتعامل الفئران مع قطعة من الجبن. خنا التاريخ فخاننا.

 

ومع ذلك، ليس موضوع هذا الكتاب تاريخ الثورة السورية. فتاريخ الثورة ينبغي البحث عنه في المبادرات والمسيرات والتضحيات اللامحدودة للأفراد والقرى والأحياء، والجهود العبقرية لشباب التنسيقيات، وفي الإبداعات الفنية، وقصص التضامن والأخوة الإنسانية التي فجرتها المواجهة الواحدة، وفي روح المحبة والاتحاد التي أزالت جميع المخاوف والانقسامات، في مقاومة الهمجية، وفي عبقرية شعب جعل من التضحية بأبنائه علامة الانتماء لوطن الحرية والإخاء، واستنهض في ذاته نوابض القوة المعنوية المستحيلة. وهو التاريخ الذي لم يكتب بعد ولن يكتب قبل أن ينجلي غبار المعركة وتخمد نيرانها.

وليس موضوع هذا الكتاب أيضا نقد الثورة أو طي صفحتها كجزء من الماضي. بالعكس، إن حافزة الرئيسي هو تخليص إرادة التحرر التي أطلقتها من الأشراك التي وقعت فيها، واستئناف المسيرة التي لن تتوقف، منذ الآن، قبل أن تحقق أهدافها.

وليس هدف هذا الكتاب أخيرا البحث عن كبش فداء وتحميله جميع المسؤوليات، شخصا كان أم جماعة أم تنظيما، وإنما الكشف عن البنية الفكرية والسياسية التي تسكن كل واحد منا، وتطبع سلوكه تجاه الآخر وتحدد مكانته في الدائرة الجامعة. وهي بنية تقوم على زرع انعدام الثقة، والشك بالآخر، والهرب من المسؤولية، والاعتداد بالذات، والمراهنة على الانجازات الفردية والشخصية وحدها. سوف يثير هذا الكتاب ردود أفعال كثيرة بالتأكيد، لأنه في الكثير من فصوله يظهر بشاعة سلوكنا وتصرفنا بعضنا تجاه بعض، لكنه لم يكتب لإثارة النزاع ولا لفتح النار على أحد وإنما لإطفائها وقطع الطريق على إشعالها، فليس هناك أفضل من المكاشفة ورؤية الذات على حقيقتها طريقا للتحرر من مكبوتاتها واختلاطاتها، والعودة إلى نبع الوعي الصافي، وعي الذات بذاتها.

ما قوض جهودنا ليس نقص الشجاعة وروح التضحية، ولا غياب الإرادة الخيرة عند الأفراد، فقد كانت التضحية العلامة الفارقة الأبرز لنشطاء هذه الثورة وجمهورها، وإنما سوء توجيهها. ينطبق علينا القول إن الطريق إلى الجحيم مزروع بالنوايا الحسنة. قوة الايمان بقضيتنا والثقة بانتصارنا، وغياب روح العمل الجماعي عن ممارساتنا، لعقود طويلة، جعل كل فرد منا يعتقد أنه الأكثر وعيا بمصالح الكل، والأكثر قدرة على تمثيلها وتحقيقها، وفكر وعمل من موقعه، وحسب زاوية نظره، واعتقد بصلاح خطته وسعى إلى فرضها على الآخرين أو سار فيها لوحده، ونظر إلى من اختلف معه في الرؤية والخطط على أنه متهاون او متردد أو خصم. هكذا سلك كل واحد منا الطريق الذي ارتآه لنفسه من دون اعتبار لأي شيء آخر. والنتيجة أن إرادات خيرة كثيرة حكمها التنافس والتنازع والتسابق، حتى عندما كان تسابقا على البذل والتضحية، بدل أن تتقاطع وتشكل قوة كبرى حاسمة، بقيت متباعدة، مشتتة ومتضاربة، وساهمت من دون أن تدري في إنتاج الكارثة.

لم يكن العطب في الأفراد، مهما كانت أخلاقهم ونفسياتهم ومواهبهم أو ثقافتهم، إنما في نمط العلاقات التي تجمع بينهم وتوحدهم أو تحولهم إلى أعداء فيما بينهم. هذا النمط هو الذي حرم السوريين من تشكيل قوة ذاتية تاريخية، وأحبط في النهاية جميع المبادرات العبقرية التي حفل بها كفاحهم من أجل الحرية، وحرمهم من قطف ثمار تضحياتهم الاستثنائية.

قلت لا يبحث هذا الكتاب في تاريخ ثورة السوريين، ولكن، بالأحرى، في تاريخ إجهاضها، الذي هو ذاته تاريخ العجز عن بناء القوة الاجتماعية والسياسية القادرة على ترشيد الجهود، وتثمير التضحيات، وتوجيه الخطى. وهو الذي انتهى بها إلى تخبط القوى وضياع بوصلتها، وانتحال شخصيتها وتجييرها لأجندات خاصة محلية أو خارجية. وليس عطب الذات سوى عجزنا عن تكوين هذه القوى المنظمة والمؤهلة لقيادة ثورة شعبية، وفهم رهاناتها، والتقاط المعنى الاستثنائي للحظة التاريخية الذي جسدها اندلاعها.

لذلك ليس للأمثلة الواردة هنا ولا لذكر الأسماء أي طابع شخصي. إن ما يهدف إليه هو الكشف عن تلك النمطية الاجتماعية التي تجعل من مجموع سلوكات حسنة النية ومنسجمة في ذاتها، لأفراد لا يشك أحد بنزاهتهم وشجاعتهم وإخلاصهم، سلوكا مدمرا ولا عقلانيا على مستوى المجتمع الشامل. إنها مراجعة عامة لسلوكنا الجماعي. فما من شك في أن قسطا من مسؤولية الفشل في الخروج من دوامة القيادات المتعددة والمتوازية، والذي دفعني لتقديم استقالتي من رئاسة المجلس بعد أشهر قليلة من تأسيسه، يقع على كاهلي، لعجزي، نتيجة ضعف الخبرة أو قلة الصبر أو الغرور والاعتداد الزائد بالذات، عن استيعاب هذا التعدد والتضارب في الإرادات والأجندات، وإخفاقي في تجاوزها وتوحيدها. فهذا الكتاب هو أيضا في أحد وجوهه الرئيسة مراجعة للذات.

مهما كان الحال، لا أعتقد أن قيمة هذا الكتاب الحقيقية تكمن بشكل أساسي في ما يسرده من وقائع رسمت مسار الثورة السورية لثمانية سنوات، وإنما في ما يمكن أن يثيره من نقاشات ويطلقه من حوارات، هي أكثر ما يحتاجه السوريون اليوم لاستعادة التفكير المعمق بتجربتهم الفذة والأليمة معا، ولتمكينهم من استيعابها وهضمها وتجاوزها في الوقت نفسه، تماما كما كان إنجازه بالنسبة لي تحريرا للنفس والفكر والقلم معا. وأعتبر أن هذا الكتاب قد حقق غايته إذا ما نجح في تحفيز من شارك في التجربة أو ساهم في نشاطاتها على تقديم روايته الشخصية للأحداث، لتتقاطع الرؤى ووجهات النظر، وتشكل إثراء حقيقيا لتجربة السوريين، وتساهم في تطوير تقاليد الحوار والمناظرة السياسية والفكرية الضرورية لبناء السلام والمستقبل معا. وأخيرا، أرجو أن يتقبل القاريء اعتذاري عن كل ما يشوب هذا الكتاب من نقص ونقاط ضعف، انا أكثر الناس دراية بها، لكن لم يسمح لي ضغط الوقت بتلافيها، على أمل أن يتم استدراكها في طبعات أو نصوص قادمة.

النسخه الاكترونية

تحميل

تعريف بالكتاب

 

 

 

 

عبد الناصر العايد، القدس العربي

14/03/2019

 

كتاب برهان غليون الجديد، “عطب الذات”، الذي سيصدر في منتصف هذا الشهر، فريد في موضوعه، وسيبقى علامة فارقة في الأدبيات السياسية العربية، وأحد كلاسيكياتها لزمن طويل.

 

إذ يروي فيه أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون، وأحد أهم المنظرين السياسيين العرب في نصف القرن الماضي، قصة اختبار منظومته الفكرية الثرية، على نار واحدة من أهم وأخطر التجارب السياسية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي الثورة السورية، من موقع الفاعل والمحفز والقائد لأهم مؤسسة انبثقت عنها، وهي المجلس الوطني السوري، لا من موقعه المعتاد كمفكر ومثقف.

 

يبدو الكتاب من الناحية المنهجية نوعاً من السيرة الفكرية والسياسية لمؤلفه، وبهد المعنى لا يمكن له إلا أن يجمع بـ”الضرورة بين البحث والتحليل”. ويضيف غليون في مقدمته إنه بوضعه لهذا الكتاب يفي بدينين في ذمته “الأول تجاه الناشطين الشباب الذين وضعوا ثقتهم بي ودفعوني لأقود المجلس الوطني الذي كانوا وراء تأسيسه، والثاني تجاه جامعتي التي منحتني اجازة مدفوعة لعام كامل، لأتفرغ لنشاطي في المعارضة”، باعتبار أن هذا النشاط نوعاً متقدماً من البحث “السياسي” المتقدم الذي تحتفي به الجامعة.

 

وفي المقام الآخر يبدو الكتاب “تصفية حساب مع لحظة استثنائية من تاريخ سياسي بلغت فيها الفاعلية التاريخية حدها الأقصى، حالة فوق الزمن وخارجه، قضى فيها أشخاص بسطاء وتقريبا من دون تاريخ، في معركة شرف حقيقية، فيما سقطت فيها وجوه لم تستطع ان تغادر عتبة التاريخ الماضي، وبقيت تتناحر على مواقع سلطة وهمية بدل المخاطرة وتقاسم المسؤولية”،” وهو ايضا كتاب عن “الضعف الانساني، وأحيانا الغدر والخيانة، التي عملت في الظهر، وما كان من الممكن أن لا يصيبني منها قروح لم تندمل بعد وربما لوقت طويل”. على حد وصف غليون لكتابه في المقدمة.

 

لا يتمحور الكتاب اذا من وجهة نظر مؤلفه حول الثورة، بل حولنا :” نحن السوريون، نشطاء ومعارضون وفصائل مقاتلة، أداؤنا فيها وفهمنا لإشكالاتها وتعاملنا مع رهاناتها”. وهو لم يكتب لـ” تفسير اندلاع الثورة السورية، ولا نفي أطروحات القوى التي نظرت إليها كتمرد أو ثورة إسلامية أو طائفية او علمانية، أو الإجابة عما إذا كانت انتفاضة أم ثورة أم تمردا أم فورة شعبية، ولا إلى تفسير الحرب الوحشية التي ووجهت بها، وأسبابها. إنه يهدف بالدرجة الأولى إلى تحليل ممارستنا خلالها، ومشاهدة أنفسنا، أفرادا واحزابا وتكتلات وشعبا، في مرآتها، للتعرف على الأسباب التي رفعتنا إلى مستوى السمو الأخلاقي المذهل في بداية الثورة، وتلك التي أرجعتنا إلى عصر التوحش والبدائية في نهاياتها التي لم تنته ولا تريد أن تنتهي. أي على السوريين، بوصفهم : ذاتاً فاعلة جمعية”.

 

يعتمد برهان غليون في هذا الكتاب على تجربته الشخصية في المجلس الوطني، وعلى معايشته للمشاكل التي واجهتها المعارضة والفصائل المسلحة و”عجزت عن حلها”، وعلى النقاشات والحوارات العاصفة التي خاضها مع أوساط سياسية ودبلوماسية، عربية واجنبية عالية المستوى، لكنه يحاول أن يبين:” أنه فيما يتعلق بفهم مسار التحولات الاجتماعية لا يمكن الفصل بين العوامل الذاتية والشروط الموضوعية، وأن ضعف الأول يساهم في تعظيم أثر الثاني والعكس”.

 

ويركز الجزء الأول من الكتاب حول الشخصيات والمؤسسات الفاعلة التي انخرطت في الثورة:” في علاقتهم فيما بينهم ومع السلطة والمجتمع معاً، أي على تحليل العوامل الذاتية، الذي لم يحظ بما حظي به تحليل الشروط الخارجية والجيوسياسية من الاهتمام”. وتركز البحث بشكل رئيسي على “انقسام النخب الاجتماعية وتفتتها وتفكك مؤسسات المجتمع المدني وبالتالي غياب الإطار الاجتماعي ورصيد الثقة والألفة الذي يحتاج إليه تجميع الأفراد وانسجامهم ومقدرتهم على توليد قيادة من داخلهم، لا مفروضة عليهم، وهي المشكلة الرئيسية التي واجهت السوريين في تثمير جهودهم وترجمتها إلى مكاسب سياسية ثابتة. وهذا ما ساهم في ارتفاع حجم التضحيات وضعف مردودها السياسي، وقاد إلى تعزيز أثر القوى الخارجية في توجيه الصراع وحرفه لخدمة مصالحها وأهدافها”.

 

سيجد الكثيرون في هذا الجزء من الكتاب، الذي يعج بالأسماء والوقائع، نوعاً من تصفية الحسابات مع زملاء غليون في المعارضة السياسية السورية، سواء من وردت أسماؤهم، أو من تم تجاهلهم، وسيحاول الكثير ممن اشترك في الاحداث أو كان شاهداً عليها، معارضته بتقديم روايات مغايرة، والبعض سيجد فيها نوعاً من تبرئة الذات، والقاء اللوم على الآخرين. وقد يرى غيرهم إنها نوع من استعادة غليون لمكانه الفكري والثقافي، المتعالي عن حضيض “السياسي” والإجرائي، الذي يبدو إنه لم يحقق فيه ما حققه في الفكر والثقافة. لكن غليون العارف بكل هذه الإشكاليات، التي قد يطرحها بحث يتناول ظاهرة حيّة، بل نازفة، يؤكد إن كتابه معني بنقد “خياراتنا”، “أما ذكر الأسماء فلم يكن له وظيفة اخرى سوى التحقق من الواقعة وتأكيد الصدقية، وكان من الممكن لأي واحد منا وجد في الظروف ذاتها، أن ينزع إلى تبني الخيارات ذاتها”.

 

أما الجزء الثاني فيتعرض لـ “لخيارات السياسية، والصراعات التي دارت من حولها بين التيارات الثلاث التي سيطرت على مسارها، وارتبطت برهانات التدخل الدولي، واللجوء إلى السلاح وأسلمة الانتفاضة وقواها الفاعلة” ويخلص غليون إلى “أن ما جرى للثورة وللمجتمع والدولة في سورية، في السنوات الثمانية الماضية، لم يكن حتمية تاريخية وإنما ثمرة رؤى واختيارات سياسية واستراتيجيات حددت في النهاية مصير الانتفاضة بأكملها، بالرغم من أنها لم تكن في أغلبها خيارات واعية بمقدار ما كانت ردود أفعال، لجأ إليها أفراد وتبنتها جماعات لم يكن يوجد بينها أي تنسيق ولا يربطها ببعض، أو أغلبها، إلا إرادة الخلاص من النظام القائم، وسرعان ما أنجبت اجنداتها الخاصة وتحولت إلى قيادات مستقلة، من دون أي مرجعية سياسية أو فكرية واضحة”.

 

ناقش المؤلف في الجزء الثالث، دوافع السياسات الدولية تجاه الانتفاضة واختلافاتها، فيذهب فيه غليون إلى خلاف الرؤية السائدة في أوساط النشطاء، والرأي العام لجمهور الثورة عموما، فما “غلب على المجتمع الدولي ليس التفاهم ضد الثورة أو التخطيط لإفشالها، وإنما بالعكس تباين المواقف وتعدد السياسات وتقلبها، وتخبط الخيارات، وفي مقدمها داخل الإدارة الأمريكية، وتبدلها مع تطور الاحداث وتغير موازين القوى ومسار الانتفاضة نفسها. وهذا ما انعكس على موقف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي وجدت نفسها عاجزة عن القيام بأي مبادرة ذات معنى. لم تكن مواقف الدول محسومة سلفا ولا مستقرة على حال”.

 

وفيما يشبه النتيجة البحثية، المشوبة بعوامل التجربة الذاتية، يخلص غليون إلى ما يمكن اعتباره خلاصة تجربته: ” لقد كانت خسارتنا للحرب العسكرية ثمرة تدخل القوى الأجنبية من دون أدنى شك، لكن فشلنا في تكوين قيادة وطنية، أي في التصرف كشعب واحد وأمة، لا كمجموعات متعددة، حزبية وقومية ومذهبية ومناطقية، متنافسة ومتنازعة، يرجع إلينا وحدنا، وهو الفشل الذي يفسر أيضا إلى حد كبير شكل التدخلات الأجنبية ونتائجها”.

 

لكنه أيضا يقرّ من ناحية أخرى أن ذلك الفشل، كان نتيجة حتمية، و” ما كان من الممكن ان يحصل في سورية غير ما حصل. وكان من شبه المستحيل، من دون معجزة، ان تولد قيادة سياسية موحدة، تجمع القوى المتناثرة وتوحدها وتنتزع المبادرة وتوجه مسار الثورة وخياراتها غير ما توجهت اليه. والسبب أنه لم يكن في سورية شعب بالمعنى السياسي للكلمة. فقد كان همّ النظام القائم وبرنامج عمله، منذ ولادته، تفريغ الشعب من كل صفاته ومضامينه وتحويله إلى جماعات متنافرة ومتناحرة، وتوجيه بعضه ضد البعض الآخر، للاحتفاظ بتفوقه وسيطرته. وفي سبيل ردعه عن القيام بأي محاولة للخلاص من الطوق الذي فرضه عليه. وأحاط النظام، أي النخبة القائدة والمسيرة له والمستفيدة منه، نفسه بحزام ناسف، وأعلن استعداده لتفجيره في أي لحظة، تماما كما يفعل انغماسيو داعش، للقضاء على أي أمل لدى الخصم بالانتصار. ولم يكن هذا الحزام الناسف شيئا آخر سوى العصبية الطائفية التي أحياها وأعاد صياغتها لتبقى في خدمته، والذي استخدمها للانتقال بالدولة والمجتمع من نظام جمهوري مضطرب وغير مستقر إلى حكم فردي لم يلبث حتى تحول إلى حكم وراثي مطلق”.

 

يعيدنا التشخيص الأخير إلى سلسلة أعمال برهان غليون المرجعيّة: (بيان من أجل الديمقراطية، اغتيال العقل، النظام السياسي في الإسلام، نقد السياسة: والدين والدولة، حول الخيار الديمقراطي، الوعي الذاتي، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، المحنة العربية: الدولة ضد الامة، حوار الدولة والدين، حوارات من عصر الحرب الاهلية، ازمة النظام العربي واشكاليات النهضة)، وهي المكتبة السياسية التي تتلمذ عليها معظم نشطاء الثورة السورية، ذوي الميول الديمقراطية والليبرالية، ومنهم كاتب هذه السطور واعتبروها مرجعهم الفكري الأول، ويتخذ “عطب الذات” موضعه في هذه المكتبة كإطار “اجرائي”، أو ميداني، بلغة البحث العلمي، يختبر فيه المفكر والمثقفجلّ أطروحاته ومقولاته وفرضياته، من خلال خوض غمار “الثورة”، والتحولات الاجتماعية، التي نظّر لها وبشر بها لنحو نصف قرن، ليخلص إلى نتيجة واضحة، يعلنها عنوان الكتاب، البليغ والقاسي :”عطب الذات”، والذي سيتكشف القارئ إنه يريد القول إن المشكلة ليست في الفكر ولا النظرية، بل في عجز القوى ومؤسسات المجتمع، المصابة والجريحة، عن النهوض بالمهمة التاريخية، وإنجاز التحول الاجتماعي الكبير، وإنه تحتاج إلى اصلاح ضروري وعاجل، فيما لو أردنا الانتقال بشكل صحيح من الميدان النظري، إلى ميدان الممارسة العملية، للوصول إلى النتائج المأمولة.

 

الانطباع العام الذي يخرج به قارئ “عطب الذات” هو أن برهان غليون لم يدخل معترك العمل السياسي مدفوعاً بشهوة السلطة، بل بشغف الباحث والمفكر، وربما كان هذا أحد أسباب خسارته في هذا الميدان، فالشره للسلطة هو من يصنع تاريخ السياسي، وهو مالا يمتلكه، وتفتقر إليه المجموعة الكبيرة من المثقفين الذين تصدوا لقيادة الحراك السوري، في ظل عدم توفر “سياسيين” متمرسين، الأمر الذي دفع اشخاصاً أميين بالمعنى الحرفي للكلمة، لموقع القيادة والفعل، وهو جانب من جوانب العطب الاجتماعي التي يؤسس هذا الكتاب لتجاوزها، في زمن وتجربة أخرى أكثر تقدماً.

 

“عطب الذات”، الذي يأتي بعد نصف قرن من كتابه برهان غليون الرائد “بيان من أجل الديمقراطية”، وبعد بضع سنوات من تحقق نبوءاته بعد تفجر ثورات الربيع العربي، يمثل “التتمة” الإجرائية أو الميدانية، ليكون بمثابة: دليل ثورة قادمة.