هل تملك فرنسا سياسة عالمية بديلة؟

2003-11-07:: BG.BLOG

بفضل موقفها المتميز من عدد كبير من المسائل التي تتعلق بالشرق الأوسط، ونسبيا بأسلوب تنظيم الشؤون الدولية، نجحت السياسة الفرنسية في أن تغير بالعمق من الصورة السلبية التي كانت تحتلها فرنسا في المخيلة العربية بسبب الحروب الاستعمارية وحرب الجزائر بشكل خاص وأن تستبدلها بصورة مناقضة لها تماما. فبسبب مثابرتها على التمسك بحل عادل للقضية الفلسطينية يضمن للفلسطينيين قيام دولة مستقلة وقابلة للحياة، وفي ما وراء ذلك، مبادراتها الاستراتيجية الخاصة بايجاد حلول سلمية للمشاكل التي تعاني منها المنطقة الشرق أوسطية، وفي مقدمها مشكلة النزاع العربي الاسرائيلي. وقد تأكد هذا الموقف مع المقاربة الفرنسية للمسألة العراقية بعد حرب 1991 التي شاركت فيها مع قوات التحالف الأمريكية البريطانية. فبعكس الولايات المتحدة سعت أظهرت فرنسا تفهما أعمق لمشكلة عراق ما بعد الحرب الكويتية ولم تكن تعارض تخفيف الحصار الذي فرض على البلاد. لكنها وقفت بشكل واضح ضد الحرب التي شنتها القوات الأمريكية البريطانية للقضاء على النظام البعثي في العراق في أبريل 2003 ورفضت المشاركة في إضفاء الشرعية الدولية عليها ولا تزال تبذل جهودا دبلوماسية واضحة من أجل تقصير أجل الاحتلال وتسليم السلطة إلى حكومة عراقية متتخبة. ومما ييساعد على ترسيخ الصورة الجديدة لفرنسا الدور الرائد الذي لعبته الدبلوماسية الفرنسية ولا تزال تلعبه في تكوين استقطاب دولي قادر على عرقلة خطط الولايات المتحدة لتثبيت نظام سيطرتها الأحادية على العالم وسعيها المستمر للتأكيد على ضرورة السير بالنظام العالمي نحو صيغة تضمن التعددية القطبية وتعزيز دور منظمة الأمم المتحدة ومكانتها في حل النزاعات الدولية
ويالرغم من أن الجهود الفرنسية لم تتكلل بالنجاح في ايجاد الحل السياسي الذي تدعو له على أي جبهة من جبهات النزاع الأقليمي والدولي الراهنة إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اليوم أن باريس قد ساهمت، أكثر من أي قوة كبرى أخرى مثل الصين وروسيا واليابان وألمانيان في إعطاء مصداقية لفكرة و إمكانية نشوء نظام عالمي جديد قائم على التعددية في مكان السياسة الأحادية الامريكية السائدة اليوم. وهذا ما يدفع المحللين السياسيين إلى الاعتقاد بأن هناك عودة ما إلى السياسة الديغولية التي ارتبطت بالتأكيد على روح الاستقلال تجاه الولايات المتحدة والدفاع عن المصالح الفرنسية عبر بلورة سياسة عالمية بديلة أو مقابلة للسياسة الامريكية.
لكن في العالم العربي، كما هو الحال في العالم أجمع، يتنازع الرأي العام تجاه هذه السياسة الفرنسية والدور الذي تلعبه موقفان متناقضين تماما في تقييمهما للجهد الفرنسي في إطار خلق قطب تعددي يواجه إرادة التفرد بالقرار الدولي من قبل الولايات المتحدة. فمقابل قطاعات الرأي العام التي تراهن على أن تنجح فرنسا والقطب الأوروبي الذي تقوده في التعويض عن انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى موازية وموازنة للولايات المتحدة، ويرى في السياسة الفرنسية بارقة الأمل الوحيدة في عالم اليوم الظالم، هناك قطاعات واسعة من الرأي العام العربي والعالمي التي تعتقد أن الموقف الفرنسي لا يعدو أن يكون سياسة استعراضية تدفع إليها مشاعر العظمة الفرنسية وحب الظهور والخوف من التحول إلى قوة ثانوية لا حساب لها في موازين القوة الدولية. والسبب في ذلك أن فرنسا تفتقر للوسائل التي تسمح لها بتطبيق سياسة عالمية سواء أكانت وسائل عسكرية أو مالية أو حتى تكنولوجية. وبالتالي لا يمكن لهذه السياسة أن تنطوي على آفاق فعلية. وفي هذه لحالة لا تكون سياسة فرنسا المناوئة للانفرادية الأمريكية سوى نوعا من الدون كيشوتية السياسية التي لا تضر ولا تنفع
لكن هناك قطاعات أخرى من الرأي العام العالمي التي تذهب إلى أبعد من ذلك في استنتاجاتها وتعتقد أن السياسة الفرنسية ليست بعيدة عن أن تشكل بديلا للسياسة الأمريكية فحسب ولكنها ليست في العمق سوى سياسة وطنية ضيقة. فكل ما تقوم به الدبلوماسية الفرنسية هو وضع أكثر ما يمكن من الأوراق في يدها كي تحسن من موقعها في المفاوضات التي تجريها مع واشنطن، وأنها لا تملك أي سياسة أو بالأحرى أجندة حقيقية في ما يتعلق بللدول العربية والنامية التي تظهر الدفاع عنها في المحافل الدولية وإنما تستعملها في سبيل زيادة حصتها من الكعكة العالمية التي تسعى إلى اقتسامها مع واشنطن والدول الصناعية الأخرى. وهذا يعني أنها تستخدم هذه الدول النامية كأوراق ضغط، ولا يهمها مصيرها وما يحصل لها في ما بعد عندما تتعرض للهجمات الأمريكية، كما أنها لا تتردد في التخلى عنها عندما تحصل على المنفعة الخاصة بها. ولا يخفي هؤلاء أن مثل هذه السياسة لا يمكن أن تنتهي إلا بتوريط الدول الصغيرة في صراع مصيري مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تستطيع فيه فرنسا في أي لحظة، وبسبب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن بالرغم من تنافسها معها، أن تحمي نفسها وتضمن مصالحها الحقيقية. ويقدم هؤلاء أمثلة عديدة على هذا الانعطاف المفاجيء في سياسة المباديء الفرنسية مثل مشاركة باريس في قوات التحالف الدولي للحرب ضد العراق عام 1991 بعد أن أظهرت تفضيلها لحل سلمي للنزاع وتصويتها في ما بعد، بالرغم من التردد والتمنع الأولي، على القرارات الدولية التي سمحت بفرض الحصار على العراق ثم بتكريس احتلاله بعد عام 2003 من قبل القوات الأمريكية.
وفي ما وراء هذه التحليلات المتباينة لسياسة فرنسا الدولية، لا يكف العرب، مسؤولين ومثقفين ورجال أعمال، عن التساؤل في كل مرة تحصل فيها مواجهة عربية أمريكية أو عربية إسرائيلية تتخذ فيها باريس موقفا متميزا عن التحالف الاسرائيلي الأمريكي في الشرق الأوسط في ما إذا كانت فرنسا تخوض مواجهة حقيقية مع الولايات المتحدة أم أنها تسعى فقط إلى عرقلة مشاريع واشنطن في المنطقة في سبيل فرض نفسها كشريك عليها لا أكثر، وهي بالتالي مستعدة للتراجع عن مواقفها في أي لحظة والاصطفاف، في نهاية المطاف، ورغم العنعنات، على خط واشنطن في كل ما يتعلق بالمسائل الأساسية والحاسمة في الشرق الأوسط والعالم معا. فما هي بالفعل حقيقة السياسة الفرنسية الشرق أوسطية والدولية؟ هل تخوض فرنسا مواجهة مع الولايات المتحدة لتقريب أجل بناء عالم متعدد الأقطاب وقائم على احترام القانون وإيجاد تسويات عادلة للنزاعات العالمية والإقليمية أم أنها تستخدم الصعوبات التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها الولايات المتحدة في سبيل فرض نفسها واحترام مصالحها على واشنطن والاحتفاظ بدور وموقع متميزين في السياسة الدولية؟ وهل يكون الباعث على السياسة الفرنسية الجديدة استياء باريس، مثلها مثل عواصم العالم أجمع، من سلوك الولايات المتحدة الانفرادي الذي يستفز جميع شركائها التي تتجاهلهم ولا تسأل عنهم أم هو انبعاث حقيقي للديغولية وبالتالي أكثر عمقا وتجذرا؟ وما هي الأسس التي يستند إليها هذا الانبعاث وهل هو حقيقي أم مظهري لا هدف له سوى التغطية على التسليم العملي العميق بالقيادة الأمريكية العالمية والاستفادة من الصورة الايجابية التي تقدمها المقاربة الفرنسية للشؤون الدولية في سبيل الحفاظ على المصالح والمواقع التي لا تزال باريس تسيطر عليها في مناطق العالم المختلفة؟ ومن الواضح أن الاجابة عن هذه الأسئلة شرط لا غنى عنه لمعرفة إلى أي حد يمكن المراهنة من قبل الدول النامية والعربية بشكل خاص على السياسة الفرنسية الخارجية في سبيل تقليص دائرة النفوذ الأمريكية التوسعية أو على الأقل موازنة الضغوط العنيفة التي تمارسها الولايات المتحدة على هذه الدول في سعيها إلى بسط سيطرتها العالمية الشاملة.