نهاية الحقبة الوطنية العربية

2002-08:: الجزيرة نت

تبخرت جميع الآمال التي راهنت على الضغوط الشعبية والإعلامية القوية التي برزت في السنوات الماضية من أجل تفعيل الإرادة الرسمية العربية في مواجهة الحرب الاسرائيلية المعلنة التي لا تزال اسرائيل تخوضها منذ سنتين متواصلتين لتدمير مقاومة الشعب الفلسطيني ودفعه إلى الهجرة والارتحال. وبدل الخروج من حالة الشلل التلقليدية نحو مبادرات جماعية عربية مشتركة زاد الارتماء الفردي لكل دولة ونظام على الولايات المتحدة وتكرس الالتحاق بالاستراتيجيات الدولية. فلم يعد يبدو أن لدى العالم العربي استراتيجيات ولا خطط ولا مشاريع وطنية أو إقليمية ولا مقترحات ولا حتى جدول أعمال فردي أو جماعي خاص به. أي لم يعد يبدو أن فيه سياسة ولا تنظيما للحياة العمومية خارج إطار التأطير القائم على الصهر المؤلم لجميع الأفراد والقوى والاتجاهات في أتون السلطة الأمنية البغيضة التي تراهن على تعقيم الأفراد والمجتمعات ومنعهم من التفكير والتنظيم والمبادرة والعمل ومن باب أولى من الإبداع. وما يستولي على المراقب السياسي للأوضاع العربية اليوم هو الشعور المؤلم بانعدام الرؤية والافتقار للإرادة ومن ثم بغياب القيادة والاستسلام إلى المصير القدري.

حتى الآن حافظت النظم العربية بالرغم من كل التجاوزات التي بدأت بتوقيع اتفاقات كمب ديفيد الانفرادية على حد أدنى من التواصل مع أطروحات وقيم وأفكار وآمال الحركة الوطنية العربية التي تمت وتصاعد نفوذها في الخمسينات من هذا القرن وتمحمورت حول قيم ثلاث رئيسية : الدفاع عن مفهوم قوي للاستقلال الوطني والسيادة, الحفاظ على التضامن العربي كموجه رئيسي في السياسات الوطنية والإقليمية, التمسك بمفهوم شعبي أو شعبوي للشرعية حتى في الحالات التي كان فيها الشعب سجين آلة القهر البيرقراطية.
هذه هي القيم التي يتوجب على النظم العربية التخلي عنها اليوم والتي هي في طريقها لقطع الصلة تماما بها. وهذا هو ثمن بقائها في الخدمة والشرط الضروري أيضا لاندماجها في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الدولية والإقليمية التي تسيطر اليوم على مقاليد الأمور في المنطقة الشرق أوسطية.
سيشهد المستقبل القريب تنامي خيارين رئيسيين وتزايد نفوذهما في عموم المنطقة العربية. الخيار الأول تطوير سياسات الشل الكامل للمجتمع كوعي مستقل وإرادة حرة أو بالأحرى في العديد من الأقطار استكمالها, وبالتالي تحييد المجتمع وإبعاده عن أي قرار أو احتمال التأثير في قرار, ومن ثم قتله وتجميده. والخيار الثاني الالتحاق السريع والشامل لجميع النظم العربية بالسياسة الأمريكية والانخراط الحماسي في الحرب ضد الارهاب مع الميل إلى إثارة الفتن الداخلية لتحويل الساحات السياسية العربية الداخلية إلى مسارح مستقلة وإضافية للحرب ضد الارهاب ترضي غرور النخبة الأمريكية التي تعتقد أو أصبحت تعتقد أن العرب كمجتمعات, لا النظم السياسية, هم مصدر التفريخ الرئيسي للارهاب العالمي بسبب ثقافتهم القرسطوية ودينهم التعصبي وأعرافهم البربرية. فالالتحاق بالاستراتيجات الدولية الأمريكية, وفي سياق ذلك القبول بالتضحية بفلسطين والشعب الفلسطيني, هو الأمل الوحيد المتبقي عند النظم العربية التي تواجه أزمة داخلية طاحنة في علاقاتها الداخلية مع مجتمعاتها وفي علاقاتها الخارجية مع الدول الصناعية وفي مقدمها الولايات المتحدة, لإعطاء نفسها دورا وبالتالي مبرر وجود يسمح لها بالهرب بجلدها.
والسنوات القادمة ستكون مطبوعة ببناء سياسات الالتحاق العملية والنظرية بالسياسات الأمريكية وبحث كل نظام لنفسه عن دور في هذه السياسات أو في تحقيق السيطرة الامبرطورية الأمريكية وتحول الجامعة العربية ذاتها وجميع المنظمات العربية الفرعية إلى أدوات طيعة لخدمة الأهداف الأمريكية الإقليمية والعالمية, وفي مقدمها ضبط الشعوب العربية وتقييدها. وسيكون جوهر السياسات المحلية لنظم الحكم القائمة هو مقايضة التعاون الشامل مع واشنطن بالبقاء في الحكم وغض نظر الأخيرة عن ممارساتها الداخلية.
ولدينا منذ الآن مؤشر مهم على الأسلوب الذي سيتم من خلاله تطويع النظم وتحقيق استسلامها, وهو التحول الهائل في موقف الدول العربية من الإرهاب. فبعد أن كان مطلبها الرئيسي تحديد الارهاب وتعريفه والدعوة إلى مؤتمر دولي لتحقيق هذا الهدف كشرط للتعاون في أي سياسات ترمي إلى محاربة الارهاب اختفت فكرة المؤتمر الدولي لتعريف الارهاب تماما من جدول أعمال الدول العربية وأصبحت هذه الدول تتنافس فيما بينها على انتزاع لقب الدولة العربية الأكثر تعاونا مع واشنطن في ضرب الارهاب وصارت تتبارى فيما بينها لتقديم أقصى ما تستطيعه لمساعدة المخابرات الأمريكية على القبض على مواطنين عرب قد يكون لهم وقد لا يكون لهم ضلع في أي إرهاب. بل إن النظم العربية لن تتردد في المستقبل في تقديم قوائم كاذبة عن إرهابيين محتملين إلى المخابرات الأمريكية والأوروبية في سبيل إظهار أهمية مساهمتها في الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل هذه الدول الكبرى وعلى الصعيد العالمي. إننا نسير نحو حالة تتحول فيها النظم المحلية إلى ميليشيات تعمل لصالح الدول الكبرى وتستبيح لذلك, من دون خوف من العقاب, جميع الحقوق المدنية والسياسية لشعوبها.

لكن, بعكس ما يعتقد أصحاب هذه الاستراتيجية, لن تكون النتيجة بالضرورة تفتيت الشعوب والجماعة العربية وتكسير إرادتها وتركيعها, أي استمرار أو تعميق المصير الشرق أوسطي الذي أسست له اتفاقات سايكس بيكو ولكن, ربما بحظ أكبر, العودة إلى مناخات شبيهة بمناخات الخمسينات التي شهدت نمو الحركات الشعبية القوية وتعاونها على مستوى العالم العربي في مواجهة انظمة ونخب حاكمة جمعت هي ايضا في ذلك الوقت بين انعدام الكفاءة القيادية وغياب الشعور بالمسؤولية الوطنية والخنوع المذل والمهين لإرادات ومخططات الدول الأجنبية.

سيقع على كاهل الحركة الديمقراطية في المرحلة القادمة وحدها أو بشكل رئيسي قيادة الحركة الشعبية والوطنية الجديدة نحو النصر وبلورة الخطط والاستراتيجيات العملية التي تساعد على تحقيق الاهداف الشعبية والوطنية تماما كما قادت الحركة القومية في الخمسينات حركات الاحتجاج الشعبية والوطنية لمقاومة النخب المنحلة والفاسدة ومواجهة المخططات والمشاريع الاستعمارية التي كانت ترمي إلى إخضاع المجتمعات العربية لمصالح الدول الكبرى وتثمير مواردها بما يخدم أهدافها. وتعني القيادة تحقيق مهام نظرية, أي بناء التصورات والرؤية الواضحة والانسانية لطبيعة النظم المجتمعية التي سوف تخلف النظم القهرية الراهنة الرامية إلى تامين مصالح النخب السائدة فحسب على حساب المجتمع بأكمله وضده. كما تعني تحقيق مهام عملية ترتبط بقدرة النخب الديمقراطية الجديدة على صوغ استراتيجيات واضحة واتباع سياسات عقلانية وجريئة لا ترتعد امام القوى الكبرى والأكبر ولا تهن أمامها ولا تهون من قدراتها أيضا, وعلى تبني أساليب عمل فعالة وناجعة, أي تأخذ بالاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والدولية ولا تستسلم لإغواء الخطابات والمواقف الغوغائية والانتصارات الكاذبة.
وهذا يعني أن المهمة الرئيسية التي ستواجه النخب الوطنية في السنوات القادمة هي بناء هذه الحركة الديمقراطية فكريا وعمليا. ولا يمكن بناؤها لتكون حركة شعبية ووطنية فاعلة ونشيطة إلا بالنجاح في تجاوز التناقضات العدائية التي خلفتها الحقبة السابقة بين التيارات الايديولوجية المختلفة اليسارية والليبرالية والاسلامية. كما لا يمكن بناؤها ما لم تنجح النخب والقيادات الجديدة من تجاوز الروح والنزعات الشعبوية وعدم تكرار أخطاء الخمسينات التي ضيعت الكثير من الفرص وهدرت طاقات هائلة من دون طائل لتحقيق الانتصارات الوهمية والرمزية وطورت قيما سلبية مضرة ومفقرة قائمة على الحماسية الشعاراتية الفارغة وغياب الحسابات العقلانية وإحلال الطليعة أو بالأحرى مفهوم الطليعة القائدة محل مفهوم الشعب لتجنب طرح مسألة بناء الوحدة الشعبية بناءا حقيقيا يأخذ بالاعتبار الشعب من حيث هو مجموعة من المصالح المتميزة والإرادات الفردية المستقلة والتناقضات التي يحتاج تجاوزها وإفراز إرادة موحدة وطنية إلى بناء أطر قانونية وبلورة وسائل سياسية للقيادة والسلطة ديمقراطية وحية وفعالة.
بالتأكيد لن تكون الحركة الديمقراطية العربية وحيدة في الميدان. فدمقرطة الحياة الدولية والوطنية سوف تشكل المحرك الرئيسي لجميع حركات الاحتجاج العالمية المتصاعدة في مواجهة الدمار المتزايد والفوضى الشاملة التي تنتجها سياسات واستراتيجيات السيطرة الأمريكية العالمية وأزمة الرأسمالية المعولمة التي تفتقد للأدوات القانونية والحدود السياسية التي تضبط جنوحها نحو التراكم البدائي والتوسع الوحشي واستخدام وسائل الغش والمضاربة والتلاعب بالأسعار والبيانات الكاذبة لتحقيق أقصى الأرباح أو الحد من تقلص معدل الربح كما أظهرت ذلك الفضائح الأخيرة للعديد من الشركات الأمريكية الكبرى.
وفيما يتعلق بإمكانية التحالف مع حركات ديمقراطية دولية, من الواضج أننا مازلنا في بداية الطريق. لكن منذ الآن لا نستطيع أن ننفي الفرص الكبيرة التي يفتحها التعاون مع منظمات حقوق الانسان والحركات الديمقراطية المناهضة للعولمة النيوليبرالية وحركات الاحتجاج الدولية على السياسات البيئية والاقتصادية والعسكرية للدول الكبرى. لكن من المؤكد أن النظم العربية, بالتعاون مع النظم الصناعية المتقدمة, سوف تعمل المستحيل أيضا في سبيل الحد من احتمال تطور مثل هذه التحالفات وقطع طريق التواصل بين القوى الديمقراطية العالمية. وهذا يعني أن على هذه القوى والحركات أن تفكر منذ الآن في بناء أطر التضامن العالمي الجديدة وتزويدها بالامكانيات والوسائل الكفيلة بتحويلها إلى أطر فاعلة وناجعة. وهو ما يشكل اليوم في نظري أكبر تحد تواجهه حركة التحويل الديمقراطي العالمية وعلى حله سيتوقف نجاحنا في التحقيق السريع للإصلاح العالمي.