ميتافيزيقا الإرهاب أو تحويل العرب من ضحايا إلى جلادين

2002-01:: الوطن

نجح الجهل والخوف والاستخفاف بالعرب والمسلمين في العقود الأربعة الماضية في تعميم فكرة فاسدة كليا مفادها أن الإرهاب أو العنف ليسا أسلوبا في العمل السياسي يمكن أن تتبناه أي مجموعة بشرية بصرف النظر عن ثقافتها ودينها وحتى شروط حياتها المادية، وإنما هو نمط من السلوك الحضاري أي الخاص بحضارة معينة، وبالأحرى اللاحضاري الذي يسم سلوك المسلمين بسبب اعتقاداتهم الدينية أو تقاليدهم الثقافية بل ومولداتهم البيولوجية أو النفسية. ويلتقي هذا الطرح الذي رافق انطلاق إشارة الحرب الأمريكية ضد الإرهاب مع اعتقاد قديم يزداد حضورا يوماً بعد يوم في العالم الغربي مفاده أن الشخصية العربية والإسلامية هي بطبيعتها شخصية عنيفة أو تحب العنف.
فمن المثير أن الرئيس الأمريكي الذي أعلن حربا شاملة على الإرهاب لم يجد في قوائمه المتعددة التي نشرها البيت الأبيض منظمة أو شخصية واحدة في العالم غير إسلامية يضعها على قائمة المنظمات والشخصيات والشركات المستهدفة في هذه الحرب والتي طلب تجميد ممتلكاتها. وبالرغم من التصريحات الكثيرة التي حاول من خلالها قادة الحلف الأطلسي نفي تهمة استهداف العالم الإسلامي بأكمله إلا أن المعلومات والقوائم واتجاهات البحث في الإرهاب تذهب جميعاً إلى تكريس فكرة الارتباط الطبيعي والحتمي بين الإسلام والإرهاب، أو على الأقل بين الإرهاب والمنظمات الإسلامية.
لكن الأمر يتجاوز رجال السياسة والحكم الذين يميلون إلى تبسيط الأمور غالباً من أجل الحصول على تعبئة سريعة وقوية للرأي العام الذي يستندون إليه لتبرير سياساتهم وإضفاء صفة الشرعية عليها. ومن يقرأ العديد من الكتابات والتصريحات التي ظهرت منذ الحادي عشر من سبتمبر في الصحافة والإعلام الغربيين يكاد يشعر أننا أمام اختلاق ميتافيزقا حقيقية للإرهاب. فإلى جانب كتابات الكثير ممن يطلقون على أنفسهم اسم المختصين بالإسلام والدراسات الإسلامية الذين لا يميزون بين الإسلام من حيث هو دين وحضارة ومن حيث هو جماعات متعددة المشارب والمصالح والميول، وبالتالي قادرة على تأويل الاعتقادات الدينية وتفسيرها بما يتماشى مع مصالحها أو ميولها الفكرية أو منازعها النفسية، وبالتالي على توليد تصورات مختلفة ومتباينة تتراوح بين التصوف التنزيهي المطلق والإسلام السياسي المتطرف والعنيف، هناك رجال الإعلام الذين يندر أن يكون أحدهم قد قرأ صفحة واحدة عن الإسلام في كل مستوياته وصوره الدينية والثقافية والحضارية والسياسية معا. ومع ذلك فهم يسمحون لأنفسهم بالخوض في الموضوع مع محدثيهم كما لو كانوا من أصحاب العلم والاختصاص. وقد سمعت أنا نفسي مذيعاً يحاصر في إذاعة فرنسية محدثه الشيخ السنغالي قائلاً كيف تقول إن الإسلام لا يدعو إلى العنف بينما هو يدعو للجهاد. أليست الدعوة إلى الجهاد هي دعوة للعنف وقتال جميع من هو ليس من المسلمين؟ ومثل هذا الحصار ذاته من قبل الصحافة القليلة الإلمام بالإسلام هو الذي دفع مختصا معروفا في الدراسات الإسلامية في فرنسا "برونواتيين" إلى الاعتراف في مقابلة صحفية بأن فهم هذه العلاقة بين الإرهاب والإسلام يستدعي اللجوء إلى علم النفس الأقوامي (صحيفة الفيجارو 21 سبتمبر 2001م
وكان الصحفي قد جادله بأن المسلمين ليسوا وحدهم من يتعرض للعنف أو يعاني من شروط حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية صعبة. ومع ذلك فهم وحدهم من دون المجتمعات الأخرى يلجؤون أو يستسهلون اللجوء إلى العنف لحل مشاكلهم الداخلية والخارجية.
ليس من الممكن ولا المطلوب أن ننكر نحن العرب والمسلمين أن هناك العديد من المنظمات الإسلامية التي تنزع لاستخدام العنف ولا تتورع عن اللجوء إلى وسائل لا إنسانية لتحقيق أهدافها. بيد أن من الظلم والخطأ معاً الاعتقاد بأن استخدام العنف هو سمة من سمات المجتمعات الإسلامية أو المنظمات المتطرفة التي تنشأ فيها. فقد مارست العنف في الشرق وفي الغرب جماعات دينية وغير دينية قومية وإثنية. وما عرفته أوروبا في مطالع القرن العشرين من حركات إرهابية، ومن تمردات وثورات استخدمت العنف والإرهاب، ثم من حروب قومية أو شبه قومية واستعمارية مدمرة، وما شهده العالم في نهاية القرن العشرين من حروب تطهير عرقي في دول ومجتمعات لا تمت بصلة إلى العروبة والإسلام، يدعو أو ينبغي أن يدعو جميع المراقبين والسياسيين والإعلاميين إلى التأني في إطلاق الأحكام واستخلاص الاستنتاجات حول الإسلام وغيره من العقائد والثقافات الإنسانية.
بالتأكيد يمكن للمراقب المحايد أن يلاحظ إلى أن هناك اليوم تركزا كبيرا للعنف واستخدام العنف في المنطقة العربية والإسلامية. بيد أن هذه الملاحظة ينبغي أن تدعو إلى التأمل في طبيعة الظروف الخاصة التي تدفع مجتمعات العرب والمسلمين، أو بعضها، إلى الانخراط في مثل هذا العنف. ذلك أن أي دارس موضوعي للتاريخ يكتشف بسهولة أن هذا العنف لم يكن دائماً سمة من سمات السلوك العربي أو الإسلامي. فقد كانت صورة المسلمين في بداية القرن الماضي معاكسة تماماً لما هي عليه اليوم، ومرتبطة بالخمول والاتكالية والجبرية، أي التسليم للخالق وانعدام الإرادة الخاصة والإيمان بالقدر والزهد في بذل أي جهد. وبالعكس لقد تطور اللجوء إلى العنف في العالم العربي والإسلامي، تماماً كما هو الحال في المجتمعات الأخرى، مع دخول هذا العالم في الحياة الحديثة وتزايد اندماجه في قيم الحياة الدولية والسياسية وتعرضه أيضاً للمخاطر العديدة الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تثير العنف وتستفزه.
والقصد من ذلك ليس تبرئة المجتمعات الإسلامية من تهمة العنف، فليس لهذا أي قيمة سياسية أو ثقافية أو أخلاقية، ولكن الإشارة إلى أن العنف ظاهرة تاريخية وليس ماهية مرتبطة بأي ثقافة. وهي بالنسبة للمجتمعات العربية ظاهرة حديثة جداً، وليس من الصعب تذكر تاريخها من قبل الأجيال الحية من العرب والغربيين أنفسهم.
ويكفي أن نعود إلى الوراء لأقل من عقدين حتى نتذكر كيف أن الرئيس الأمريكي ريجان عندما وضع عام 1985م مشروعاً لضرب الإرهاب قد أعلن ضرب الحصار على مجموعة من الدول معظمها غير عربية وغير إسلامية وفي مقدمتها كوريا الشمالية ونيكارجوا وإيران وكوبا.
ولو رجعنا بذاكرتنا ثلاثة عقود إلى الوراء فقط لاختلف مشهد العنف اختلافاً كبيراً عما هو عليه اليوم. فقد كان الموطن الرئيسي للإرهاب، وكان موجها دائماَ بصورة أساسية ضد الولايات المتحدة، أمريكيا لاتينيا، وكان قبل ذلك آسيويا. وقد تعلم العرب أساليب الاغتيال والعنف وحرب العصابات وحروب المدن من الحركات الأمريكية اللاتينية التي ترجموا مختلف كتبها في حرب العصابات وحرب المدن. وهذه نفسها تعلمت هذه الأساليب من أجهزة الأمن الغربية ذاتها. ومن الصعب لأي شعب أو ثقافة أو دين أن ينجب ما أنجبته أوروبا النازية والفاشية من عنف وإرهاب فاقا في وحشيتهما وعمومية تطبيقهما جميع ما عرفه العالم من قبل. ويمكن القول اليوم إن ما حصل من تكريس للعلاقة بين الإسلام والإرهاب يتجاوز في عنفه كل أشكال الإرهاب التي قام بها العرب أو المسلمون بقدر ما يجعل من شعوب كاملة فريسة للعنصرية والكراهية والعدوان المشرع لنفسه. وحتى لو كان المسؤول عن عمليات واشنطن ونيويورك وغيرها من بقاع العالم منظمات إسلامية أو عربية، فليس هناك إلا فكر عنصري يسمح لنفسه بأن يحمل العرب والمسلمين أو ثقافة العرب والإسلام مسؤولية هذه العمليات التي قامت بها فئات معدودة وجماعات منظمة بقيت لفترة طويلة خارج سيطرة الدول العربية نفسها، وتطلب منهم دفع ثمنه. ولا يمكن لمثل هذا العمل إلا أن يعبر عن التقهقر السريع في المعايير السياسية والأخلاقية لحساب تنمية روح العصبية القومية والدينية الشبيهة بعصبية مجتمعات القرون الوسطى.
لدى العرب والمسلمين إذن أسباب مشروعة للاعتقاد بأن هناك محاولة قوية لتوظيف شعار الحرب الشاملة ضد الإرهاب لإضعاف مواقع المجتمعات العربية والإسلامية. ومن الطبيعي أن يثير التصور الميتافيزيقي للإرهاب والعنف الذي يتماشى مع المناهج الثقافوية السائدة في العلوم الاجتماعية اليوم مخاوف كثيرة لدى الشعوب العربية والإسلامية. فهو يعني في الواقع تجاوز كل المضامين السياسية لحركة المجتمعات ونزع الشرعية سلفا وبشكل مسبق عن أي حركة مقاومة عربية سواء أكانت مقاومة وطنية ضد الاحتلال الأجنبي أو مقاومة لنظم استبدادية قهرية تفرض نفسها بالقوة.
وهذا يعني أن العنف، سواء وسمناه بالإرهاب أو بالعنف المشروع. ملازم للمجتمعات البشرية، أو على الأقل لقد لازمها حتى الآن بقدر ما تميزت السلطة القائمة في هذه المجتمعات أو النظم الدولية التي تربط فيما بينها بالتلاعب بالقانون أو بانعدام الأطر القانونية والأخلاقية المقبولة والمصوت عليها من قبل الجميع. وهو سوف يستمر طويلاً أيضاً. ولا يمكن تبرئة المجتمعات البشرية من هذا العنف إلا عندما ننجح في وضع أطر قانونية تضمن لجميع الأطراف، داخل المجتمع الواحد، وعلى صعيد العلاقة بين المجتمعات، الوسائل الكفيلة بتمكينها من الدفاع بوسائل سلمية عن مصالحها الحيوية. وهذا يعني ضمنا بلورة واضحة لهذه المصالح الحيوية.