من أجل علمانية إنسانية

2007-09-23:: موقع أوان

 في مقال نشره في "موقع الأوان" بعنوان "العلمانية والعلمانية السورية" اشتكى وائل سواح مما يتعرض له مفهوم العلمانية في نظره من هجوم متزايد من قبل "معظم المثقفين" العرب. وميز فيهم بين فئتين رئيسيتين: فئة المفكرين الدينيين أو الاسلاميين الذين يرفضون العلمانية أصلا باعتبارها مخالفة لعقائدهم، وهم ممن يسهل الرد عليهم، ثم فريق من المثقفين، لم يحدد هويته، ينتقد في نظره العلمانية ويناصبها العداء سرا، "خجلا أو تقية أو مداورة". ويحتاج إلى جهد أكبر للرد عليه، ومن بين من ضرب بهم المثال برهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.

وليس هناك شك في أن تناولنا لمسألة العلمانية، مثل أغلب الجمهور المثقف والسياسي العربي، كما يذكر وائل سواح في مقالته، يختلف كثيرا عن تناول وائل سواح وجماعته المرجعية في نقاط كثيرة وجوهرية. وهو ما سوف أتعرض له وأبين مضمونه وربما أسبابه أيضا في الجزء الثاني من هذا الرد. لكن أود قبل ذلك أن أتناول ما عرضه وائل سواح على انه ملخص موقفي من مسألة العلمانية، والطريقة التي استخدمها لتحقيق غرضه، والاقتباسات التي استند إليها، والتي إذا صدقت صار من غير المنطقي تصنيفي ضمن ناصبي العداء للعلمانية مداورة وتقية وإنما صراحة وعلنا.
1- في الأمانة الفكرية
أراد وائل سواح من مقاله أن يكون مساهمة في الدفاع عن العلم والعقلانية والحرية الفكرية. لكن أقل ما يقال في الطريقة التي اتبعها في هذا النقاش هو افتقارها لأدنى قواعد الأمانة الفكرية. وأول ما يلفت النظر في هذه الطريقة هو تعامله مع المصادر التي بنى عليها تعريفه بموقفي. فقد اختار كتاب : المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، الذي صدر عن دار الطليعة عام 1978، والذي لم يعن بالعلمانية إلا بصورة جانبية، من خلال تحليل مسألة الطائفية والأقليات، وتجاهل كل النصوص التي كتبتها في الثلاثين سنة الماضية، من كتب ومقالات تتناول موضوع العلمانية مباشرة، وفي مقدمها كتاب نقد السياسة :الدولة والدين (المركز الثقافي العربي)، وكتاب النظام السياسي في الاسلام (دار الفكر) بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى صدرت بالعربية والفرنسية، من المفروض أن كاتب النص اقد اضطلع عليها. وما يلفت النظر كذلك الطريقة التي أحال فيها إلى النص، أعني القصقصة واللصق لإنتاج لوحة جديدة ليس لها علاقة بالأصل. فلا تجد أي جملة كاملة ومفيدة من بين ما أحيل إليه، وإنما كلمات ليست منزوعة من سياقها التحليلي فحسب وإنما من جملها المفيدة أيضا. وما يلفت النظر كذلك أنه لا توجد هناك إحالة واضحة إلى أي جملة أو فقرة، وإنما إحالة جماعية إلى صفحات عديدة ومتباعدة دفعة واحدة، وعلى القاريء نفسه أن يجمع بين شتاتها. وما يلفت النظر أخيرا هو أن الكاتب لم يقرأ، كما هو واضح من الإحالات، كتابي وإنما وضع ثقته كاملة في ما قام به قبله جورج طرابيشي في كتبه، كما تشير الإحالة، وهو المعلم الحقيقي في هذا الفن. وبهذه الوسائل أمكن لوائل سواح أن يعيد إنتاج موقفي من مسألة العلمانية كما يريد هو، وبالشكل الذي يستجيب لحاجته في إدانة المثقفين العرب او معظمهم، بوصفهم عملاء للظلامية الدينية والجهالة، وفي تنصيب نفسه وأصحابه ملوكا متوجين على عروش العلم والعقل والتنوير.
وما ذكرته بخصوص عرض موقفي لا يختلف كثيرا عما رافق عرض مواقف الكتاب الآخرين المشار إليهم. فلم يجد الناقد من كل ما كتبه أدونيس مثلا حول مواقفه من الدين والعلمانية، والتي يعرفها القاصي والداني، المثقف وغير المثقف، ولا تحتاج إلى بحث وتدقيق، نصا أفضل لتمثيل فكر هذا الشاعر والمثقف الكبير سوى نص ظرفي واستثنائي يعود لسنة 1979، كتبه في لحظة حماسية بعد انتصار الثورة الايرانية الإسلامية، التي كانت بكل المعاني ثورة تحررية، وأثارت في حينها، بالرغم من الطابع الملتبس لإيديولوجيتها الدينية، حماسا لا شك فيه عند مفكرين كبار، في مقدمهم ميشيل فوكو الذي وصفها بثورة الروح. وهي لا تزال تستحق وقفة تأملية حتى اليوم بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية جعلت أن ثورة ديمقراطية شعبية تحديثية تتخذ طابع الثورة الدينية وتستند إلى قيادتها السياسية. مما يعبر في الوقت نفسه عن أصالتها وتناقضاتها غير العادية أيضا، ككل حدث تاريخي كبير.
ولا يختلف الأمر عن ذلك في تناوله مواقف ياسين الحاج صالح وماهر الشريف. فهو ينطلق أيضا من تأويل لواحد من نصوصهما العديدة، يطرحان فيه تساؤلات ليست مشروعة فحسب، وإنما هي شرط لضمان اتساق الخطاب والتدقيق في صوغ الإشكالية، ليصوغ لكل منهما موقفا معاديا من العلمانية.
والواقع أن وائل سواح لا يقتصر على عرض ما يعتبر أنه موقفنا من العلمانية، ولكنه يتجاوز ذلك ليعيد بناء منظومتنا الفكرية وخياراتنا السياسية جميعا. فهو يكشف عن أفكارنا المسبقة التي تملي علينا طريقة تفكيرنا، ويعرف نوايانا الحقيقية أكثر مما نعرفها نحن، ويسعى إلى إرشادنا وإسداء النصيحة لنا، من دون الاستناد إلى أي نص أو إحالة هذه المرة، ربما من باب المونة الأخوية. يقول مثلا إن " النتيجة التي يصل إليها – غليون ( ...) مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ"أداة قمع اجتماعي وسياسي" بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و"إيديولوجيا تبرير" لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، "حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي"، و"وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة" وعلى "الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم" من قبل "دولة النخبة العصرية". ويتابع وائل سواح " برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية".
ولا أدري على أي مصدر اعتمد سواح ليصل إلى هذه النتيجة التي تعبر عن فكر بدائي لا علاقة له من قريب او بعيد بالتحليل الاجتماعي الذي اتبعته في الكتاب، بل هو نقيضه بالضبط. ولعلها تعكس قناعاته الذاتية. فأطروحة الكتاب الرئيسية هي أن مشكلة التوترات الطائفية والنزاع مع الأقليات ليست مرتبطة بالدين ولا بالاختلاف المذهبي ولا بالأحرى بوجود أقليات، وإنما بضعف البنية الوطنية وعجز الدولة عن تقديم إطار وطني وديمقراطي صحيح يضمن المساواة بين الأفراد ويقدم لهم فرصا أكبر لتحقيق مطامحهم وتطلعاتهم. فالأقليات تبنى ولا توجد مسبقا كأقليات، بل جماعات اعتقاد ورأي مختلفة. ويشكل الكتاب استكمالا لكتاب بيان من أجل الديمقراطية الذي صدر عام 1977، وهو يدخل في محاور التفكير التي سأعمل على تطويرها في أبحاث لاحقة حول الطائفية والدولة والأمة والعلمانية.
وبالمثل، لا أدري كذلك كيف استنتج وائل سواح، أو من استند إليه في بلورة أطروحاته الغريبة، أن أدونيس "يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموما، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام". لأنه يقول "إن السياسة في الإسلام "هي شريان يسري بشكل شامل كامل في بنية شاملة وكاملة." وكل من يتابع ما يكتبه أدونيس حتى من غير المختصين بتاريخ الفكر، يعرف أن أدونيس لا يؤكد على عدم إمكانية الفصل بين الاسلام والسياسة إلا ليدافع عن موقف جذري من تجديد الثقافة العربية ونسف نظام الفكر القديم، والديني منه بشكل خاص، من الجذور. وعلى جميع الأحوال من الصعب لناقد فكر حقيقي أن يصنف مثقف كأدونيس بين أولئك الذين يرفضون الفصل بين الدولة والدين، وبالتالي من الذين يناصبون العلمانية العداء.
ما جاء به سواح لا علاقة له إذن لا بما كتبته أنا وما أفكر فيه، ولا بما كتبه ياسين الحاج صالح أو ماهر الشريف أو أدونيس، وإنما هو من إسقاطات الكاتب نفسه. ومع ذلك فإن ما ذكره مهم ويستحق الرد والتحليل لأنه لا ينبع بالضرورة من سوء نية، أو يعكس هلوسات فريق اجتماعي وشكوكه ومخاوفه الذاتية، ولكنه يعبر عن تيار قائم بالفعل في وسط المثقفين، لا يعلن ولاءه للعلمانية وتمسكه بشعاراتها إلا ليفرغها من مضمونها ويحولها إلى درع يحتمي وراءه ويغطي به، هذه المرة مداورة وتقية بالفعل، على أفكار يعتقد انها غير مقبولة اجتماعيا بعد، أو أن الإعلان عنها لا يزال مكلفا كثيرا.
ولن أفصل هنا في ما نشرته في الثلاثين سنة الماضية عن العلمانية، فيمكن للقاريء العودة بنفسه إليه عبر كتابات لها بالتأكيد طابع نقدي، لكن بالمعنى العلمي للكلمة، أي لا تنبع من التشهير بالمفهوم أو الفكرة ورفضهما، وإنما من السعي، من خلال مقارنة التجارب التاريخية، الأوروبية والعربية، إلى إعادة بناء المفهوم وتوسيع دائرة عمله وإغنائه بمعاني ودلالات جديدة نابعة من توسيع دائرة انتشاره وتحوله إلى مفهوم ذي طابع كوني، لا يرتبط بخصوصية قومية. ومن جملة هذه الكتابات وفي مقدمها كتاب المسألة الطائفية المشار إليه، الذي أحث القاريء على قراءته، لا ليكشف بنفسه عن أساليب تحريف النصوص وتقويلها عكس ما تريد فحسب، وإنما ليطلع على المقدمات الأساسية التي اعتمدت عليها لتحليل ظاهرة انبعاث العصبيات الطائفية والإتنية، والتي قادتني إلى نقد العلمانية العربية السائدة، كما تجلت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل عنصرا من عناصر تفسير نشوء ما أطلقت عليه "المجتمع العصبوي"، وظاهرة الارتداد من الدولة إلى القبيلة.
وأكتفي هنا بالاشارة إلى بعض الاقتباسات التي وردت في نص الكاتب وأحالها الكاتب جماعة للصفحات 11،12، 52، 53، 66، 82، و88 لأبين الروحية التي كتب بها الكتاب، والسياق الذي ورد فيه نقد العلمانية العربية الرثة. يبدأ الفصل الأول المعنون ب : الأقلية والأغلبية، البحث عن إجماع قومي جديد، بهذه الملاحظة "إن الحديث عن الأقليات ليس شيئا آخر سوى الحديث عن الأمة التي لا تنتج الأقليات الدينية أو الأجناسية إلا لأنها تعجز عن إنتاج أغلبية سياسية جديدة". وكذلك "سيخيب ظن كل من ينتظر من دراسة اجتماعية تقديم وصفة جاهزة لحل مشكلة الأقليات كاقليات. فهذا الحل لا يمكن أن يوجد داخل إطار النظم السياسية والاجتماعية التي خلقت مشكلة الأقليات وخلقت المجتمع العصبوي. وهدفنا هو إذن إظهار هذا الإطار العام الذي يمكن من خلاله ايجاد تغييرات اجتماعية ضرورية لطرح مسألة الأقليات الدينية او الأجناسية وجميع الأقليات الاجتماعية الراهنة أو التي يمكن أن توجد في ما بعد". ص 6-7. والنص الثاني من الصفحتين 11 و12، موضع الإحالة عند سواح، "وهكذا تبدو العلمانية هنا، التي تعاني من تثبت مرضي على مسألة الصراع بين الدين والدولة، الموروثة عن القرون الوسطى الأوروبية، ايديولوجية تبرير ضرب حرية الاعتقاد الأساسية، ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة. وبقدر ما كانت الاعتقادية العلمانية الأوروبية وسيلة لتحرير العقل وفرض حرية التعبير، جاءت العلمانية العربية لتنقذ الاستبداد العصري، أي جاءت كي تقدم لمصادرة حرية الرأي والتعبير الاجتماعي والطبقي غطاءا شرعيا من المساواة الشكلية بين الطوائف. ومن أجل ذلك بقيت عقيدة مستلبة تجاه الدولة، مأخوذة بتقديس السلطة والقوة. إن الخوف من اكتساح الاسلام للدولة هو المحرك الأساسي لسياستها". "إن ما تقترح العلمانية على نفسها كهدف قابل للتحقيق هو نقل المجتمع من الجهل إلى النور، لا المساواة ولا العدالة ولا الحرية. ذلك أن هذا الانتقال من الجهل إلى النور هو شرط الديمقراطية، كما هو شرط الاشتراكية (في نظرها طبعا). لا تدخل العلمانية هنا إذن كمذهب سياسي يدعم نظاما حرا ولكنها تظهر كبديل ثقافي للذاتية الدينية، أي مجرد نفي للذاتية القومية. وهذا ما يمكن الاسلام المستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية كمقاتل من اجل الديمقراطية والمساواة الغائبتين عن الدولة العلمانية، واللتين تصطدمان مباشرة مع الأسف بالنزعة الاستبعادية والحصرية التي بنطوي عليها كل دين".
أما الصفحة 25 و53 المحال إليها أيضا، فهي تطور نفس الإشكالية وهذا ما ورد فيها "وبشكل عام كانت الثقافة الحديثة إطار تنمية المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص. ومن هنا أصبحت عقلانية وأصبح التأكيد عليها والدفاع عنها دفاعا عن العقل ضد ظلامية القرون الوسطى التي جسدت ثقافة العزلة والعزل والتهميش والاستبعاد للأغلبية عن السلطة. لا يكفي أن تدعو المنظومة الثقافية الجديدة إلى المساواة حتى تكون منظومة مساواة إنما يجب ان تظهر واقعية هذه المساواة".
"لكن انتقال النزعة الفلسفية العلمانية التي لا تشكل النظرية القومية إلا جانبها السياسي، لعب دورا مختلفا كل الاختلاف في البلاد الأخرى التي تمت السيطرة على الدولة فيها بشكل أو بآخر. فالعلمانية لم تنبت هنا من الصراع الاجتماعي الداخلي ولم تنشأ إذن نتيجة لتفكك وتحلل القيم التقليدية الموروثة وزوال فعاليتها في الممارسة اليومية والجماعية، ولكنها نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة محدودة العدد، وغالبا معزولة عن الشعب. فهي التي كانت بسبب انتمائها إلى الطبقات العليا المسيطرة أكثر أو الأكثر قدرة على اكتشاف الغرب والالتحاق بثقافته. وبينما كانت العلمانية الغربية فلسفة للثورة ضد الطبقة السائدة المتحالفة بشكل أو بآخر مع الكنيسة، ووعاء لأفكار التحرر والمساواة والأخوة والعدالة والمواطنية والقومية، جاءت العلمانية العربية هنا كوسيلة لتقوية النظام السياسي القائم وتدعيم الطبقة المسيطرة التي أرادت أن تستفيد من علوم الغرب الحديثة لتنعش نظامها اقتصاديا وسياسيا. وكانت كتقاليد وممارسات ولغة تفاهم ووعي من نمط جديد وسيلة لعزل الغالبية الشعبية عن السلطة والسياسة".
وفي الصفحة 66 : "جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الاسلامية إذن على يدي الدولة ذاتها قبل أن تتبناه النخب المحلية الحديثة، وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب أيضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين، آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيد بين المعدمين من السلطة والعلم"."وإذا كانت العلمانية لم تأت بالديمقراطية في كل الدول الاوروبية، ولا في الدول العربية أيضا، إلا أنها حملت معها بشكل عام شرعيتها عندما جعلت من الحرية الفكرية والدينية والسياسية وسيلة لتوحيد الأمة وخلق المواطنية".
وفي الصفحة 82، في الهامش "ومن هنا تبدو إشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا كإشكالية مصطنعة منقولة عن الغرب. إن مشكلة الدولة في العالم التابع هي بالضبط أنها بلا دين ولا عقيدة. ... وليس هناك مؤسسة دينية مسؤولة في المجتمع العربي الراهن عن انعدام هذه الحرية. فالرقابة هي رقابة الدولة، والذي يمنع الناس من التعبير والتفكير والاعتقاد هي السلطة المدنية ذاتها. إلا إذا اعتبرنا أن على الدولة أن تصفي الأديان وتلغيها. عندئذ نقف مع الاستبداد الديني الحديث ونصفق للديكتاتورية والرقابة ونفرض اعتقاداتنا على الآخرين، ونفتح الطريق بالضرورة امام تسلط الدين على الدولة. وهذا هو ما تفكر به عناصر كثيرة من النخبة الحديثة بحجة تخلف هذا الدين أو ذاك. لكن في كل مره تلتقي فيها هيئة المثقفين بالسلطة وتتفق معها يحصل الاستبداد، إن كان ذلك في النظام الديني القديم لدى خضوع طبقة العلماء للدولة، او في النظام الحديث عندما تضع فئة المثقفين نفسها في خدمة السلطان. وفي الواقع ما لم تتمكن الطبقة السياسية والمثقفة من الوصول إلى إجماع على حرية التفكير والتعبير واحترام الحياة المدنية للناس فمن المستحيل قيام أي نوع من الديمقراطية مهما كانت نسبية".
وفي الصفحة 88، "لايمكن البحث إذن عن حل للنزاعات الطائفية في الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة او في الدعوة الدينية التي تؤكد على التسامح. ولا في القوانين التي تحدد الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. فكل هذه الوصفات قد استعملت في الماضي ولا تزال مستعملة في الحاضر. والقضية ليست قضية دعوة ولا قضية ايديولوجية شكلية، إنما هي أساسا قضية السلطة، أي علاقة أفراد المجتمع ككل بالدولة، التي تبلور علاقة كل واحد منهم بالآخر. وبقدر تحول الدولة إلى دولة-عصبة دينية او علمانية حديثة أو قديمة، تتكون عصبويات مقابلة وتتحول إلى أشباه دول موازية تبدأ كمركز للدعوة الايديولوجية لتصبح تنظيما، لتصبح فيما بعد جيشا ومؤسسة كاملة شبه قومية".
تدخل هذه الفقرات جميعا في باب نقد العلمانية العربية لتقصيرها في الرد على حاجات التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، ودفاعا عن قيمها، وليس العكس. فمن الواضح لكل ذي عقل أن الهدف من هذا النقد ليس تحطيم الفكرة أو مقاومتها أو القضاء على آثارها، وإنما الدعوة إلى الانسجام مع قيمها التي شكلت مصدرا للتقدم والتحرر والانعتاق في المجتمعات الاوروبية. وهذا يستدعي من دون شك القدرة على التمييز بين العلمانية وبين النسخة الرثة منها التي سادت في البلاد العربية، والتي تستخدم شعار العلمانية للدعوة إلى المراقبة على الفكر والضمير لا لتحريرهما من الوصاية السياسية والعقائدية. وهو النقد الذي يبدو صعبا جدا على بعض التيارات العلمانوية ذات البنية الطائفية، أي المتحولة إلى طائفة خاصة، تماما كما يبدو من الصعب على التيارات الإسلامية المتطرفة فهم ما تطالب به الأغلبية المسلمة نفسها من تمييز بين الإسلام والإسلاموية. والسبب أن كلاهما يفتقد للفكر النقدي الذي يحتاجه المرء حتى يستطيع اتخاذ مسافة من اعتقاداته ومعارفه نفسها، ويمكنه من تعريضها للنقد وامتحانها وفحصها على أسس عقلية او موضوعية أكثر، أي مختلفة عما تملي عليه عقائده وذاتيته.
2- من العلمانية إلى اللادينية
لا أعتقد أن هذا النقد فقد صلاحيته الآن، بل ربما كان أكثر راهنية اليوم من البارحة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الاسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.
ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب المسألة الطائفية بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى : ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها ؟
الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى ايديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمباديء العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.
ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن تقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.
فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية "دوغما"، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى "الخطيئة" الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الاسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس اشكالية العلمانية والاسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الايمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.
ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع او تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، ضد الكفرة ولجاحدين، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.
هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير او تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلا صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم او خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.
هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الاطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.
3 – معنى العلمانية
بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الايديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ او قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الاهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الافراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.
والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، او التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.
فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الايمان وما يشكل مسلمات ايمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.
لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاءا جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.
وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.
ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا ايجابيا ومنورا في إعادة بنائها او المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.
4- العلمانية ومعركة الحرية
من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمباديء الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.
لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الايديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين ان يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة أطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.
هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو ايمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الايمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها ايمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.
لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بايمانهم والاعتراف بأصالة هذا الايمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.
وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.
وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك امل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الاسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والارهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.
تقف العلمانية في مقدمة المعركة من اجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية ، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة واحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.
هل يعني هذا أن صعود الحركات الاسلامية لا يهدد العلمانية او أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الاسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد او التفاهم لانقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.
لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بنائها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الايديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم واحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.
في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.
باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع احدا. فهي حداثة سالبة للانسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.
ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الاسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم او تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على انفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه او تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الادنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الانسان، من وراء أفعال الايمان والاختلافات العقائدية.
باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الايديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية وأخلاقية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.