مسألة التكتل والاندماج الاقليمي العربي بين المنطق الايديولوجي والنظرة العملية

2002:: القدس العربي

نحو فكر اقليمي جديد

أثارت الندوة التي أقامها مركز دراسات الشرق المعاصر بالاشتراك مع رابطة اصدقاء الجامعة العربية في المملكة المتحدة في التاسع من اذار الجاري في معهد العالم العربي في باريس ردود افعال مختلفة لكنها كانت في اغلبيتها الساحقة ايجابية. والبعض اعتبر مجرد عقد مثل هذه الندوة لتعميق التفكير بمسالة التكتل الاقليمي في وقت اصبح فيه مجرد الحديث في الموضوع مدعاة للسخرية انجازا مهما بحد ذاته. كما وجد الكثيرون فيها محاولة مهمة لاعادة النظر في بعض المسائل التي لا تزال موضع نقاش.

وفيما وراء التقديرات الذاتية والحساسيات الشخصية تبقى المسالة المهمة هي كيفية التعاطي مع موضوع خطير وعاجل هو موضوع التكتل والاندماج الاقليمي العربي الذي يشكل اليوم الشرط الضروري لخروج العالم العربي بمجتمعاته وبلدانه المختلفة من ازمة العجز الاستراتيجي وانحباس عملية التنمية وتعثر مسيرة التحول الديمقراطي. و ربما كان اهم ما ابرزته الندوة التباين بين منظورين متباينين وان لم يكونا متناقضين بالضرورة الا في نظر فريق محدود  من انصار الفكر القومي الاصولي, المنظور الاول هو المنظور القومي التقليدي الذي لا يزال يتغذى على فلسفة القومية للقرن التاسع عشر والذي يبني امكانية التكتل واحتمالاته على وجود علاقات قومية تربط بقوة بين مجتمعات البلدان والدول الداخلة في التكتل ويحول التكتل بالضرورة في هذه الحالة الى وحدة, أي الى تحقيق لارادة الامة الواحدة, ويرفض لذلك الحلول الوسط كما يرفض اشكال التكتل التدريجية او الانتقالية ويعلق حلمه على وحدة اندماجية. والمنظور الثاني الحديث الذي يسعى الى الاستفادة من التقدم الكبير الذي حصل في سياق العولمة في الفكر التكتلي او الاندماجي ليسير بقضية الاندماج العربي خطوة الى الامام متجاوزا المخانق والانسدادات النظرية القديمة التي وضعت القومية في مواجهة القطرية او العكس وافرغت الزخم الاندماجي العربي في نقاشات بيزنطية اضاعت على العرب نصف قرن من العمل التعاوني والتكتلي. ومن الممكن ان نضيف الى هذين المنظورين, اذا اردنا, نوعا من الفكر القومي الاصولي لتمييزه عن الفكر القومي العربي المنفتح الذي يعمل اليوم صفا الى صف الى جانب دعاة التكتلية الاقليمية من اجل اخراج المسالة من المازق الراهن. فبعكس هذا الفكر القومي المنفتح يميل الفكر القومي الاصولي الى تجميد الفكرة القومية عند مرحلة معينة تاريخية او لدى قيادة معينة, ويعتبر ان كل نقد مهما كان وزنه لاحد الطقوس او الرموز او الشعارات او المواقف او الاستراتيجيات التي ميزت الحركة القومية او بعض اطرافها في هذه الحقبة التاريخية النموذجية والصالحة او تلك يعد خروجا على المذهب وعدوانا ضد الوحدة وكفرا بالامة العربية, ولا يمكن ان يفسره شيء سوى الرغبة في تصفية حسابات سابقة شخصية أو التامر مع قوى اجنبية او العمل ضد مصالح المجموعة العربية.  وهذا مابدا لي التوجه الذي عبر عنه المقال الذي نشرته القدس العربي في السادس عشر من مارس اذار للكاتب الاستاذ محمد عبد الحكم دياب بعنوان: العوربة قبل العولمة... والقومية قبل القطرية.

وبالعكس يستدعي العمل من اجل التكتل العربي على ما اعتقد - وهذا ما حاولت ان اصوغه في الجلسة الختامية التي سعيت فيها الى توجيه التفكير في قضية الاندماج العربي وجهة علمية بعيدة عن تكرار التوصيات والقرارات والشعارات التقليدية – فكرا منفتحا وبراغماتيا مستقبليا, ليس حبيس القوالب الجاهزة ولا التمسك الجامد بالشعارات والنماذج اللاتاريخية. فكرا يتفاعل مع المعطيات الجديدة باستمرار ويستفيد من تغير السياقات العالمية الجيوسياسية والاقتصادية. وهذا هو نمط الفكر الذي اطلقت عليه الفكر الاندماجي العقلاني. ولعل اهم ما يميز هذا الفكر هو انه لا يربط قضية التعاون والتكتل والتفاهم بين الدول والمجتمعات العربية بالايمان المسبق بعقيدة معينة في الامة او في القومية. فعقيدة القومية ليست عقيدة يمتنع النقاش فيها في العالم العربي وفي أي مكان وليست بديهة لا تقبل النقاش ولا مسلمة ضرورية لاي عمل تكتلي او حتى اتحادي. وبهذا المعنى فهي ليست مقدسة ولا منزلة ولا شرطا للحديث في التكتل والاتحاد. كما انه لا يربط الجهود المتنوعة التي يمكن ان تظهر في مسار العمل الاندماجي التكتلي بقوة سياسية او اجتماعية واحدة ومحددة هي تلك التي تؤمن او تدعي انها حاملة في فكرها وجسدها هي من دون غيرها مشروع الوحدة ولكنه يسعى الى ان تدرك قوى المجتمع جميعا, الرسمية والشعبية, الراسمالية والاشتراكية المصالح العامة المشتركة التي تكمن في تجاوز التفكير في التنمية او في الامن الوطني او في مواجهة اسرائيل او في تحقيق الاستقرار السياسي والشرعية للانظمة. وبالمثل ان الفكر الاندماجي الاقليمي يتميز عن الفكر القومي بأنه لا يشترط انتظار ان تعلن الجماهير العربية جميعا الولاء لفكرة الامة العربية الواحدة ولا انتصار عقيدة الامة العربية الواحدة حتى يتم الدفع في اتجاه التكتل والتعاون والاتحاد. وبالعكس, ان النماذج المجتمعية الراهنة للانظمة التي لا تزال تسم نفسها بالقومية او تعتبر امتدادا للزعامات القومية التقليدية هي الاكثر ضررا بالوحدة والاتحاد من أي نماذج اخرى. وكيف يمكن اقناع الراي العام العربي بانتظار العمل الوحدوي من زعماء قوميين يقضون وقتهم في السخرية من الامة العربية والتبرؤ منها وكيف يمكن دفعهم الى العمل التعاوني والتكتلي من دون نقد ما وصل اليه نموذج ما دعي بالنظم القومية هذه والاعتراف بالتقهقر الهائل هذه النظم فكرا وممارسة والابتعاد عنها في سبيل ربط الفكر الاتحادي العربي الحديث بنماذج الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية. وهل للتكتل قيمة بالفعل ما لم يكن حاملا لنماذج حكم انسانية وشروط معيشية افضل لجميع سكان العالم العربي؟

وبالرغم من هذا الخلاف الجوهري بين الفكرين : القومي المخلص للشعارات والاعتقادات السياسبة التقليدية والتكتلي الاقليمي الذي يعتقد ان مسالة التكتل مسالة حيوية راهنة وعملية لا ايديولوجية وليست مرتبطة باي عقيدة فلسفية ولا دين سياسي فليس هناك ما يمنع من التعاون فيما بينهما. بل ربما كانا مكملين بعضهما للبعض الاخر لان هناك بالتاكيد مصالح اجتماعية في التكتل لا تجد تعبيرها في الفلسفة القومية الكلاسيكية كما ان هناك حساسيات قومية لا تزال قوية في المنطقة العربية وليس من مصلحة الجهد التكتلي التضحية بها او حتى تجاهلها. لكن التعاون بين الفكرين لا ينبغي ان يلغي النقد المتبادل والمشترك. ولا يعني النقد الاتهام والسباب او التهشيم ولا التخطئة والتشكيك. وليس هذا من النقد ولا هو مضمونه الفعلي. فالنقد هو بالمعنى العميق للكلمة اصلاح المفهوم واعادة بنائه بما يسمح له ان يظل اجرائيا وفاعلا في الواقع. ونقد الفكر القومي الكلاسيكي من منظور الحركة التكتلية ينبع من الكشف عن الاختلاطات النظرية والتاريخية التي تجعل منه قليل النجاعة ولا تهدف الى الاساءة الى اصحابه او التشكيك باخلاصهم.  وليس الفكر القومي او الفكر الاقليمي او أي فكر اخر ملك فئة من الناس ولا راسمالها الشخصي ولكنه ملك المجتمع والتاريخ معا.

باختصار ان الفكر الاقليمي العربي الجديد المتحرر من العقائدية التقليدية لا يمكن لصاحب دعوة للتكتل الاقليمي لا يمكن ان يجعل من انصار الفكر والفلسفة القومية اعدءا ومعادين, ولكنه يسعى فقط الى فتح افاق جديدة للتفكير والعمل الاندماجي. وكثير من انصار هذا الفكر يشاركون في اعمال المؤتمرات القومية ويدعمونها لانهم لا يريدون التضحية بأي عامل او قوة مهما كانت صغيرة يمكن الاستفادة منها في دفع عجلة التقدم على طريق التكتل العربي. وهناك الكثير من اصحاب الفكر القومي الكلاسيكي الذين بدأوا يتخلون ايضا عن الجمود العقائدي القديم ويعتبرون القبول بمنطق الممارسة البراغماتية والعقلانية الوسيلة الانجع لتوسيع قاعدة العمل العربي المشترك الاجتماعية والسياسبة والفكرية معا.

لم يعد هناك من بين القوميين العرب العاقلين والعقلانيين من يمكن ان يتهم اي فكر اقليمي عربي جديد ينظر الى مسألة التكتل نظرة عملية وواقعية وليست بالضرورة نظرة قائمة على الايمان بوجود امة عربية واحدة على انه فكرا معاديا خطيرا ولا اتهامه سلفا بالعمالة او التامر او التراجع او الضغينة او تصفية الحسابات. وليس من المؤكد ان هناك ضرورة اليوم للتأكيد على صلات عميقة جدا من نوع الانتماء الواحد  لارومة اصيلة والولاء لقيم مشتركة واسعة من اجل اقناع الراي العام بضرورة التكتل والتعاون وذلك سواء اوجدت هذه الارومة ام لا. فقد اصبح هذا الامر مع العولمة بديهة لا تناقش.  ولم تحتج اوروبا الى مثل هذه النظرية في الامة الاوروبية الواحدة حتى تحقق اتحادها, وهو ما ينطبق على دول جنوب شرق اسيا وامريكا الشمالية والمكسيك ودول امريكا اللاتينية. ومن الممكن للعرب من دون الحاجة ايضا الى الايمان بوحدة الاصل, أي أيضا مع تجاوز الاشكالية التقليدية حول الامة وتكوين الامم, ان يتأملوا في المستقبل وان يفكروا  مثلهم مثل جميع شعوب الارض المنتمية الى ارومة واحدة وغير المنتمية وان يعملوا, من منطلق ضمان مصالح كل قطر على حدة, على تطوير العمل المشترك وتجاوز منطق التنافس والتشاحن والنزاع. لكن من دون ان يعني ذلك ايضا بالضرورة التضحية بالمشاعر العربية القوية المشتركة ولا بالانتماء الى امة واحدة او اصل واحد ولا التخلي عن الراسمال العاطفي والمعنوي والروحي الذي يمكن ان يلعب دورا مهما ايضا في مساعدة العرب على تجاوز العديد من نقاط الضعف وتضارب مصالح النخب الحاكمة. فانا من الذين يعتقدون بان احد الاسباب التي تدفع النخب الحاكمة العربية والدول الكبرى المدافعة عن مناطق نفوذها هي  وجود مشاعر عربية قوية متبادلة و كثافة في التعاطف والتواصل الرمزي والنفسي بين الشعوب العربية, أي هو فكرة الوحدة القومية ذاتها لانها تعني احتمال التضحية بمصالح النخب الحاكمة ومناطق النفوذ الاجنبية هذه وتغيير كل الخريطة الشرق اوسطية. فنحن عندما نعمل لاطلاق حركة تكتل اقليمي نقبل ضمنا بان لا تكون عملية التكتل عملية ثورية حاملة لانقلاب اجتماعي وان نضمن للنخب المسيطرة فعليا على الدول والمتحكمة بالمسيرة الوطنية جميعها المصالح التي تجعلها تسير في المشروع وتجد فيه مصلحة لها ايضا كما ان فيه مصلحة للعرب كمجموعة وكشعوب. ان الفكر التكتلي بهذا المعنى ايضا فكر تسوية تاريخية لا عقيدة جامدة ولا موضوع ايمان. 

ليس المطلوب اذن نفي الفكر القومي العربي ولكن تجاوزه نحو ما هو اقل تطلبا منه في سبيل توسيع دائرة الفئات الاجتماعية وقطاعات الرأي العام التي تجد لها مصالح مشتركة في الحفاظ على الجوهر الذي هو التكتل والاتحاد العربي. وهذا اجتهاد يستجيب لحاجة حقيقية اليوم في نظرنا هي تضاؤل فاعلية الفكر القومي في كل مكان كحافز للعمل الوحدوي وتعاظم تيار التكتل المصلحي من منظور السعي لحل مشاكل المستقبل. ومن حق الجميع رفض هذا المنظور العقلاني الجديد لمسالة التكتل والتعاون الاقليمي, لكن لايحق لاي فرد, قوميا كان  ام غير قومي, ان يصادر حق أي عربي يجتهد لاخراج مسالة الاندماج العربي من الشلل الذي تعيش فيه واتهامهم والتشكيك بمواقفهم وحوافزهم واهدافهم. وبالعكس ان من المتوقع من اي قومي حقيقي كاي شخص يحرص على المصلحة العربية ويطمح الى نظام عالمي قائم على الحد الادنى من احترام الانسان وحقوقه الطبيعية ان يساند أي جهد على هذا الطريق. اما الذين يضعون انفسهم في مواجهة أي جهد فكري من هذا القبيل فانهم يضرون انفسهم ويسيؤون الى القضية العربية التي يعتقدون انهم يخدمونها.