مخاطر شلل الإرادة الشعبية العربية

2002-10-08:: الجزيرة نت


رغم كل الأحداث الكبيرة التي تشهدها منطقتنا والعالم اليوم, فإن الحدث السياسي الذي كان له المغزى الأبرز في الأسابيع القليلة الماضية هو -في نظري من دون أي تردد- ما ظهر من جمود في وسط جمهور العالم العربي الواسع الذي بدا مشلولا تماما وغير قادر على القيام بأي حركة تجاه ما يجري من وقائع مأساوية في فلسطين والعراق.

فبينما خرج الجمهور الفلسطيني من فراشه يوم 26 سبتمبر/ أيلول الماضي يتحدى قانون حظر التجول الإسرائيلي الصارم في شوارع المدن الفلسطينية جميعا ليعبر عن تضامنه مع قيادته المحاصرة في المقاطعة والمهددة بالقتل المتعمد من قبل القوات الإسرائيلية, لم يبد الجمهور العربي الواسع أي حركة تعبر عن حضوره السياسي بل عن وجوده الجماعي, لا في اليوم المأساوي للتهديد بتدمير المقاطعة ولا حتى في الأيام التي تلتها.

وبالمثل, في الوقت الذي خرج فيه جمهور المدن الأوروبية في نهاية الشهر ذاته بمئات الآلاف للتعبير عن رفضه لمبدأ الحرب التي تعدها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق, بقيت مظاهر الاحتجاج العربية محصورة في دائرة مجموعات صغيرة من المثقفين الذين يكررون اعتصاماتهم في بعض العواصم العربية، في عزلة تكاد تكون تامة عن أي جمهور شعبي حقيقي، وفي مواجهة حرب منظمة تكاد تكون معلنة من قبل قوات الأمن الوطنية عليهم.

فبالنسبة لهذه القوى التي اعتادت أن تحرك وحدها الجمهور الواسع بعصاها السحرية عند اللزوم وفي المناسبات الوطنية المرتبطة بانتخاب الرئيس أو التجديد له, لا يمكن لمظاهر الاحتجاج هذه -مهما كانت محدودة أو رمزية- أن لا تحمل مخاطر تهديد الاستقرار والتحريض على العصيان ونشر الفوضى في مجتمعات بذلت جهدا استثنائيا ومستمرا لتعليمها الخنوع والانصياع.

ويشكل هذا الشلل الذي بدا على الجمهور العربي تجاه التحديات الكبيرة حدثا بارزا في نظري لسببين:

الأول لأنه يظهر إلى أي حد يفتقر العالم العربي إلى قوى منظمة قادرة على التدخل في اللحظات الحاسمة لمواجهة التهديدات والتأثير في الأحداث التاريخية.
والثاني لأنه أعطى للعالم أجمع وللدول الكبرى التي تقف مكتوفة الذراعين أمام الحرب الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني منذ سنتين -كما تتردد في إعطاء موافقتها على حرب الإدارة الأميركية ضد العراق- الانطباع بل التأكيد على الانطباع القديم بأن الرأي العام العربي لا يهتم كثيرا بالقضايا التي تبدو لمثقفيه وبعض أطراف نخبه مصيرية ولا يتأثر بما يجري حوله, إن لم يعطها الانطباع بأنه لا وجود له ومن الخطأ أخذه بالاعتبار في أي حسابات قوى ومصالح قادمة في الشرق الأوسط.
ويوحي هذا الوضع لنخب العالم الخارجي جميعا -الثقافية والسياسية- بأن العالم العربي الذي يعد اليوم حوالي 300 مليون نسمة لا يستحق الضجة التي تحوم حوله ولا التردد الذي يسم سلوك بعض العواصم الغربية في امتهان حقوقه وكرامته، فهو من الهزال والضعف بحيث لا تجد فيه قوة متبلورة من أي نوع يمكن أن تشكل تهديدا حقيقيا لأحد, اللهم باستثناء الإرهاب المدان دوليا والمحارب عالميا، وأنه فيما عدا إسرائيل التي تبدو الفاعل الأول والأكثر نشاطا وحيوية في المنطقة لا تكاد توجد هناك حاجة إلى أخذ حساب لأي قوة أخرى معارضة أو معادية قائمة أو محتملة.

أما النخب الصغيرة والهشة التي تسيطر على الدول وتتحكم بأجهزة عسكرية وأمنية متفاوتة القدرة والتنظيم, فهي لا تشكل أي خطر لا اليوم ولا في المستقبل، فبالإضافة إلى ما تعاني منه من تفكك إقليمي وداخلي وما تتسم به من ضعف بنيوي وتخلف سياسي وفكري, لا تحلم بشيء أكثر من التفاهم مع القوى الدولية التي تعتقد أن بقاءها وعدم بقائها مرتبط بها وأنها وحدها القادرة على تقرير مصيرها.

هكذا يبدو العالم العربي من الخارج, عبر ردود أفعاله المشتتة والظرفية والانفعالية.. قوقعة فارغة تماما لا يملؤها شعب ولا يبدو أن من الممكن أن تبرز فيها على المدى القريب أي إرادة جماعية قوية قادرة على فرض رؤية ومصالح وطنية أو قومية خاصة واضحة, ومن باب أولى على مقاومة الخطط والمشاريع والتصورات التي تصوغها الأقطاب الدولية المتنافسة على تحويلها إلى مناطق نفوذ وتقاسم الموارد الإستراتيجية التي تنطوي عليها.. فهو عالم راكد، من دون عمق يخيف من يرمي بنفسه فيه، ومن دون سماكة تجعل التقدم فيه بحاجة إلى مجهودات وتضحيات كبيرة، ومن دون رؤى وخطط ومصالح قومية واعية ومتسقة يمكن أن تصطدم قليلا أو كثيرا بمصالح القوى الكبرى المتنافسة.. أي يبدو باختصار من دون فاعلين حقيقيين مستقلين عن الحماة الخارجيين والدوليين, أي من دون حضور بل من دون وجود ذاتي أو قائم بذاته.

والنتيجة أن هذا الجمود والركود المريب للجمهور العربي الواسع تجاه أحداث قوية ومصيرية, سواء أكان ذلك في فلسطين أو في العراق أو أماكن عربية أخرى, لا يمكن إلا أن يزيد طمع الضعيف بعد القوي في الحقوق العربية ويشجع الآخرين على الاعتداء السافر على مصالح العرب وسيادتهم الوطنية والإقليمية.. فهو يخلق لديهم الاعتقاد المنطقي بأنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يشاؤون في بلادنا من دون أن يدفعوا أي ثمن حقيقي أو أن يخشوا أي عقاب جدي.

قد يقول البعض إن هذا الانطباع انطباع خاطئ حتما، ذلك أن عدم تحرك الجمهور العربي الشعبي لا يعني أبدا أن هذا الجمهور ليس معنيا أو لا يشعر بأنه معني بما يحصل ولا أنه لا يتألم كثيرا لمصير الفلسطينيين والعراقيين، وهذا صحيح بالتأكيد. وقد يقال كذلك إن ما يحصل في فلسطين يدل تماما على أن الشعوب العربية تستطيع في الوقت المناسب أن تعيد بناء وحدتها وتوجيه مقاومة شرسة للعدوان الخارجي, أما ما تبديه اليوم من الضعف والجمود والشلل فهو راجع إلى ظروف استثنائية لا يمكن أن تدوم.. والدول الكبرى تخطئ كثيرا عندما تأخذ ما هو مؤقت على أنه مستمر ودائم. وهذا صحيح أيضا وبالتأكيد وإلا لكان علينا أن نقبل بالعنصرية تجاه أنفسنا وشعوبنا.

كل هذا صحيح ولكنه يطرح مشكلة أكثر مما يجيب على سؤال، إذ ينبغي القول إن ما يهم الدول الكبرى ويحدد حساباتها -برغم أننا لا ينبغي أن نستخف بوجود العنصرية الموجهة إلى العرب لدى فئات واسعة من الرأي العام العالمي اليوم, بل في تفكير قسم كبير من نخبنا العربية نفسها- ليس معرفة ما إذا كان لدى المجتمعات العربية طاقات كامنة تمكنها في المستقبل من نزع الوصاية عنها وانتزاع حقوقها أو جزء منها من القوى الكبرى النافذة، ولكن ما يهمها هو معرفة ما يمكن أن تحصل عليه اليوم منها وبالتالي واقعها الراهن كما هي الآن.

فحسابات القوى الدولية المتنازعة على الموارد العالمية لا تهتم كثيرا بالمدى البعيد طالما أنها تعرف أن الواقع متغير باستمرار, ولكنها تركز نظرها على ما يمكنها أن تحققه الآن وفي المدى المباشر والمنظور.. فسيطرة الولايات المتحدة على الموارد النفطية بصورة مباشرة وكليه مهمة اليوم لا في العقود القادمة لأن مثل هذه السيطرة هي التي تجعلها في موقع متميز بين الدول الصناعية وتزيد من فرص نجاحها في المنافسة الاقتصادية العولمية العنيفة الدائرة بين هذه الدول والتي ستستمر في السنوات العشر القادمة بما تقدمه لها من سيطرة على مصادر الطاقة المتوافرة الرئيسية ومن قدرة على تحديد سعر هذه الطاقة بما يتماشى مع حاجات اقتصادها ويحقق انتصارها في الحرب الاقتصادية. أما ما سوف يحصل غدا أو بعد غد وما يمكن أن يترتب على السياسات العدوانية الراهنة من أثمان، فمسؤولية مواجهته وتسديده تقع على القادة القادمين وهو جزء من مهامهم.. المهم اليوم هو تحقيق نتائج فورية وكسب مواقع جديدة متقدمة قد يكون لها النصيب الأكبر في تبديل شروط المواجهة والمنافسة الاقتصادية والجيوستراتيجية العالمية ذاتها.

أصحاب النزعة التبسيطية من العرب -وهم من غالبية الجمهور- يميلون إلى القول إن السبب في هذا الجمود والشلل الذي يبدو على الجمهور العربي الواسع هو جهل الشعب بمصالحه وغياب وعيه بقضاياه القومية وانكبابه على تأمين مصالحه الخاصة. أما المعارضات السياسية فهي تنزع إلى الاعتقاد بأن الشلل العربي الراهن هو النتيجة الحتمية والطبيعية لسياسات النخب الخاطئة وما تتميز به من الحد من الحريات وإلغاء شروط العمل السياسي والقومي ونجاح النزعات القطرية وتنامي روح الانكفاء على المصالح الخاصة وعلى تأمين لقمة العيش الضرورية عند جمهور وصل إلى مستوى العوز والفاقة.

والواقع أن نجاح النخب السائدة يعبر هو ذاته عن ضعف في مقاومة المجتمع نفسه، لكن هذا الضعف لا ينبع بالضرورة من الثقافة أو الأصل أو الدين ولكن من الظرف التاريخي الاستثنائي الذي تعيشه المجتمعات العربية، وهو الانتقال من نمط من التفكير والتنظيم التقليدي إلى نمط جديد حديث، وهو ما يجعل القواعد التي تقوم عليها التضامنات الاجتماعية هشة وقلقة ويسمح لنخب صغيرة نسبيا أن تخترقها لتسيطر عليها من الخارج والداخل معا.. ومما ساعد في ذلك أن الانتقال من ديناميكيات التضامن الديني والمِلّي إلى آليات التضامن القومي قد أسفر بالفعل عن وقوع المجتمع ضحية احتيال سياسي حقيقي من قبل النخب التي ربطت شرعية وجودها في السلطة وأنماط حكمها بالدعوة القومية وكانت الراعية الأكبر لنظم القهر والظلم والاستبداد التي تتنافى مع جميع الشعارات القومية الحقيقية.

لكن ليس من المؤكد أيضا أن أسلوب معاملة النخب السائدة لمجتمعاتها واستبعاد هذه الأخيرة من الحياة السياسية والفكرية نابع من جهل هذه النخب ذاتها بنتائج ما تفعله أو بسوء تقديرها للمخاطر والتهديدات الداخلية والخارجية على استقرار سلطتها واستمرارها, وهو ما يعتقده الكثير من المثقفين الذين يناشدون هذه النخب العودة إلى الشعب والتخفيف عنه والتفاعل مع قضاياه حتى تحتفظ لنفسها بمكانتها وشرعية وجودها، ولن تنفع مثل هذه المناشدات كثيرا، ذلك أن تحييد الشعب وإخراجه من الساحة السياسية ليسا شرطا للبقاء في السلطة واحتكار الموارد الذي يؤمنه الحكم المطلق فحسب، ولكنه أكثر من ذلك الوسيلة الرئيسية لتقليل عدد المشاركين في اقتسام الغنائم في نظام قائم على التوزيع لا الإنتاج وفي ضمان التفاهم بين النخب المحلية الحاكمة والدول الكبرى النافذة أيضا.

وبعكس ما قد توحي به المظاهر والأحداث الظرفية, ليس تسلط الدول الكبرى ولا نفوذها هو ما تخشاه وتحسب حسابه النخب المحلية بالدرجة الأولى، وإنما بالعكس من ذلك تماما.. دخول الشعوب والمجتمعات إلى حقل السياسة ومجالات التفكير والعمل العمومية، فهذا الدخول هو وحده الذي يهدد بتغيير نمط ممارسة السلطة وتوزيعها مع الثروة أيضا وبالتالي يحكم بالموت على نمط النخب المحلية السائدة الريعية والمافيوزية معا. أما الدول والقوى الخارجية فليس هناك ما يمنع من التفاوض معها، بل إن هذا التفاوض هو شرط البقاء طالما أنها هي صاحبة السيادة بل أحيانا الملكية الفعلية للموارد الرئيسية في البلاد.

وهذا يعني أن اتباع سياسة وطنية جدية -وبالتالي الاعتماد على الشعب- لا يعني في نظر هذه النخب الحاكمة منع الدول الكبرى الإمبريالية من الوصول إلى الموارد، ولكن قبل ذلك إدخال شريك ثالث في القسمة الثنائية القائمة لهذه الموارد, وهو ما يبدو تهديدا خطيرا للنخب الحاكمة التي تعرف أن هذا الشريك سوف يقاسمها بالأساس حصتها، أما الفريق الثالث فحصته محفوظة ولا يمكن المساس بها. ولذلك -كما دلت عليه ولا تزال العقود العديدة الماضية- تفضل النخب السائدة -والعراق مثال على ذلك- المغامرة بدخول أكثر من حرب خارجية وتدمير البلاد على القبول بفتح الباب أمام المشاركة الشعبية وما يعنيه ذلك من مخاطرة التضحية باحتكار السلطة والثروة أو التسليم بالمواطنية المتساوية.

والخلاصة.. إذا كان إدخال الشعب في الحياة السياسية والاعتراف به وبحقوقه هو الثمن لتعزيز الدفاعات الوطنية ضد التسلط الخارجي, أي ثمن بقاء الوطنية نفسها, فإن النخب السائدة تفضل الاحتفاظ بالسلطة المطلقة وعزل الشعب ومنعه من المشاركة في أي قرار أو مسؤولية على أي صفة وطنية أو شعبية يمكن أن تطلق عليها مما كانت النخب السابقة تطمح إلى الحصول عليه.. فليس لشلل الجمهور العربي أو تشتت ردوده إلا سبب واحد هو تدمير الحياة العمومية ذاتها، أي محو الحياة الوطنية وإلغاؤها وبالتالي انعدام أي مفهوم عميق وحقيقي للتضامن الجماعي، وليس لانسحاب الجمهور من الساحة العمومية معنى آخر سوى دمار هذه الساحة ذاتها وانهيارها على رؤوس أصحابها, أي الشعوب ذاتها.