في سبيل مبادرة دولية لإطلاق الحوارات الوطنية الممنوعة

2006-05-02:: الجزيرة نت

 أصبح من البديهي اليوم لكل المراقبين أن عمليات الضغط والتدخل العسكري التي قادتها واشنطن في أفغانستان والعراق، قد أثرت بشكل سلبي تماما على مسارات التحول الديمقراطي في العالم أجمع. وبدل أن تقود الضغوط الأجنبية التي مورست في السنوات الخمس الماضية إلى تعزيز فرص التحولات الديمقراطية، عملت على عزل القوى الديمقراطية وتهميشها وتوجيه أصابع الاتهام لها من قبل فئات واسعة من ا لرأي العام العربي والعالمي.

وهكذا، بدل الثورة الديمقراطية الموعودة، بمساعدة القوى الأطلسية التي اكتشفت بعد عقود طويلة مساويء تعزيز النظم الاستبدادية، دخلت الشعوب في أزمة جديدة تتجاوز بمخاطرها ما كانت تعيشه من قبل. فقد أدت السياسات اللامسؤولة للدول الكبرى الصناعية التي ربطت بين التحول الديمقراطي وإعادة تجديد نظام السيطرة شبه الاستعمارية في المنطقة إلى كسر ديناميكيات التحولات الداخلية، ودفع جميع الأطراف إلى التثبت على مواقف قصووية مغالية، لا يمكن أن تقود إلا إلى طريق مسدود. ونحن نعيش اليوم هذا الانسداد كما لم نعشه في أي حقبة سابقة. فلا النخب الحاكمة مستعدة لتفهم أوضاع المجتمعات وإدراك الحاجة المتزايدة لإعادة إشراك الشعب في الحياة السياسية وتحمل قسطه من المسؤولية في عالم يسير أكثر فأكثر نحو الاندماج والتوحد، ولا المعارضات الديمقراطية التي اعتقدت بأن المناخ الدولي قد تغير لصالح أطروحاتها، تمكنت من صوغ أجندة واقعية وعملية لفرض التقدم إلى الأمام على قوى المحافظة الرسمية. وفي العالم العربي بشكل خاص أخفقت جميع المساعي التي بذلتها القوى المدنية لجر الحكومات إلى مائدة الحوار، في أي مستوى كان، خلال السنين الطويلة الماضية. وبالرغم من اعتراف السلطات نفسها بالأزمة العميقة التي تعيشها مجتمعاتها، وتأكيدها على الرغبة في الاصلاح، أو حسب وثيقة الجامعة العربية، في التطوير والتحديث، والانتقال من التسلطية السائدة إلى نظام التعددية الحزبية، وبالرغم من إدانة قوى المعارضة الرئيسية التدخلات الأجنبية وتضحيتها بحلفاء خارجيين ممكنين كثر، وتبنيها برنامج عمل يؤكد على الانتقال السلمي والتدريجي المتفق عليه إلى الديمقراطية، لم يمكن تحقيق أي تقدم يذكر على هذا الصعيد، ولا يزال العالم العربي يبدو في نظر الرأي العام الدولي منطقة مستعصية على أي تغيير ديمقراطي. بل ليس من المبالغة القول إنه بالرغم من تنامي وزن المعارضات وتيارات المعارضة الديمقراطية الفكرية تشهد العديد من الدول العربية تراجعا مؤلما على صعيد احترام الحريات العامة وحقوق الانسان. ويسيطر على بعضها مناخ الحرب الأهلية، مع مسلسل الاغتيالات والقتل على الهوية، بينما يستمر مسلسل تعقب الناشطين المدنيين وأصحاب الرأي من المثقفين، والتنكيل بهم وتشويه سمعتهم، بالإضافة إلى عودة سياسات الخطف والاختفاء التي عادت إلى الواجهة من جديد لتغييب المعارضين أو الانتقام منهم ومن أسرهم، في بعضها الآخر.
يقود هذا التحول السلبي، بما يجسده من تراجع عن وعود الاصلاح وانكفاء على مواقف دفاعية أكثر تصلبا، إلى اليأس، ويقتل أي أمل ولد في السنوات الخمس الماضية في إمكانية الخروج من النظام القائم على التسلط والتعسف والعنف بالوسائل الذاتية وبالأساليب السلمية التفاوضية. والنتيجية الطبيعية لهذا الوضع تنامي الرهان على التدخلات الخارجية والإنكفاء من جديد، كما حصل في عقد الثمانينات والتسعينات في العديد من الأقطار العربية، على الوسائل العنيفة، وربما الاستسلام لإغراء الحروب الداخلية، والطائفية منها بشكل خاص كتعبير عن التخبط والمراوحة في المكان. وحتى لو نأت المعارضة الديمقراطية بنفسها عن هذه المخاطر وتابعت سياستها النشيطة في لجم قواها والخاضعين لنفوذها ومنعهم من الانجرار وراء مثل هذا الحل، فليس هناك ما يضمن أن لا يثير هذا الوضع اليائس شهية قوى خارجية لا تحسب أي حساب لمصالح البلاد، وأن لا يفجر غرائز قوى داخلية ضائعة فقدت جميع الآمال وأصبحت مستعدة وجاهزة لكل المخاطرات.
أمام هذا الوضع الذي يزيده الجمود الاقتصادي والتدهور الاجتماعي والضغوط الخارجية هشاشة لا يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي، ولا الانتظار حتى لحظة الانفجار. ولا بد في نظري من مبادرة جريئة تساعدنا، في العديد من أقطار العالم العربي التي تعيش حالة من الاستعصاء والأزمة المتفاقمة، على كسر مناخ الحرب الداخلية وتجاوز القطيعة القائمة، وتفتح الباب أمام إمكانية الانتقال المفاوض عليه نحو صيغ للحكم والإدارة تقضي على بؤر النزاع المشتعلة والكامنة، وتفتح الطريق أمام تسوية سياسية وعودة إلى الحالة الطبيعية، أي إلى حالة السلام الأهلي الذي لم يعد من الممكن تجاهلها من دون تعريض مستقبل المجتمعات في التنمية والتقدم الانساني، بل في وجودها نفسه للخطر. وأنا أقترح :

1- ما دمنا قد أثبتنا فشلنا حتى الآن، معظم البلاد العربية، في فتح حوار جدي في ما بيننا، أقصد بين السلطة والمعارضة، فنحن نحتاج لا محالة إلى وسيط خارجي نزيه يساعدنا على فتح هذا الحوار وتنظيمه حتى يؤتي ثماره ويبعدنا عن خيار المواجهة والحرب الأهلية التي هي الثمن الحتمي لكل احتباس وانسداد في حياة المجتمعات. فليس هناك شك في أن سنوات طويلة من إلغاء الحياة السياسية والسيطرة الشاملة على جميع مقدرات الشعوب باسم الثورة أو مقاومة الاعتداءات الخارجية، جعل العديد من النخب الحاكمة تستسهل الحكم عن طريق احتكار السلطة، والتمديد التلقائي لقوانين الطواريء والاحكام العرفية، واستبدال الوصاية الأمنية على المجتمع بالحوار. فهي لا تجهل طرق الحكم السياسية فحسب ولكنها أكثر من ذلك تخشى أن يقود أي انفتاح في اتجاه المعارضة إلى خلق الانطباع عند قطاعات واسعة من الرأي العام بأنها أصبحت ضعيفة، أو أن يتحول إلى مناسبة لتفجير طوفان النقمة والاحتجاج الشعبي المرتبط بتدهور مستويات المعيشة وشروطها الانسانية. وبالمقابل، ليس هناك شك في أن استمرار ضعف المعارضة الديمقراطية وعدم قدرتها على كسر الحصار الذي فرضته السلطات القائمة عليها لا يساعدانها على أن تشكل قوة ضغط مقنعة بما فيه الكفاية حتى تأخذها الأنظمة بالاعتبار.
وحتى نضمن الحد الأكبر من نجاح هذه المبادرة، لا بد أن يتحلى الوسيط الدولي الذي نتطلع إلى مساعدته لنا بحد كبير من الحكمة والنزاهة والصدقية. وقد يكون على شكل لجنة مساع حميدة دولية، مكونة من شخصيات عالمية معروفة برجاحة عقلها واستقلالها، ولديها قسط كبير من الرصيد السياسي والأخلاقي والمعنوي. وأنا أفكر بأشخاص من نوع نيلسون منديلا وجيمي كارتر والسيدة ماري روبنسون والسيدة غاندي وغيرهم ممن يتمتعون برصيد معنوي كبير مثل الحائزين على جائزة نوبل المعروفين بمواقفهم الانسانية والديمقراطية.

2- ليس الغاية من لجنة الوساطة الدولية فرض حلول على أي طرف من الاطراف. وليس هذا هو المطلوب منها. إن غايتها هي تسهيل فتح الحوار بين الأطراف المتنابذة، وتذليل العقبات التي تحول دون تواصل هذه الأطراف، وإبراز إمكانية المراهنة على الحلول السياسية المتفاوض عليها وجدواها. أي وضع الأطراف أمام مسؤولياتها ودفعها إلى التوصل هي نفسها إلى حلول قابلة للحياة والتطور. وهي تستند في ذلك إلى تعزيز ثقة الأطراف بعضها بالبعض الآخر، ومساعدتها على بلورة أجندة واضحة ومحددة للحوار بهدف بلورة مشروع للتحول التدريجي والسلمي والمفاوض عليه إلى التعددية والديمقراطية، والسهر على تحقيقه وتقديم الاقتراحات البناءة للتوصل إلى التفاهم المطلوب عند الحاجة. وتحتاج من أجل ذلك إلى إزالة المخاوف والحساسيات، وتشجع الاطراف على اتخاذ المخاطرات المطلوبة والضرورية وتجنيبها المفاجآت والانقلابات التي يمكن أن تحرف الحوار عن هدفه الحقيقي الأول، وهو الانتقال السلمي والتدريجي من صيغ الحكم المطلقة التي أصبحت مصدرا لأزمة شاملة إلى صيغ تعددية وديمقراطية تقوم على مشاركة جميع الأطراف وتفتح الطريق أمام تجديد الحياة السياسية وتنشيط الحياة الاقتصادية وتغيير المناخ الاجتماعي الذي تسوده التوترات ومخاطر المواجهات الدموية.
وفي اعتقادي أن مثل هذ الخيار يشكل اليوم البديل الوحيد لمواقف ثلاثة متعايشة تجاه أزمة التسلطية والعجز عن استبدالها في العديد من الأقطار، وفي مقدمها الأقطار العربية: الاستقالة السياسية المحلية والدولية وترك المجتمعات تتخبط إلى ما لانهاية، القبول بالمغامرات الانقلابية العسكرية والمدنية معا، وأخيرا التسليم بحتمية سياسات التدخل والضغط والعقوبات الجماعية باعتبارها الدواء الأخير الذي لا مهرب منه لمحاربة بؤر التعفن والفساد العالمي، بالرغم مما أبرزته التدخلات التي حصلت في الأعوام الماضية من نتائج سلبية ومساهمتها غالبا في تفاقم أوضاع التعفن والفساد هذه.
3- من المفيد والضروري ان يتم تشكيل هذه اللجنة في إطار الأمم المتحدة وبالتعاون مع أمينها العام، السيد كوفي أنان، لكن مع الاحتفاظ بكامل استقلالها في كل ما يتعلق باجندة تدخلاتها الانسانية ومساعيها لتطوير عمليات الانفتاح.
4- لا تلجأ اللجنة إلى أي تهديد ولا يرتبط بعملها أي نظام عقوبات. إن وظيفتها تتوقف على إزالة عوامل انعدام الثقة المتبادل وتطمين الأطراف المختلفة وحماية المعارضات الديمقراطية في الأنظمة التي تفتقر لحكم القانون. وليس لدى هذه اللجنة أداة للضغط على الأطراف المتفاوضة سوى سمعتها المعنوية ونفوذها الأدبي وتواصلها مع الرأي العام المحلي والعالمي، الذي ينبغي أن تتوجه إليه للإعلان عن ثمرة مساعيها وحدود نجاحاتها. إن ما هو مطلوب منها ليس إجبار أحد على الانخراط في عملية التحول الديمقراطي وإنما وضع جميع الأطراف أمام مسؤولياتها في مواجهة الرأي العام، والإشارة إلى من يخل منها بالتزاماته أو يعمل على عرقلة التقدم في اتجاه بلورة أجندة وطنية للعودة إلى الحالة الطبيعية، أي إلى حكم القانون وتداول السلطة ونظام التعددية والمنافسة بين النخب السياسية والاصلاح.

بالتأكيد لن تقوم الحكومات بمثل هذه المبادرة التي تضعها تحت أنظار الرأي العام وليس من مصلحتها عمل ذلك. كما أن الدول الغربية الكبرى المعنية بضمان نفوذها وسيطرتها الدولية لن تقبل بالتخلي عن قميص عثمانها الذي هو اليوم الديمقراطية التي تستخدمها لفرض أجندتها على الدول الضعيفة والصغيرة، لصالح لجنة دولية لا تخدم مصالحها وإنما تقطع عليها طريق التدخل السياسي وربما العسكري في الشؤون العالمية. إن السعي إلى تشكيل مثل هذه اللجنة يقع على كاهل القوى الديمقراطية المحاصرة والمثقفين العالميين الذين يشعرون بالمسؤولية في مواجهة المشاريع الاستبدادية والاستعمارية معا ويأملون في فتح طريق آخر للعمل المدني خارج الخطط والاستراتيجيات الرسمية، مؤمنين بإمكانية الرهان على الرأي العام والاعتماد عليه في التغيير. فعليهم يقع واجب اتخاذ المبادرة والتشاور في الأمر، في العالم العربي وخارجه معا. وأنا على يقين من أنه لو قيض لهذه اللجنة أن تتشكل في القريب، وأن تحصل على دعم المنظمة الدولية والمؤسسات الانسانية المعروفة بنزاهتها، فستكون لها مساهمة فعالة في التقليل من مخاطر اللجوء، هنا وهناك، إلى سيف العقوبات الاقتصادية الذي لا يطال في النهاية سوى الشعوب، وبشكل أكبر، من مخاطر اللجوء إلى التدخل الأجنبي المباشر أو، وهذا أهم أيضا، في تجنب انحلال عرى العديد من الجماعات الوطنية وتفجرها، عبر حروب طائفية ودينية وعرقية لا طاقة للمجموعة الدولية اليوم في احتمال نتائجها الكارثية، كما هو حاصل اليوم في أفغانستان والعراق بشكل خاص، وفي العديد من البلدان التي تعيش حالة استعصاء وانسداد سياسي مماثل.