في أسباب العنف ومصادره في المجتمعات

2002-07-27:: الوطن

ذكرت في مقال سابق أن الإرهاب ليس سمة لأي ثقافة أو دين، وليس له علاقة حتى بالتعصب الذي يشرع اليوم كمصدر للإرهاب. ومن الممكن من دون اللجوء إلى الإسلام والتعصب تفسيره. وبالمقابل إن لتنامي العنف في المجتمعات العربية في العقدين الأخيرين وانتشار جزء منه في الخارج أسبابا ومصادر أخرى ليس لها علاقة بالدين ولا بالثقافة العربية وليست كلها من أصول عربية. ونستطيع أن نعد منها ثلاثة رئيسية لو وجدت في أي مكان لكان ذلك كافياً لظهور العنف.
المصدر الأول هو وجود نزاعات متعفنة، وبعضها منذ قرن، من دول حل، وإن لم يكن للولايات المتحدة الأمريكية دور في خلقها، فلها دور أكيد، وهي قوة عالمية قائدة، مسؤولة عن عدم السعي لإيجاد حل عادل لها.
ومن هذه المسائل المسألة الفلسطينية التي تشكل اليوم جرحاً نازفاً في المجتمعات العربية. وإذا كان هناك بالفعل عامل أسهم بشكل رئيسي في إدخال مفهوم العنف للمنطقة العربية ودفع العرب إلى استبطان العنف واستخدامه فهو قبل أي عامل آخر الاستيطان والاستعمار الصهيونيان اللذان لم يدمرا شعباً عربياً كاملاً ويحولانه إلى شعب من اللاجئين فحسب ولكنهما كانا ولا يزالان في أساس الحروب الرئيسية التي عرفتها المنطقة، ومصدر الرعب وزعزعة الاستقرار وتدمير التوازنات الجيوسياسية والسياسية العميقة فيها.
ومن هذه النزاعات أيضاً حصار العراق الذي كلف حتى اليوم، حسب منظمة التغذية العالمية، مليوناً ونصف المليون وفاة، منهم نصف مليون من الأطفال بسبب تدهور الشروط الصحية ونقص الأدوية الضرورية. ومنها أخيراً وجود القوات الأجنبية في الخليج، والطريقة التي وضعت بها الولايات المتحدة سيطرتها على منابع النفط والتي تثير حساسية المنافسين الأوروبيين وتستفز مشاعر المتدينين العرب الذين يعتقدون أن هناك تدنيساً للأماكن والأراضي المقدسة.
والسبب الثاني لتنامي العنف هو الديكتاتورية التي تعتمد مباشرة وبشكل علني على دعم الغرب وحمايته. وتمارس الديكتاتوريات سياسات قائمة أساساً على إرهاب الشعب وتخويفه وضرب البريء حتى يخاف الناشط السياسي المعامل معاملة المجرم، ولا يهمها أن تقتل الناس بعشرات الألوف إذا شعرت أن هناك تهديداً حقيقياً لحكمها.
والسبب الثالث هو حالة الفقر والتهميش والتقهقير الاقتصادي والاجتماعي التي تعرفها المجتمعات العربية. ويكفي أن نذكر بأن نسبة الفقراء قد ارتفعت في المنطقة العربية من حوالي 6% في السبعينيات إلى أكثر من 27% في عام ألفين، وفي بعض البلاد إلى أكثر مــن 60%. ولا يتجاوز حجم الاستثمارات الأجنبية في المنطقة العربية 1% في أوروبا الشرقية و26% في أمريكا اللاتينية و56% في جنوب شرق آسيا.
إن الإفقار المستمر والقهر المتزايد والنزاعات الوطنية المتفاقمة من دون حل تشكل مصادر ضغط هائل على شعوب فقدت أو هي في طريقها لأن تفقد الحد الأدنى من الحياة القانونية والمدنية والسياسية والاقتصادية الطبيعية والعادية وتدخل في مناخ من العنف الموجه نحو الذات مثلما هو موجه نحو الخارج. وتتعارض هذه الضغوط الاستثنائية الوطنية والاجتماعية والسياسية بقوة مع جمود النظام والنخب الحاكمة وتخلفها وعدم شعورها بالمسؤولية، وتدفع قسماً من الرأي العام الأكثر حساسية وتطرفاً إلى اللجوء إلى الحلول العنيفة التي يؤمل من خلالها هز الدول المسؤولة أو نقل زعزعة الاستقرار إليها.
وتمثل هذه الظواهر في الواقع الأوجه الرئيسية للأزمة العميقة والتاريخية التي يعيشها الشرق الأوسط والتي تفسر التطور المتزايد للعنف والأعمال العنيفة المرتبطة مباشرة بها فيها.
ويشبه وضع العالم العربي المشرقي اليوم الوضع الذي كانت تعيشه منطقة أمريكا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية. فقد جعلت السيطرة الخارجية والإفقار والتفاوت الاجتماعي وتكالب النخب الاجتماعية الحاكمة على السلطة باستخدام وسائل ديكتاتورية، ودعم هذه النخب من قبل الولايات المتحدة ضد الرأي العام اللاتيني من أمريكا اللاتينية الموطن الرئيسي للإرهاب العالمي الموجه لواشنطن بالذات خلال عدة عقود. وقد تتلمذ بعض الناشطين العرب منذ السبعينيات على حركات أمريكا اللاتينية هذه وتعلموا منها أساليب العنف وحرب العصابات وحروب المدن وترجموا مختلف كتبها في هذا الميدان. ولم يتراجع نمو العنف والإرهاب في أمريكا اللاتينية إلا منذ عقد وبموازاة نجاح هذه القارة في تجاوز نزاعاتها الداخلية وتحرير نفسها من التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وأخذها بمناهج الحكم الديمقراطي واعتمادها سياسات تنموية جديدة أخرجتها من دائرة الفقر والهامشية.
وفي البلاد العربية، يحتاج الخروج من الأزمة المثلثه التي تضرب عدداً من مجتمعاتها، أعني الفقر والاستبداد والنزاعات التاريخية المستديمة مبادرة دولية حكيمة قائمة على مساعدة هذه البلدان على الخروج من العزلة والهامشية الاقتصادية وضخ رساميل جديدة فيها تمكنها من امتصاص الفقر وتخفيض نسبة البطالة وفتح آفاق حقيقية للأجيال الجديدة المعدومة الأمل اليوم. كما يستدعي الخروج من الأزمة القيام بجهود بناءة في سبيل التقريب بين وجهات نظر الحكومات والمعارضة السياسية والاجتماعية وفتح آفاق التعاون والتفاهم فيما بينها على أساس عقد وطني يضمن الحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية ويلغي التفرد بالسلطة واغتيال الحياة السياسية واستخدام القمع والتعذيب والاعتقال التعسفي، ويؤكد فصل السلطات وسيادة القانون واعتماد الانتخابات الحرة كطريق وحيد لتداول السلطة. كما يستدعي أخيراً التصدي بشجاعة وقوة للنزاعات الإقليمية والوطنية المتفسخة التي سممت الحياة السياسية في المنطقة وتكاد تسمم الحياة الدبلوماسية الدولية ذاتها، وفي مقدمها النزاع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، والنزاع العراقي ـ الأمريكي، والمقاطعة المؤذية المفروضة بصورة رسمية أو ضمنية على عدد من الدول العربية.
بذلك يمكن للشرق الأوسط أن يخرج من أزمته التاريخية ويندرج في دائرة الحضارة العصرية ويتمثل قيمها وتقاليدها أيضاً، وينبذ أساليب العنف وردود الأفعال العشوائية. فلا يمكن القضاء على العنف الموجه أو الذي يمكن أن يوجه نحو الخارج من دون إلغاء العنف كوسيلة للسيطرة والهيمنة الخارجية التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي. فمن الصعب على المجتمعات التي تعيش في ظل نظام دولي تعسفي ولا إنساني كما يظهر ذلك مثال فلسطين اليوم أن يأخذ بالشرعية الدولية ويدافع عنها. ولا يمكن القضاء على العنف أيضاً من دون إلغاء للعنف كأداة للحكم والممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الذي يقوم عليها النظام الداخلي القائم. ومن الصعب على الإنسان المحروم من التنظيم السياسي والنقابي ومن التظاهر ومن الاضراب ومن التعبير عن الرأي في الصحافة والإعلام، أي من استخدام أي وسيلة سلمية وسياسية للدفاع عن نفسه وضمان حقوقه الدنيا، أن يتمثل معنى الحياة القانونية. فلا يمكن لمن لم يعرف معنى الحرية والسيادة الوطنية والحياة السياسية الشرعية أن يفهم معنى الشرعية الدولية أو يراهن عليها.
إن تحطيم شبكات التنظيم العسكري والتمويل المادي لحركات العنف يشكل من دون شك خطوة أولى وأساسية. لكن تنظيمات وشبكات تمويل وتجييش كثيرة ستظهر لا محالة في المستقبل ما لم تتجاوز حرب مكافحة الإرهاب الجوانب التقنية، وتعمل على تغيير التربة التي يعشش فيها العنف وتشكل الحاضنة الحقيقية لكل بذور الإرهاب. وهذه التربة ليست شيئاً آخر سوى الأزمة الشاملة التي قادت إليها النزاعات المتعفنة والديكتاتورية التعسفية المقيتة والبليدة والأبوية وحالة التقهقر الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية. لا بل إن مصير هذه الخطوة وقسطها من النجاح أو الفشل يتوقف على الدروس السياسية التي سوف نستمدها منها، أعني على النتائج السياسية التي ستفضي إليها نهاية الحرب في أفغانستان وفي العالم العربي معاً. كما أن من الممكن للولايات المتحدة وحلفائها الخروج من هذه الحرب بنتيجة خاطئة هي ضرورة تعزيز تهميش العالم العربي وفرض الوصاية والحماية عليه، ورفع الجدران التي تفصله عن العالم وتدعيم أنظمة القهر والاستبداد والعنف الأعمى الممارس فيه، وترك النزاعات الإقليمية والوطنية تفتك به وتشل إرادته، من الممكن لها أيضاً، وهو ما نأمل به، أن تخرج باستنتاجات مناقضة تقوم على فهم ضرورة فك عزلة العالم العربي وهامشيته والسعي إلى دمجه بعالم عصره، وإخراجه من حالة الإحباط واليأس التي تقوده إليها سياسات نخب ديكتاتورية محلية ومصالح عالمية قائمة على ضمان الاستقرار الشكلي من دون مراعاة لأي مبادئ أو قيم سياسية أو ثقافية أو اجتماعية ولأي معايير قانونية. فبقدر ما سيدفع الموقف الأول إلى تفهم أزمة العالم العربي وإحباطه سوف يزيد من احتمالات النمو المتجدد لحركات العنف والإرهاب التي يصعب السيطرة عليها.
وبالعكس، بقدر ما يؤدي الموقف الإيجابي الثاني إلى إخراج العالم العربي من أزمته التاريخية ويفتح آفاق التحولات الديمقراطية فيه، يعزز من قيم الحرية والمساواة والعدالة الإنسانية يهمّش مجموعات الإرهاب ويعزلها ويجعل من نشاطاتها نشاطات غير منتجة وغير قادرة على تأمين أي تعاطف معها، أيي جفف الينابيع التي تستقي منها ويجعلها تذبل وتختفي من تلقاء نفسها.
حتى يكون من الممكن السير في طريق التعاون الإيجابي مع العالم العربي للخروج من الأزمة ينبغي التخلي النهائي عن الأطروحة التي سادت في العقدين الماضيين لدى أوساط المثقفين والمسؤولين الغربيين التي تعتقد أن هناك عداء تاريخياً وعميقاً بين العالمين الإسلامي والغربي، وأن أصل هذا العداء هو رفض الإسلام للآخر ورفضه للحضارة الحديثة، وتمسكه بنماذج حضارته التقليدية. فمثل هذه الأطروحة تجعل من الحرب ضد العالم العربي والإسلامي حتمية تاريخية ومن ضرب الحصار على هذا العالم العربي وسيلة وقائية لتفادي ضرره. وبالعكس، إن الإيمان بأن هناك وسيلة لدرء الحرب والإرهاب، والسعي العملي لتحقيق ذلك يستدعيان مقاربة أخرى، أقل ذاتية وتحاملاً، مفادها أن العنف والإرهاب ليسا مرتبطين حتماً بأي ثقافة أو ديانة أو جماعة وطنية أو قومية، ولكنهما ثمرتا شروط حياة الجماعات ووسيلة سلبية وانتحارية للرد عليها، يمكن أن تصيب عددا من الأمم في بعض الظروف الاستثنائية بصرف النظر عن ثقافتها ودينها، وأن مساعدة هذه الأمم على الخروج من هذه الظروف السيئة والاستثنائية هو أفضل طريق للتخلص من مخاطر الإرهاب الصادر عنها.