طريق الاصلاح المستحيل

2003-12-15:: BG.BLOG

يبدو لي أن التسوية الهشة والضعيفة التي تحققت في العقدين الماضيين بين المستفيدين من عملية التحرير الاقتصادي من الغيلان الكبار والمستفيدين من الانفتاح السياسي المحدود من بعض فئات الطبقة الوسطى المتدهورة، وهي التسوية التي حفظت حدا أدنى من الاستقرار للنظم العربية في العقود الثلاث الماضية تبدو اليوم، مع تراجع آمال التنمية الاقتصادية وعودة السياسات القمعية تحت ستار الحرب ضد الارهاب ومواجهة التحديات الخارجية، مهددة بالانهيار أكثر من أي فترة أخرى ومعها استقرار المجتمعات العربية.

فالتحرير الاقتصادي الذي كانت النظم العربية تراهن عليه كي تتجاوز الاختناقات السياسية الموروثة وتعزز الانفراج لم يؤت الثمار التي كانت تنتظر منه. وبالمقابل تحقق، شيئا فشيئا، ما كان جميع المراقبين يتوقعونه، أي وضع يد فئات قليلة من أصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي وعائلاتهم على عوائد التنمية المحدودة بالاضافة إلى عرقلة الإدارة التقليدية بشكل جدي وناجع لأي مبادرة إصلاحية إقتصادية والتلاعب بالقوانين الجديدة لتحويلها إلى أدوات لخدمة مصالحها الخاصة وتعزيز نفوذها. وبالمثل، تعمل عودة السلطات إلى سياسات التضييق على الحريات العامة ومحاصرة القوى السياسية الديمقرطية واعتقال الناشطين السياسيين إلى تقويض الرهان على الانفراج السياسي الذي دفع الطبقة الوسطى إلى التعاون على أمل الوصول بالطرق السلمية وبالحوار إلى فتح الحقل السياسي وتأسيس نظام التعددية الذي يشكل الإطار الوحيد الذي يمكنها من الدفاع عن مصالحها البعيدة. وهكذا فإن التفاؤل الواسع الذي رافق ولادة عهد التصحيح أو التحرير الاقتصادي يتعرض في العالم العربي إلى ضغوط قوية بسبب التراجع الخطير في التوقعات الاقتصادية والسياسية معا. وليس من المبالغة القول إن الرأي العام في البلاد العربية قد انتقل في السنوات القليلة الماضية من حالة التفاؤل التي أثارها صعود الآمال عند الجميع إلى حالة خطيرة من الإحباط واليأس والاكتئاب.
ومن الواضح أن إدراك النظم لفشل التصحيح الاقتصادي أو على الأقل تعثره وضعف حصيلته هو الذي دفعها إلى إعادة تقييم عملية الانفراج السياسي المحدود أو التراجع عنها. فقد كان الانفراج ممكنا ومحتملا بالفعل في حالة تقدم الأوضاع الاقتصادية وضروريا أو مفيدا لخلق مناخ ملائم لتقدمها وتعزيزها، لكن في الحالة المعاكسة يمكن أن يتحول الانفتاح السياسي، مهما كان محدودا، إلى ثغرة كبيرة في دفاعات النظم الاستراتيجية. فالطبقة الوسطى التي أعلنت عن حفاوتها بالعهد الليبرالي الجديد بسبب اعتقادها بأن الانفتاح الاقتصادي يعني بداية إخراج البلاد من تقاليد الحكم الأبوي أو الحزبي الأحادي ومن السيطرة البيرقراطية المدنية والعسكرية المعقمة والمعيقة، لن تتردد في الانفكاك عنه والوقوف ضده عندما تدرك أنه لم يتوج بأي فوائد بالنسبة لها وأن أسلوب الإدارة الأمنية للأزمات الاجتماعية والسياسية لايزال هو الأسلوب المعتمد لضمان الهدوء والاستقرار.
تميل معظم القيادات السياسية إلى إلقاء اللوم في إخفاق الانفتاح الاقتصادي أو تعثر على الإدارة البيرقراطية. ومن هنا سوف يتبع الحديث عن الانفتاح الاقتصادي مشروع إصلاح إداري اعتبرته معظم الدول ضروريا لإخراج الاصلاح الاقتصادي من أزمته أو من الطريق المسدودة التي وصل إليها. وهو ما تؤكد عليه أيضا المؤسسات المالية الدولية المعنية بالتنمية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. ففي نظر خبراء هذه المؤسسات أيضا، من المستحيل أن ينجح الانفتاح الاقتصادي مع وجود إدارة ينخرها الفساد، متواطئة مع فئات المصالح الخفية، وتفتقر أكثر من ذلك بشكل دراماتيكي للمهارات والكفاءات المطلوبة. لكن في جميع الحالات لم تكن نتائج هذا الاصلاح الإداري أفضل من نتائج الاصلاح الاقتصادي الذي انتهى على شكل تحرير الأسواق ولم ينجح في جذب شيء يذكر من الاستثمارات ولا من باب أولى في توطين صناعات أو خلق أقطاب تنمية تقنية أو علمية في البلاد.
والواقع أن سبب الإخفاق واحد في الحالتين، هو غياب المراقبة والمحاسبة الجماعية والعلنية وتحكم مجموعات المصالح الضيقة بالدولة وبالموارد الوطنية من خلال التضامن بين مجموعات المصالح الاقتصادية والسياسية، وهو ما يطلق عليه في الأدبيات الحديثة بمسألة الفساد. وللفساد في جميع مظاهره الاقتصادية والإدارية أصل واحد هو بنية السلطة السياسية نفسها، أعنى اعتماد النظم القائمة في ضمان وجودها وبقائها واستمرارها على سيطرة فئات واحدة من أصحاب المصالح المتضامنة والمكونة حسب قاعدة الولاء والتبعية على مؤسسات الدولة وأجهزتها وسعيها إلى الاحتفاظ بموقعها في الدولة والمجتمع بصرف النظر عن القوانين الموضوعية التي تحكم عمل هذه المؤسسات. فكما أنه لا أمل لفئات المصالح هذه أن تحتكر موارد البلاد وتضع يدها على الثروة الوطنية من دون إفراغ الدولة من محتواها وفرض سيطرتها عليها بصورة لاشرعية، كذلك لا أمل لأي نظام يعتمد على الإكراه ويستند إلى طبقة ترفض علنا مبدء الاحتكام في قيادتها وسياساتها وقراراتها للمجتمع والرأي العام، أن يستمر ويبقى من دون أن يجد نفسه مدفوعا إلى بناء قاعدة إجتماعية زبائنية خاصة قائمة على الولاء والتبعية، سواء أكانت حزبية أو عائلية أو عشائرية، تحل محل القاعدة الاجتماعية العمومية.
لا يعني هذا بالتأكيد إنه ليس من الممكن إصلاح الإدارة التي يشكل اليوم ضلوعها مع فئات رجال الأعمال الخاصة مصدر الفساد الرئيسي. لكن مدخل مثل هذا الاصلاح الوحيد هو إصلاح قاعدة العمل السياسية التي كونت هذه الإدارة أو بالأحرى عملت على إفسادها، أعني غياب المراقبة الشعبية الحقيقية واعتماد مبدأ المحسوبية والولاء والاستزلام في شغر جميع المناصب والوظائف الرسمية. وهو المبدأ الذي يضمن لشبكات المصالح تعزيز مواقعها وتضامنها داخل الدولة والاستفادة من موقعها المتميز فيها لخوض حربها الدائمة لتوزيع المنافع والامتيازات واقتسام الغنائم على حساب الأغلبية الاجتماعية، كما يضمن للنظم ككل ولنخبها السياسية تكوين قاعدة إجتماعية من أصحاب المصلحة في بقائها وبالتالي في استمرار الحكم واستقراره بصرف النظر عن إنجازاته أو أخطائه. إن تقديم مبدء الولاء والتبعية الشخصية على مبدء الكفاءة والمسؤولية هو أصل الفساد في كل النظم الاستبدادية الجمهورية والوراثية معا. فهو يعمل في الإدارة الاقتصادية أو السياسية أو المدنية عمل العملة الفاسدة في السوق التجارية ، أي يطرد الكفاءة وينفيها. وهذا ما يفسر غياب الكفاءات والأطر الماهرة الذي يشكو منه عن حق المسؤولون في أكثر من دولة عربية. فصاحب الكفاءة لايقبل بالاستزلام الذي هو قاعدة الولاء والمحسوبية، ويفضل الهجرة أو العمل خارج الإدارة، والمستزلمون من أصحاب الولاء لا يقبلون بوجود المدير الكفؤ الذي يطالبهم ببذل جهد وتحصيل مهارات يفتقرون إليها. فالمحسوبية تنفي بالتعريف مبدء الكفاءة والتبعية الشخصية تلغي حتما مبدء المسؤولية. وهكذا تزول تماما القواعد التي تقوم عليها أي إدارة حديثة عقلانية، فلا تبقى هناك لا كفاءات ولا شعور بالمسؤولية تجاه الدولة والمؤسسة والجماعة الوطنية، بل لا تبقى هناك حتى معايير وأصول متبعة في الإدارة التي تتحول في الواقع إلى مراكز وشبكات مصالح خاصة يجمع بينها ويدفعها إلى التنافس معا الافتقار الجامع للكفاءة والمسؤولية السياسية.
ومأساة الاصلاح ومشكلته الرئيسية في البلاد العربية كامنة في الرد على الأسئلة الصعبة التالية: كيف يمكن لؤلئك الذين وصلوا إلى مناصبهم عن طريق الولاء والمحسوبية والذين لا أمل لهم في الحفاظ على امتيازاتهم من دون استمرار السلطات الاستثنائية أن يقوموا هم أنفسهم بإصلاح هذه الأوضاع، أي بزعزعة الأرض التي يقفون عليها؟ وكيف يمكن لنظم حكم لا تقوم على قاعدة سياسية عمومية ولا تقبل بالاحتكام إلى الجمهور والرأي العام وتؤمن بأن قيادتها للمجتمع والدولة حقا أبديا لا نقاش فيه مهما كانت نتائج سياساتها وإدارتها وقراراتها، أن تضمن لنفسها الاستمرار من دون الاعتماد الواسع على قاعدة الولاء والقرابة والتضامنات العائلية والعصبوية؟ هذا هو التحدي الذي تواجهه النظم العربية والذي لن يكون من السهل تجاوزه للخروج من حالة التوتر المتزايد الذي يتجه إليه المجتمع وتندفع إليه الحكومات والمعارضات معا بسبب انهيار آمال الاصلاح السريع وتفاقم الأزمة الاجتماعية. وهو الذي يدفعني إلى القول بأن الطريق المسدود الذي وصل إليه عهد التصحيح العربي الذي بدأ منذ السبعينات ولا يزال يجرجر ذيوله في بعض البلدان العربية المتأخرة والمترددة يستدعي أكثر من أي وقت سابق العودة إلى سياسة الحوار التي تخلت السلطات العربية عنها اعتقادا بأنها تستطيع، عن طريق توقيع قوانين تحرير الاقتصاد، حل مشاكل البلاد واحتكار خيراتها معا. وكما أن التصحيح الاقتصادي لم يكن ممكنا من دون الاصلاح الإداري فإن الاصلاح الإداري لن يكون ممكنا من دون الاصلاح السياسي أي من دون معالجة الإطار الذي يمنع جميع مؤسسات الدولة من تمثل معايير الكفاءة وقيم المسؤولية التي هي أساس أي عمل صالح ومنتج في أي مجتمع قديم أو حديث. وإذا ما وصلنا إلى اقتناع فعلي بأنه لا توجد هناك حلول سريعة وجاهزة لأي مشكلة من المشاكل التي تواجهنا تماما كما أنه لا يمكن لأي حل أن ينجح ويستمر إذا كان أحادي الجانب أو لصالح طبقة أو فئة واحدة على حساب الجميع فلا بد لنا من الاعتراف بأن الوقت قد حان لفتح النقاش الوطني من جديد وإشراك المجتمع والرأي العام وجميع الأطراف في البحث عن الحلول الناجعة التي ليست موجودة في أي مكان آخر سوى التفاهمات الوطنية المفاوض عليها. هذا هو الطريق الوحيد للخروج من حالة القلق والحيرة والتخبط التي نعيشها ولا تكف عن تسميم حياتنا العمومية.