صراع الليبرالية والديمقراطية في المنطقة العربية

2005-06-22:: الاتحاد

على هامش نمو الفكرة الديمقراطية في العالم العربي وبموازاتها يتزايد الحديث لدى أوساط المثقفين عن الليبرالية كما لو كان المصطلحان متطابقان أو يشيران إلى مضمون واحد. وبقدر ما يعكس الخلط بين المفهومين رغبة بعض قطاعات المثقفين العرب في تفسير الديمقراطية بما يساعد على مواجهة القيود والضغوطات التي تمارسها المجتمعات التقليدية على الفرد في ما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبدادية، يثير بالمقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة التي تخشى أن يكون مضمون الديمقراطية الإباحة الكاملة لكل ما يمكن أن يشكل خرقا للقيم والتقاليد والعقائد الدينية. فكما تبدو الديمقراطية لدى الفريق الليبرالي المتنامي وسيلة لتأكيد سيادة الفرد المطلقة تجاه المجتمع تظهر عند الفريق المحافظ والاسلامي منه بشكل خاص كتحرر من كل قيد بل من كل التزامات تجاه هذا المجتمع نفسه واستباحة جميع المحرمات. وربما شكل هذا التناقض المتنامي في حجر الفكر السياسي العربي الناشيء وهو التناقض المسكوت عنه اليوم بسبب الالتقاء الظرفي السياسي بين جميع تيارات الاحتجاج على النظام التسلطي العربي، مصدر القلق والتردد والتشكيك وبالتالي الانقسام على النفس الذي لا يزال يطبع موقف الرأي العام العربي من مسألة الاختيار الديمقراطي ويؤخر الحسم فيه بالرغم من تنافس الجميع في تقديم الولاء الظاهري للفكرة الديمقراطية.

 

1- في ضرورة التمييز بين الليبرالية والديمقراطية ليس هذا التناقض حكرا على الثقافة العربية الديمقراطية الناشئة ولكنه موجود في صلب الفكرة بالفعل. وبالرغم من أن الديمقراطية لا تتناقض بالأساس مع الليبرالية التي شكلت حاضنتها الفلسفية والسياسية الرئيسية إلا أنها لا تتطابق معها بل هي تنزع إلى الاستقلال أكثر فأكثر في مفهومها ومنظومة ممارستها عنها. وفي هذه الحقبة التي تشهد عودة قوية للفلسفة الليبرالية عموما، وفي عالم الجنوب والشرق بشكل خاص، كما عكس ذلك الصدى الذي كان لأفكار فوكوياما منذ سنوات على أثر الانحسار إن لم نقل التلاشي الذي شهدته الفلسفات المناوئة وفي سياق انهيار الفكرة الشيوعية وتراجع الايديولوجيات القومية وانبعاث أفكار وحركات المجتمع المدني وحقوق الانسان يصبح من المفيد إعادة فحص هذين المفهومين المترادفين، الديمقراطية والليبرالية، والسعي إلى إبراز المستويات المختلفة لتطابقهما وانفصالهما. بالتأكيد ينبغي الحذر من معاملة المفاهيم الفكرية كما لو كانت مفاهيم جامدة وجاهزة. فهي تتطور وتتبدل مضامينها باستمرار. لكن بالرغم من أن المفاهيم لا تحتفظ بدلالاتها من دون تغيير لفترات طويلة وأن مضمونها التاريخي يرتبط في النهاية بالسياق الاجتماعي الذي تعاود الظهور فيه إلا أن استخدامها في فترات متباعدة وفي سياقات مجتمعية متعددة يؤكد أن للمفاهيم الاجتماعية بعض الدلالات الثابتة التي من دونها لا يستقيم معناها ولا استخدامها.

ومن هنا يحتاج التأمل في محتوى التيارات الليبرالية والديمقراطية المتنامية في عالم الجنوب الذي خضع لحقبة طويلة لسيطرة الفلسفات القومية والاشتراكية المناوئة لها إلى التمييز بين ثلاث مسائل رئيسية. المسألة الأولى تتعلق بالفرق بين مفهوم الليبرالية ومفهوم الديمقراطية في الوقت الذي يزداد فيه الميل في البلاد العربية للخلط بينهما واستخدام واحدهما مقابل الآخر أو بديلا عنه. والمسألة الثانية تحديد الدلالات الأساسية التي لا تزال مرتبطة بالمفردتين والتي تعطيهما معناهما اليوم عند العرب كما هو الحال عند بقية المجتمعات. والمسألة الثالثة فهم المضمون التاريخي لكليهما من خلال السعي إلى معرفة المهام التي يتوجب عليهما أو على أي منهما تحقيقها والتحديات التي ينبغي عليهما الرد عليها في نظر الداعين لهما. في ما يتعلق بالمسألة الأولى نقول إن الليبرالية تغطي فلسفة اجتماعية كاملة وتشكل ايديولوجية من بين الايديولوجيات الاجتماعية والسياسية العديدة كالقومية والشيوعية والاسلامية الحديثة وغيرها من العقائديات الجمعية بينما تشير الديمقراطية إلى نمط من أنماط الحكم السياسية المبنية على قيم مستمدة من الليبرالية لكن ليس منها فقط. وهي من دون شك، في مقدماتها النظرية واختياراتها القيمية، امتداد للفلسفة الإنسانوية وربما تجذيرا لها على بعض الأصعدة ومن حيث هي تأكيد ليس على الحرية أو الحريات فحسب وإنما على الحرية الفردية خصوصا بوصفها الغاية الرئيسية من أي هيئة إجتماعية. فأول تجليات الحرية الفردية أخلاقية تجعل من تكوين الفردانية الحرة واستقلال الفرد واحترام مجال حياته الخاصة بل تحريمها على الآخرين بما في ذلك سلطة الدين والدولة والعشيرة والعائلة، مقياسا لتقدم المجتمعات وتحضرها. وثاني تجلياتها سياسية يقوم على اجتماع الأفراد الأحرار الذين كونتهم الثقافة والأخلاق كأفراد مستقلين وأسياد متنافسين ومتماثلين معا وتفاهمهم على عقد اجتماعي يكون الحفاظ على الحرية الفردية وتوسيع نطاقها فيه هو الغاية لأي حياة جمعية سليمة. وهو ما يؤدي إلى تبني مفهوم متميز عن دور الدولة ووظيفتها ينزع إلى أن يجعل منها حارسا ليليا فحسب، أي يحولها إلى وسيلة لحفظ الأمن في مجتمع تصوغ سياساته وتتخذ القرارات فيه مؤسسات تمثيلية تعبر عن إرادة الأفراد المتعاقدين. فليس للدولة هنا من حيث هي أجهزة تقنوقراطية وبيرقراطية أي استقلالية أو مبادرة مستقلة غير مشرف عليها مباشرة من قبل السياسيين المرتبطين مباشرة بمن يمثلونهم من الأفراد المتعاقدين. وثالث تجلياتها هو الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق الذي يخضع لقوانين العرض والطلب على مستوى التداول البضاعي أو تداول قوة العمل معا والذي لا يحق لأي سلطة أخرى من خارج حقل السوق أن تخضعه لها أو أن تفرض عليه قوانين غير مستمدة من حاجات السوق أو تستهدف شيئا آخر غير تنظيم المنافسة وضمانها داخل هذه السوق. فالسوق يعني قبل أي شيء آخر المنافسة الحرة بين الأفراد والطبقات في جميع مستويات العمل والانتاج والتداول والاستثمار. وكان آدم سميث يعتقد أن قوانين السوق إذا ما سمح لها بأن تأخذ مجراها دون تدخل من الدولة، فستقوم بمهمتها وتحقق الاتساق بين الأفراد وداخل المجتمع كما لو كانت تشكل نظاما غائيا متعمدا. فلم يكن لديه شك في أن لعبة المصالح الخاصة ، إن لم يعقها تدخل خارجي مفتعل، تؤمن حاجات الجميع، وتخدم المصلحة العامة، وكأن هناك يدا خفية غير مرئية، تحدد الأدوات، وتنسق الحركات كي يسير على ما يرام. ومن هنا يؤمن الليبراليون بأن أفضل خدمة نقدمها إلى المجتمع هي: تسهيلنا للأفراد سعيهم إلى خدمة مصالحهم الخاصة. وتنطوي الليبرالية على اعتقادات ثابتة أساسية لا تستقيم من دونها. أولها مبدأ الانسجام الطبيعي الذي يقضي بأن بحث كل فرد حر عن مصالحه الخاصة لا يتناقض مع تحقيق المصلحة العامة للجميع ولكنه يشكل بالعكس ضمانته الحقيقية. ويعني هذا أنه إذا تركنا كل فرد يبحث بحرية عن مصلحته الخاصة فسنصل إلى انسجام حقيقي في المصالح أكثر بكثير مما لو سمحنا للدولة بأن تتدخل لضمان مثل هذا الانسجام أو لاختراعه. وثانيها أن حقل الحرية السياسية يتطابق مع حقل الحرية الاقتصادية. ولا يعني هذا مجرد الافتراض بأن الاقتصاد الحر هو شرط للحرية السياسية أو الديمقرطية فحسب ولكن أكثر من ذلك أن الحريات الاقتصادية المجسدة في اقتصاد السوق الحر تقود مباشرة وتلقائيا إلى نشوء الحريات السياسية وتأكيدها. وثالثها أن الديمقراطية والليبرالية متطابقتان تماما فلا ديمقراطية من دون ليبرالية ولا ليبرالية من دون ديمقراطية وبالتالي فالليبرالية تضمن بشكل تلقائي تكافؤ الفرص وآفاق الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية لجميع الأفراد بقدر ما تضمن النمو والتقدم الاقتصادي. والنيوليبرالية التي تشكل الايديولوجية الجديدة لحقبة ما بعد الحرب الباردة في مركز العالم الصناعي والتي تنتشر بسرعة في بقية بقاع العالم هي مذهب العودة إلى أصول الليبرالية أو إلى الليبرالية الأصلية، وتعني إذن تحريرها من القيود التي أدخلت عليها منذ العقود الأولى من القرن العشرين كرد على الأزمات الكبرى التي واجهتها ومنها أزمة الكساد الكبرى في نهاية الثلاثينات. وفي كل عودة للأصول مبالغة أيضا في التركيز على المباديء والقيم الأساسية التي يتضمنها المذهب أو النظام المستعاد. ومن هنا لا تكتفي النيوليبرالية بالتأكيد على ضرورة التراجع عن تدخل الدولة المباشر والواسع في النشاطات الاقتصادية والانتاجية بما في ذلك قطاع الخدمات العامة وإخضاعها جميعا لقاعدة المنافسة وقانون العرض والطلب الذي يعتبر القانون الأساسي للسوق. إنها تسعى أكثر من ذلك إلى تجاوز نظام السوق الرأسمالية القومية أو الوطنية الذي ساد في المراحل السابقة وما يعنيه من ممارسة الدولة لحقها في السيادة الاقتصادية ووضع التعرفات الجمركية الحمائية وتنشد بناء سوق رأسمالية على امتداد الكرة الأرضية، وهو ما يندرج اليوم تحت إسم العولمة. وفي السياسة تعني النيوليبرالية التخلص من دولة الرعاية والدعم التي نشأت في الحقبة الماضية. فهي تنظر إلى الخدمات التعليمية والصحية والضمانات الاجتماعية المختلفة التي وفرتها هذه الدولة في السابق على أنها معيقة لتقدم المجتمع الحر في أخلاقياته وفي حريات إفراده السياسية وسيادتهم واستقلالهم لأنها تقيد اختياراتهم مثلما هي معيقة للتقدم الاقتصادي بقدر ما تفرض إكراهات وكوابح على سوق التداول الحر للسلع والخدمات والمهارات.

 

-2 تناقضات الليبرالية بالرغم من أن الديمقراطية لا تتناقض بالأساس مع الليبرالية التي شكلت حاضنتها الفلسفية والسياسية الرئيسية إلا أنها لا تتطابق معها بل هي تنزع إلى الاستقلال أكثر فأكثر في مفهومها ومنظومة ممارستها عنها. فقد واجهت الليبرالية كما يعرضها أنصارها وكما عادت إلى التجلي عبر ما يسمى اليوم بالليبرالية الجديدة التي تحولت إلى مذهب سياسي للقوى الكبرى، ولا تزال تواجه انتقادات كثيرة. فقبل أن تظهر التجربة التاريخية أن الحرية بالمعنى الذي تدعو إليها الليبرالية لا تقود بالضرورة إلى الانسجام الطبيعي بين جميع المصالح الاجتماعية كما أنها يمكن أن تعمل على ايجاد أوضاع إجتماعية تخل بشروط ممارسة الحرية عند القسم الاكبر من الرأي العام لصالح فئات قليلة هي تلك المسيطرة على موارد الثروة والسلطة والمعرفة. وهي بدل أن تقود إلى تعميم قيم الحرية تمنع من تحقيق ما تطمح إليه المجتمعات من عدالة ومساواة حقيقيتين. وكان جون ستيوارت ميل قد لا حظ مثل هذه التناقضات داخل الليبرالية وسعى عبر فلسفته الخاصة إلى التوفيق بين مباديء الحرية ومباديء العدالة والمساواة. وهكذا قام بالتمييز منذ القرن التاسع عشر بين مجال الخاص أو مجال الحرمة الشخصية الذي يكون فيه الفرد حرا تماما ولا حق للدولة أو السلطة العمومية في تقييد حريته ومجال العام الذي يكون فيه للدولة الحق في أن تتدخل بما يضمن مصالح الكل الاجتماعي واتساق حريات الأفراد وقيم المجتمع. وكان هذا التمييز تأكيد على أن الكل الاجتماعي ليس حصيلة حسابية للفرديات الحرة وإنما كيانا مختلفا عن الفرديات جميعا له منطق اتساقه الخاص الذي لا يتطابق مع منطق الفرد الحر ميكانيكا. وهوما يعني أن ما نسميه المصلحة العامة لا يمكن أن ينجم تلقائيا من تنافس المصالح الخاصة. لا يقبل الفكر الديمقراطي المعاصر بالمسلمة القائلة بأن احترام الحريات الفردية يقود حتما إلى تحقيق القيم الإنسانية المطلوبة وينتج تلقائيا العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لأبناء المجتمع الواحد ولا يؤمن بالتالي بالانسجام الطبيعي بين حقلي الحرية الاقتصادية والسياسية. إن الحرية لا بد أن تترافق مع سياسات اجتماعية واقتصادية تضمن حدا أدنى من استقلال الأفراد الذي يمكنهم من ممارسة حرياتهم والتعبير الصحيح عنها. فالحرية لوحدها ليست مبدأ كافيا لقيام نظام ديمقراطي وإجتماعي صالح وناجع بالرغم من أنها تبقى قيمة أساسية فيها. فإذا لم تكن هناك ديمقراطية من دون حرية فلا حرية أيضا من دون عدالة ومساواة قانونية فعلية. ومن هنا لا يعتبر الفكر الديمقراطي المعاصر عدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية مذهبا مقدسا وشرطا لقيام اقتصاد سوق ناجح ومنتج. ومن هنا سوف يتبلور عبر التجربة التاريخية الطويلة مفهوم للديمقراطية يقطع مع الليبرالية في مناح عديدة. المنحى الأول هو التمييز بين المظاهر السطحية والشكلية للمارسة الديمقراطية وبين تحقيق القيم العميقة للفلسفة الليبرالية. وكان ماركس أول من كشف عن هذا التناقض العميق بين الحريات الشكلية التي وعدت بها الليبرالية وبين العبودية التي ينتجها ويفرضها تحكم رأس المال حتما على الطبقات الشعبية. وبالرغم من الانحراف الذي قادت إليه هذه النظرية الصحيحة والذي اتخذ شكل معارضة نظام الحرية السياسية أي الديمقراطية "الشكلية" كما كان يقول الماركسيون بنظام المساواة الاجتماعية أو الديمقراطية "الشعبية" التي تقوم على عدالة توزيع الثروة، إلا أن تطور التجربة الليبرالية نفسها قد أسفر عن رؤية تكاد تكون موضع إجماع على أمرين: الأول أن الديمقراطية بما تعنيه من ضمان حرية الأفراد ومشاركتهم السياسية واستقلالهم لا يمكن أن تتحقق من دون حد أدنى من العدالة والانصاف في توزيع الثروة. والثاني أن نظام السوق، بالرغم من قانون المنافسة الذي يضبطه، يقود حتما وبصورة تلقائية إلى تركيز الثروة وبالتالي أيضا السلطة والمعرفة بيد فئات قليلة. ومن هنا طورت جميع البلدان الليبرالية الأوروبية التقليدية مع الزمن سياسات إجتماعية أساسية لتجاوز هذا التناقض وإخضاع المباديء الليبرالية التقليدية إلى ضوابط سياسية واقتصادية واجتماعية تمنع أصحاب الرساميل من السيطرة المتزايدة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع وتقضي بالتالي على الديمقراطية باسم الحرية أو الحفاظ على أوسع قدر من الحريات الفردية الذي تسعى إليه الليبرالية. وهذا يعني أن الديمقراطية لا تتعلق فقط بالمظاهر والمؤسسات الشكلية ولكنها تهتم بشكل أكبر بالقيم الاجتماعية والسياسية الفعلية. وهو ما يساعدنا على التمييز بين نظام التعددية السياسية بما يشير إليه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للأفراد وبين نظام الديمقراطية بما يتضمنه من تأكيد لقيم الحرية والعدالة والمساواة. فمن الممكن أن يكون هناك نظام يحترم بدقة التعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير والتنظيم والمشاركة للجميع لكنه لا يحقق مع ذلك القيم الديمقراطية من تكافؤ الفرص والمشاركة العملية وحرية الرأي وغيرها ذلك أن فئة قليلة من أصحاب الرساميل تسيطر على النظام التعددي وتسيره حسب مصالحها وتتلاعب بالإرادة الشعبية. وهذه أكبر المخاطر التي تواجهها الليبرالية في الواقع. ومن هنا لم يعد مقياس ديمقراطية المجتمع هو دقة احترام الدساتير للمباديء الليبرالية وإنما حقيقة مطابقة هذه المباديء مع الوقائع الاجتماعية. إن الديمقراطية تقاس إذن بمدى تحقق قيم الحرية والمساواة والعدالة. فلا حرية مع الفقر أو التفاوت الفاحش في مستويات المعيشة. ومن هنا يعتبر ما قمت به بعض الحكومات في العقود الماضية من تقليص سلطة الملاك شبه الإقطاعيين وإعادة توزيع الأرض على الفلاحين باسم الاصلاح الزراعي إجراءا ديمقراطيا بالرغم من أنه حصل في سياق وبأسلوب غير ديمقراطي. وبالمثل إن دمج الفلاحين في الحياة الوطنية الحديثة عن طريق نخبهم أو مباشرة بتحسين شروط الحياة في الأرياف وربط هذه الأخيرة بشبكات النشاط الاقتصادي والسياسي والفكري المدينية هو جزء من عمليات التحويل الديمقراطي مهما كانت الشروط التي تم فيها. لم تعد الديمقراطية في هذا المنظور تطبيقا مباشرا وتلقائيا لفلسفة الحرية الفردية وأصبحت هي نفسها مثالا أو نموذجا للانسجام داخل النظام الاجتماعي تقاس به درجة تحقق الحرية الفردية الفعلية أو حقيقة الحرية المدعاة في النظم السياسية. وهذا الفصل بين الديمقراطية كنظام اجتماعي يدمج بين دولة القانون التي يتساوى فيها الأفراد ودولة العدالة الاجتماعية ورفض التهميش والإقصاء والتفاوت الصارخ في المداخيل مهما كان مصدره وكذلك دولة الحريات الفردية واحترام الأشخاص والجماعات، قد فصل الديمقراطية عن الايديولوجية الليبرالية التي شكلت التربة الفلسفية التي ولدت فيها وسمح بالتالي بنشوء نماذج متعددة محتملة لها. فلم يعد هناك ما يمنع الديمقراطية، من حيث هي نظام للحكم وتنظيم علاقات السلطة بين الأفراد داخل المجتمع الواحد بما يساعد على تحقيق قيم الحرية والمساواة والعدالة، أن تستقل بنفسها عن الفلسفة الليبرالية لتأخذ بفلسفات روحية واجتماعية مختلفة عنها لا تجعل من حرية الفرد المقياس الوحيد لتقدم الحياة الجمعية من دون أن تلغيها أو تتعارض معها. وهكذا صار من الممكن الحديث من دون فقدان الاتساق المنطقي عن ديمقراطية مسيحية أو إشتراكية تستمد شرعية القيم الانسانية التي تعمل من أجلها من عقائد أو فلسفات أخرى. وفي تركيا الراهنة يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلامية تؤكد على الالتزام بقواعد الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة والحرية انطلاقا من ومع التمسك ببعض القيم الروحية والاجتماعية والثقافية الخاصة، بما في ذلك ربما التأكيد على أهمية التضامن داخل الأسرة أو تشجيع المؤسسات الأهلية والخيرية إلخ. وبالمثل ليس هناك ما يمنع سلطة ديمقراطية منتخبة وتمثيلية من أن تضع بعض القيود على قانون المنافسة الاقتصادية إذا وجدت في ذلك ضرورة للحد من الهدر أو من احتمالات تدمير الموارد أو إرهاق طبقة العمال أو البيئة العامة. ولن يكون هناك مانع أيضا من وضع قيود على حرية التجارة والتبادل أو رفع التعرفات الجمركية في العديد من الميادين أو تجاه العديد من المنتجات. باختصار، من الممكن تماما أن تكون هناك ديمقراطية لا تقاس سعادة المجتمع ورفاهه فيها بحجم أو بعدد الحريات الفردية الممارسة وأن تكون فيها الأسبقية لقيم العدالة أو المساواة بين المواطنين أو بين الجنسين أو بين الطبقات أو الأقاليم والجماعات المختلفة، خاصة عندما تكون الفوارق بينها ذات طبيعة خطيرة واستثنائية . مما يعني القبول بما يتطلبه تحقيق ذلك أحيانا من تدخل مباشر لفرض بعض القيود على حريات بعض الفئات التي يعيق نمط انتاجها أو ممارسة حرياتها تحرر الأغلبية من الأفراد وتفتحهم. كما يعني القبول بما نسميه اليوم مبدأ ممارسة التمييز الايجابي لصالح الطبقات الشعبية أو الفئات المجتمعية الضعيفة لرفع درجة مشاركتها أو اندماجها أو مستوى معيشة أبنائها. وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن ديمقراطية اجتماعية هدفها تحقيق أكثر ما يمكن من التضامن بين الأفراد ومن المساواة الفعلية بين الجماعات المنتمين إلى الدولة الواحدة بل اليوم إلى العالم الواحد مع الحفاظ على حرية الفرد كجوهر ثابت لأي ممارسة ديمقراطية.

 

3- تحرير الفكرة الديمقراطية من الفلسفة الليبرالية شرط تعميمها وفي العالم العربي المعاصر لا تبرز فلسفة الليبرالية كتعبيرعن ولادة روح فردية قوية ومستقلة ومبادرة بالفعل بقدر ما تعبر عن خيبة أمل قسم من الرأي العام بأنظمة حكم انبثقت خلال نصف القرن الماضي وفرضت نفسها باسم الدين أو القومية أو الاشتراكية واتسمت بما يشبه عبادة الدولة وتقديس دورها الاجتماعي على حساب الفرد وحريته واستقلاله وكرامته. ولذلك فهي لا تبدو كفلسفة أوسع من الديمقراطية ولكن كتيار فكري مكمل لها أو كالجناح المغالي في الحركة الديمقراطية. ومن يقرأ الأدبيات السياسية العربية الأحدث يدرك بسهولة الاختلاط العميق الذي يسيطر على الثقافة السياسية العربية في ما يتعلق بمفهومي الديمقراطية والليبرالية وأحيانا عن استخدامهما بمعنى واحد. بيد أن الأمر لا يتوقف على مجرد الخلط بين المفهومين وعدم إدراك الفرق بينهما وإنما يذهب أبعد من ذلك فيطابق بين الديمقراطية والليبرالية أو ينزع إلى تفسير الديمقراطية تفسيرا ليبراليا. ولا يحصل ذلك بسبب معرفة قيم الليبرالية نفسها وإنما نتيجة الاعتقاد بأن هذه القيم هي جزء لا يتجزأ من الديمقراطية أي من تأكيد قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع الأفراد بوصفهم أفرادا أحرارا وأسياد أنفسهم خارج أي إكراهات مجتمعية أو حكومية. ومن نتائج هذه المطابقة السلبية والمضرة بالديمقراطية نزوع من يطلقون على أنفسهم اسم الليبراليين العرب، وانطلاقا من جعل الحرية الفردية قيمة مقدسة والقيمة الأولى بل أحيانا الوحيدة للنظام الاجتماعي ككل وليس في الممارسة السياسية فحسب، إلى التضحية بقيم أساسية لا تستقيم الديمقراطية العربية من دون احترامها ولن يكون لها أي أمل في الوجود مع الاستهتار بها. ومن هذه القيم ما هو نتاج الخبرة الانسانية جميعا مثل قيم العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية وتكافؤ الفرص الفعلي والتضامن الاجتماعي. ومنها، بالنسبة للمجتمعات العربية التي لم تنجح بعد في الخروج من سياق الهيمنة الاستعمارية، القيم الوطنية المرتبطة بمهام تحقيق أو حماية الاستقلال والسيادة الوطنية التي ركزت عليها النظم السابقة وبشكل خاص تجاه الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة وأوروبة. ومنها ما يتعلق بمسائل التأكيد على الهوية العربية وما ارتبط ويرتبط بها من نزوعات إلى بناء مشاريع الوحدة أو الاتحاد أو التعاون الإقليمي الخاص بين البلدان العربية. ومنها أيضا وأحيانا التضامن مع قضايا الأمة العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية. ويرتبط هذا النزوع عند الليبراليين العرب الجدد إلى التخلي عن هذه القيم الإنسانية العميقة وفي مقدمها التطلعات الإقليمية والوطنية بتأكيد قيم احترام التنوع العرقي والديني والتركيز على قضايا المعيشة وتحسين مستويات الدخل والتنمية والتعاون مع الدول الأجنبية من دون ايلاء اهتمام كبير لمسائل السيادة والحساسيات الشعبية التاريخية. ويخشى أن تتماهى الليبرالية أكثر فأكثر في البلاد العربية مع التأمرك أو حب التماثل مع أمريكا والاقتداء بنموذجها الاجتماعي والسياسي بل في بعض الأحيان مع التقليل من مخاطر التهاون مع إسرائيل أو التحالف معها معا كما حصل مع بعض تيارات الليبرالية المصرية بعد التوقيع على اتفاقات كمب ديفيد. ولا شك في أن قيم الليبرالية الجديدة، كما يعيد اكتشافها فريق من المثقفين العرب في سياق صراعهم المشروع ضد النظم الاستبدادية القاسية من جهة وفي مواجهة القيود التي تفرضها التقاليد الاجتماعية والدينية المحافظة والمتفاقمة، تميل إلى وضع نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم السائدة. ويخشى أن يكون مصير التيار الليبرالي العربي الجديد ومن ورائه مصير النخب المثقفة العربية قريبا في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين من مصير التيار الماركسي الذي نشأ وتصاعد نفوذه في أوساط المثقفين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. فكلا التيارين ينزع إلى أن يعكس تمرد فئات من المثقفين على القيود القاسية والمتعددة التي يضعها المجتمع والدولة على حرية الفكر والاعتقاد والمشاركة السياسية ويهدد لهذا السبب نفسه بدفع المثقفين أو جزء منهم إلى تبني موقف يشبه موقف المنشقين على الدولة والمجتمع. وكما يقود هذا الموقف إلى تفاقم شعور المثقفين بالعزلة والتهميش والانفصال يشجع لدى بعضهم المراهنة بشكل متزايد على التعاون مع القوى الخارجية بل على التدخلات الأجنبية في سبيل تحقيق تحولات ديمقراطية فعلية داخل مجتمعات تبدو غير قادرة في نظرهم على تحقيقها بعناصرها الذاتية. إن التطلع الايجابي إلى بناء الذاتية الفردية الحرة والمتحررة من القيود، ومواجهة الأطراف الاجتماعية المختلفة التي تشكل مصدر سلطة أو صلاحية خاصة، سواء أكانت مجتمعا شاملا أم طبقة أم قبيلة أو طائفة أم عشيرة أم عائلة، في سبيل تأكيد موقف الفرد الحر ومسؤوليته وحقيقته، قد يفتح الباب أمام التقليل من قيمة الذاتية الجمعية ومن مسؤولية الدولة والمجتمع معا تجاه الفرد إذا لم يخضع لمعايير أخلاقية أخرى. وقد يقود التطرف الليبرالي في موضوع الحرية الفردية وميله إلى جعلها معيار الحياة المجتمعية كافة إلى عكس ما يهدف إليه، أي إلى تهديد الذاتية الفردية، وفرض الوصاية وخلق الظروف التي تحول دون تعميم الحريات ودون تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس من العدالة والمساواة والاعتراف بمركزية الانسان وقيمة وجوده الأصيلة. باختصار لم تعد الديمقراطية رديفا لليبرالية التي تتماهى مع نظريات التكيف مع السوق العالمية ونظريات العولمة الجديدة الخاضعة لهذه السوق ومنطقها كما تتماهى مع التخلي عن الانتماءات والالتزامات الجمعية الوطنية أو الحضارية لحساب الاندماج والتفاعل الفردي الحر مع هذه السوق، أي في الواقع مع تحويل الجميع إلى مستهلكين أو إلى تحريرهم من جميع القيود الفكرية والسياسية والمجتمعية التي تمنعهم من هذا التفاعل المباشر والحر. إنها تتحول أكثر فأكثر إلى نموذج مناقض تماما لليبرالية وتؤسس لرؤية جديدة تجعل من التحكم بمنطق السوق ورفض الخضوع لمعاييره وحدها وللالتزام الأخلاقي والسياسي قاعدة لبناء حكم صالح معياره الرئيسي الاتساق الاجتماعي والتضامن الإنساني في ماوراء حدود الدول. وهذا يعني أن الحريات الفردية والجماعية صلب الديمقراطية وغايتها لكنها لا تتحقق من دون تأمين شروط أخرى. كما أن هذه الحريات التي تشكل جوهر الديمقراطية لا تنفصل عن القيم الإنسانية ولا يمكن النظر إليها بشكل تجريدي يفصلها عن الإرث الثقافي العالمي ولا عن القيم الخصوصية التي تعكس المسارات الخاصة بالمجتمعات المختلفة وظروف تطورها. وهذا ما يبرر الحديث بالفعل عن نماذج مختلفة لتطبيق الديمقراطية منها نموذج الديمقراطية الاجتماعية ومنها نموذج الديمقراطية الإسلامية التي نتوقع أن تزدهر في العالم العربي كما حصل مع الديمقراطية المسيحية وعلى شاكلتها في أوروبة الغربية ومنها أيضا نموذج الديمقراطية الليبرالية التي تقدم أفضل مثال عليها الحالة الأمريكية. وهذا يعني أن هناك، في ما وراء الهياكل الإجرائية وآليات ممارسة السلطة التي تجسد الديمقراطية ولا تقوم هذه إلا بها رؤى مختلفة ومتباينة لطبيعة الأهداف والمهام التي يتعين على الديمقراطية القادمة أن تعمل عليها وتقوم بتنفيذها. فالديمقراطية الاجتماعية تعتبر التحويل الديمقراطي وإعادة إدخال الشعب في السياسة وإقامة سلطة تعددية على أسس الشرعية الانتخابية هو وسيلة من أجل تحقيق مساواة أكبر بين الأفراد أمام القانون وفي مجالات الحياة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وشروط المعيشة، أي من أجل عدالة أكثر أيضا. فنظام التسلط والديكتاتورية لا يعمل اليوم بشكل واضح لصالح تركيز الثروة المتزايد فحسب ولكن أيضا لصالح تهميش الشعب وإخراجه من دائرة القرار كما يعمل لصالح تعميق الإفقار الثقافي والفكري وجعل المعرفة والعلم والتربية والتعليم حكرا على الخاصة من المجتمع. فالخيار الديمقراطي الاجتماعي يجعل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغاية الأولى للسلطة السياسية وبالتالي ينظر بعين أكثر استعجالا لتحقيق الوحدة والتعاون الإقليمي والدفاع عن القيم الوطنية. وهناك ديمقراطية اسلامية تنظر إلى التعددية وما تتضمنه من اعتراف بالحريات والحقوق الأساسية للفرد المواطن على أنها وسيلة لإضفاء طابع القيم الاسلامية واحترام الطقوس والتقاليد الشعبية على الحياة العمومية وبث درجة أكبر من الأخلاق في حياة الأفراد والجماعات، في الدولة والحياة الخاصة معا، أي بناء العلاقات والحياة العمومية على أسس أخلاقية. وهناك مشروع الديمقراطية الليبرالية الذي يرى في التعددية إطارا لتنمية الحريات الفردية التي يعتبرها قيمة أساسية وذات أسبقية في الثقافة الوطنية تنطلق من تقديس الفرد وضمان استقلاله أمام مختلف السلطات التابعة للدولة أو للمجتمع أو للأجهزة البيرقراطية. لكن بينت التجربة التاريخية أن فصل مسألة الحرية، التي هي مسألة جوهرية في الديمقراطية بمعنى أن الأخيرة لا تقوم من دونها، عن القيم الإنسانية الأخرى النابعة من التضامن الاجتماعي يمكن أن يقود إلى تفريغ الفلسفة الليبرالية نفسها من روحها الإنسانوية التي كانت هي الأصل في نشوئها. وفي هذه الحالة يمكن لليبرالية أن تتحول وهي تتحول بالفعل إلى عائق أمام الديمقراطية ليس بسبب ما تفترضه من تطابق تلقائي بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية فحسب وإنما أكثر من ذلك لأنها تعمل، بقدر ما تنزع إلى تجاهل قيم العدالة والمساواة التي لا يمكن أن تستقيم من دون تدخل السلطة أو الدولة الممثلة لها ولعموم الشعب وإرادته العامة، على تشجيع سيطرة أصحاب النفوذ من رجال المال والأعمال والمصالح على الحياة العمومية وتدفع إلى تهميش القسم الأكبر من المجتمع وحرمانه من وسائل التعبير والمشاركة السياسيين معا. وفي هذه الحالة يمكن لليبرالية التي تقوم باسم السعي إلى أقصى درجة من الحرية الفردية أن تؤثر سلبا على شروط انبثاق الحرية الحقيقية وتعميمها وتهدد بأن تغطي على فلسفة نخبوية لا إنسانية ولا أخلاقية .