سورية ولبنان والمصير المشترك

2005-02-23:: الوطن

 طرح اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري والجنازة الشعبية الاستثنائية التي رافقت مسيرته إلى مثواه الأخير، أكثر من القرار 1995، بصرف النظر عن المسؤول الحقيقي عن هذا الاغتيال، مسألة الانسحاب السوري من لبنان كما لم يحصل في أي وقت وكشف بالمناسبة نفسها عن الأزمة العميقة التي تضرب العلاقات السورية اللبنانية بالعمق والتي يهدد تفجرها بإعادة لبنان إلى دوامة العنف والفوضى من جديد. لا تنبع هذه الأزمة من غياب المصالح السورية اللبنانية ولا من تضاربها وإنما بالعكس تماما، أي من الوجود الموضوعي لمصالح كبرى جيوسياسية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تحتم التعاون والتواصل العميق بين الشعبين من جهة وغياب الأسس السليمة التي تساعد على تأمين هذه المصالح وتنشيطها لصالح الشعبين وعلى المستويات الفردية والجماعية من جهة ثانية. وبسبب غياب الأسس السليمة، السياسية والقانونية، صارت هذه المصالح الموضوعية الكبرى عبئا على الشعبين نفسيهما بقدر ما مكنت أصحاب المصالح الاقتصادية الخاصة والشلل السياسية المتحالفة من الاستفادة من وجودها وتجيير الشرعية المرتبطة بها في سبيل بناء شبكات منافع اقتصادية أو سياسية تخدم أهداف فئات محدودة من البلدين على حساب فئات أخرى. وهكذا أصبحت الرابطة الاستثنائية القائمة فعليا بين البلدين مصدرا للقوة والثروة عند بعض الأطراف والفئات ووسيلة للعزل والتهميش والحرمان من المشاركة في السلطة والثروة والحق في الكلام في الوقت نفسه بالنسبة لأطراف أخرى إن لم نقل لأغلبية المجتمع في البلدين. وهكذا أصبحت العلاقات السورية اللبنانية، بالشكل الذي آلت إليه، منبعا لنزاعات سياسية واقتصادية وثقافية جديدة بدل أن تكون وسيلة لتعزيز الأمن والاستقرار والازدهار والنمو المشترك الذي يشكل هدفا رئيسيا لأي تعاون إقليمي.

فليس للصراع الذي تحول اليوم إلى قطيعة بين التآلف الحاكم وأطراف المعارضة المتعددة الاتجاهات حول إعادة النظر في حجم وطبيعة النفوذ السوري في لبنان هدفا آخر سوى إعادة بناء المعادلة السياسية والاجتماعية اللبنانية على أسس جديدة تتجاوز تلك التي كرسها حتى الآن التطبيق الجزئي والانتقائي لاتفاقية الطائف. وتتهم المعارضة سورية بأنها لا تتمسك بهذه الاتفاقية لحماية لبنان وضمان استقراره وأمنه بقدر ما تستخدمها في سبيل إبقاء البلد تحت وصاية دمشق وتحولها بالتالي إلى وسيلة لمكافأة القوى التي تعتمد عليها أو الموالية لها. وهو ما عبر عنه وضمنه أيضا استبعاد الأطراف العربية الأخرى بما في ذلك الجامعة العربية كما كان منتظرا عن الإشراف على تطبيقها وربط هذا التطبيق حصرا بإرادة دمشق.
لا ينطبق هذا التحليل على لبنان فحسب ولكنه ينطبق على سورية أيضا ولو بشكل آخر. فأغلبية المجتمع السوري لا ترى لنفسها أي مصلحة حقيقية في العلاقات المختلة القائمة بين البلدين . وفي الأصل لم يكن لسياسة التدخل في لبنان أي شعبية على الإطلاق منذ بدئه عام 1975. وقد بقي الرأي العام الذي قابله بصمت ومن دون أي حماس، بما في ذلك داخل أوساط حزب البعث الحاكم نفسه، ميالا خلال العقود الطويلة السابقة إلى التشكيك في قيمته وجدواه، وهو ما حدا بأجهزة الدعاية السياسية والإعلامية السورية إلى جعل مسألة التدخل السوري في لبنان من المحرمات التي يمنع الحديث فيها لأي كان وإلى اعتبارها قرارا مباشرا صدر عن رئيس ملهم ولا يمكن أن يخضع بالتالي، لا في داخل النظام ولا خارجه، لأي نقاش أو مراجعة. وقد تنامى في ما بعد الشعور عند قطاعات واسعة من الرأي العام، وبشكل أوضح اليوم، بأن الحضور السوري المباشر والكثيف في لبنان، لا يهدف إلى شيء ولا يخدم هدفا آخر سوى تعزيز قوة السلطة الأمنية وتكريسها في سورية أساسا وفي موازاة ذلك تأمين شبكات المصالح الفئوية المشتركة التي نمت وترعرعت على هامش هذه السلطة والسيطرة الأمنية في البلدين.
ويعتقد الكثير من السوريين أن الحكم في سورية يستخدم نفوذه في لبنان وما يقدمه له هذا النفوذ من موارد مادية وغير مادية، سياسية وإعلامية، في سبيل التمكين لنفسه في سورية وتشديد قبضته على مجتمعها وضمان استبعاده من أي قرار. ولهذا فهو يرى أن انحسار النفوذ السوري في لبنان هو انحسار لنفوذ الحكم القائم في سورية وإضعاف له بالدرجة الأولى. وباستثناء أولئك الذين جعلوا من لبنان مرتعا لمصالح استثنائية اقتصادية وسياسية معا، قليل جدا هم المثقفون أو السياسيون الذين أظهروا حماسا، بما في ذلك داخل حزب البعث الحاكم، للإبقاء على هذا النفوذ أو لمعارضة الانسحاب السوري من لينان.
بالتأكيد هناك قلق عند مئات آلاف العمال السوريين الذين يعملون في لبنان، أو يحلمون بالعمل الوقتي فيه لتحسين شروط معيشتهم اليومية، من أن يؤدي هذا الانسحاب إلى خروجهم من لبنان. كما أن هناك قطاعات واسعة من الرأي العام تخشى أن يعني هذا الانسحاب تراجعا عن سياسة مقاومة إسرائيل التي يعبر عنها وجود حزب الله في الجنوب وهو الحزب الذي تحول إلى رمز للمقاومة العربية الناجحة ضد حركة التوسع والاستيطان الاسرائيليين.
لكن ليس هناك من يعتقد أن التمسك بنمط من العلاقات غير المتوازنة يمكن أن يشكل ضمانة لبقاء العمال السوريين أو لحماية حركة المقاومة ضد إسرائيل. وربما اعتقدت أغلبية السوريين، بالعكس من ذلك، أنه لا توجد أي علاقة بين تواجد مئات الألوف منهم للبحث عن لقمة عيشهم في لبنان والعلاقات المختلة وغير المتكافئة التي تثير حساسيات قوية ضدهم وتعرضهم لنقمة قطاعات واسعة من اللبنانيين. والواقع أن وجود مئات آلاف العمال السوريين لم يرتبط بالتدخل العسكري ولا الأمني السوري ولكنه شكل جزءا من العلاقات الثابتة والطبيعية بين قطرين متجاورين تربط بين مجتمعيهما وشائج قربى ثقافية واجتماعية كثيرة. فهو وجود لم ينقطع منذ عقود بسبب جاذبية الاقتصاد اللبناني وديناميته بالمقارنة مع ما اتسم به النظام الاقتصادي السوري من جمود وركود. ثم إن وجود السوريين بمئات الآلاف في لبنان بحثا عن العمل يعبر هو نفسه عن إخفاق إخفاق النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم في سورية منذ أكثر من أربعين عاما في تحقيق التنمية وتوفير فرص عمل شريف للسورييين في بلدهم. وعلى العموم ليس هناك أي شعور فعلي عند الرأي العام السوري بأن نمط العلاقات القائم اليوم بين البلدين يخدم مصالح الشعب السوري أو يساهم في الدفاع عنها بقدر ما يعكس مصالح ما يسميه البعض القاعدة الاجتماعية للنظام السوري اللبناني الموحد ويؤمن له أفضل الشروط لتجديد سيطرته وتخليدها.
بالتأكيد ليس الخلل في العلاقات السورية اللبنانية القائمة وما يشكله من إجحاف بحق أغلبية المجتمعين السوري واللبناني لصالح فئات ضيقة ومحدودة هو السبب الوحيد بل المباشر لاندلاع الصراع المتفجر اليوم في لبنان والذي كان الرئيس الحريري ضحيته المباشرة. فمن الصعب فهم هذا الصراع إذا لم نأخذ بالاعتبار الحقيقة الأكبر ألا وهي أن الأرض قد بدأت تميد فعلا تحت أقدام النظام السوري اللبناني القائم بسبب اختلال المعادلة الجيوستراتيجية وتبدل موازين القوة الإقليمية. فهو نتيجة مباشرة لحركة الانحسار المتواصل لدور سورية الإقليمي في إطار إعادة ترتيب الأوضاع الشرق أوسطية على نار الحرب والتهديدات الأمريكية الاسرائيلية. لكن ليس هناك شك في أن هذا الاختلال في الموازين الجيوستراتيجية ما كان سيقود إلى النزاع الراهن لو كانت العلاقات السورية اللبنانية قائمة على أسس متينة سياسيا وقانونيا وإنسانيا. لكن بسبب وجود قوى واسعة اجتماعية وسياسية عديدة غير راضية بالرغم من أنها خضعت أو أخضعت بالقوة، كان من الطبيعي أن يقود تغير المعادلة الدولية والإقليمية إلى تشجيع هذه القوى على الخروج عن صمتها والمطالبة بتغيير نمط العلاقات القائمة نحو صيغة تضمن لها استرجاع مواقعها أو الدفاع عن حقوقها، أي بإنهاء عصر الامتيازات والحظوات. وخطأ السلطات السورية التي تتعرض لضغوط متنامية لسحب قواتها من لبنان هو أنها لم تدرك هذا التبدل العميق في موازين القوة الإقليمية والدولية أو أنها اعتقدت أن بإمكانها الانخراط في المعادلة الجيوستراتيجية الأمريكية الجديدة مع الاحتفاظ بصيغة العمل الماضية وبالمكاسب الاستثنائية نفسها التي كانت قد حصلت عليها في الحقبة السابقة. وقد حاولت في الحقيقة أن تطبق في لبنان ما طبقته حتى الآن بنجاح في سورية نفسها، أي الانتقال من سياسة "الثورة الاشتراكية وحكم العمال والفلاحين" إلى سياسة الانفتاح والليبرالية الاقتصادية والرهان على الاستثمارات الخاصة في إطار النظام السياسي ذاته ومع الحفاظ على قاعدة المصالح الاجتماعية القديمة نفسها. ولو أنها قبلت في أن تعيد النظر في طبيعة تحالفاتها السياسية والاجتماعية القائمة في لبنان لصالح توسيع دائرتها والانفتاح بشكل أكثر على القوى المتضررة والمغبونة لما اندلع هذا الصراع ولما اضطرت إلى الدخول في المواجهة الخطيرة الراهنة، حتى مع تبدل الظروف الجيواستراتيجية الإقليمية. لكن كما أنها لا تستطيع في سورية ضمان السيطرة الشاملة التي تجعلها تتحكم بموارد البلاد بشكل كلي من دون الانغلاق على القسم الواسع من القوى الاجتماعية واستبعادها وإقصائها عن حقل السياسة بكل الوسائل، فهي لا تستطيع أيضا أن تضمن وصايتها الخارجية على لبنان من دون أن تقيم وصاية داخلية لقسم من اللبنانيين الموالين لها على بقية شعب لبنان.
بمعنى آخر، ما كان من الممكن إصلاح نظام العلاقات السورية اللبنانية من دون إصلاح النظامين السوري واللبناني كليهما من الداخل، أعني من دون توجهات ديمقراطية حقيقية تدفع إلى إقامة نظم سياسية اجتماعية جديدة تستند على الحق والقانون واحترام المصالح العامة وتمكن جميع الأفراد أيضا من المشاركة الفعالة والايجابية في الحياة العامة. أي من دون كسر نظام الاحتكار، احتكار السلطة والثروة والجاه الذي يقود حتما، في كل مكان وزمان، إلى الثورة والانفجار. ولكن للأسف ربما فات الأوان.