سورية من دولة البعث إلى وطن جميع السوريين

2005-06-24:: الجزيرة نت

 

بالرغم من أن توصيات المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الحاكم في سورية تشكل خطوة مهمة على طربق الاعتراف بالمصاعب الاستثنائية التي يواجهها احتكار الحزب الواحد للسلطة والسياسة في سورية وضرورة العمل على الخروج منها، فقد أنتجت إحباطا عميقا عند المثقفين والناشطين السياسيين ودفعت كما تدل على ذلك ردود إفعالهم إلى تفاقم التوتر في البلاد بدل أن تخلق الانفراج المنشود. وأقول خطوة هامة لأنه بصرف النظر عن طابعها الجزئي وعما يمكن أن يعترضها من عقبات عند التطبيق، تقترح توصيات الحزب الحاكم للمرة الأولى إصلاحات في الاتجاهات الصحيحة التي بقيت لعقود طويلة ترفض الحديث فيها أو تسعى إلى الهرب منها، وذلك سواء عندما تتحدث عن تضييق نطاق تطبيق قانون الطواريء أو توسيع دائرة المشاركة السياسية عن طريق التصويت على قانون التعددية السياسية المشروطة أو من خلال الحديث عن الحد من تغول الأجهزة الأمنية على الحياة اليومية للمواطنين. لكن الطابع الجزئي وغير المحدد لهذه التوصيات يصطدم يحجم التوقعات الهائلة التي تفجرت في السنوات الخمس الماضية وألصقت بعهد الرئيس بشار الأسد مهمة الاصلاح مهما كانت نوايا قادته وإمكاناتهم الفعلية. كما أن حجم التحديات الداخلية منها والخارجية التي تتعرض لها البلاد تدفع إلى الاعتقاد بأن الأوضاع لم تعد تحتمل الحلول الجزئية. هكذا يعتقد القسم الأكبر من الناشطين السوريين أن الشعب الذي عانى خلال أربعين عاما من القسوة والعنف من أجل تحويل سورية من وطن لجميع أبنائها إلى دولة البعث، أي دولة المصالح الخاصة الملتحفة بالبعث والبعثيين، لم يعد قادرا على الانتظار أربعين عاما أخرى ولا ينبغي أن ينتظر مثلها حتى يستعيد حقوقه الطبيعية ويتمكن من تحويل سورية البعث من جديد إلى وطن لجميع السوريين.
هذا يعني أن ما تعاني منه سورية وشعبها أكبر بكثير من مشاكل التنمية والموارد والكفاءات والتقنيات وتطوير الأداء وتحسين الشروط المعيشية أو حتى معالجة مسألة البطالة بل أكبر من مسألة الديمقراطية التي تتقدم مطالب النخبة الاجتماعية اليوم وبالأحرى من مواجهة الضغوط الخارجية. إنه أزمة الوطنية السورية نفسها، بما نعنيه بالوطنية من الولاء العميق للدولة الناجم عن الثقة بدورها في تلبية تطلعات الأفراد ومساعدتهم على الارتقاء بعلاقاتهم ، والانتقال بهم من مستوى الفرديات المتنازعة إلى مستوى الجماعة الوطنية، أي الجماعة الحية المتواصلة والمتضامنة التي تعيد تأسيس حياتهم الجمعية على أسس أخلاقية يقع التكافل والتعاون على تحقيق الأهداف النبيلة والايجابية الجامعة في مقدمتها. وليس لأزمة الوطنية في أي مكان وما تعنيه من ضياع الرابطة الجمعية و تحلل الأسس التي يقوم عليها الاجتماع البشري كاجتماع مدني، أي أيضا أخلاقي، سوى سبب رئيسي واحد هو زوال الرابط الحقيقي بين الدولة من حيث هي مؤسسة عمومية تعنى بمصالح الأفراد المنتمين إليها جميعا وبين المجتمع بوصفه مجموع المصالح المتباينة والمتناقضة التي تسعى الدولة إلى تحويلها بالسياسة إلى مصالح متسقة، متشابكة ومتضامنة معا في نسق واحد. وفي سورية جاءت الأزمة الوطنية من حيث العمق والشدة على قدر نجاح الطبقة الحاكمة في فك الرابطة بين الدولة والمجتمع وتحويل الأولى إلى أداة لقهر الثاني وإخضاعه لإرادة طبقة خاصة ومصالحها من دون أي توسط عقيدي أو سياسي يخفي أو يساعد على إخفاء علاقة السيادة والاستتباع الجديدة.

والرد على هذه الأزمة وايجاد المخرج السلمي والايجابي لها هو التحدي الحقيقي المطروح على البعثيين الإصلاحيين أو الذين يحلمون بأن يكونوا إصلاحيين لكن، قبل ذلك، على جميع السوريين أيضا ومن بينهم جماعات المعارضة. وأعني بالمخرج السلمي تحويل الدولة المزرعة إلى دولة السوريين جميعا، أي دولة المساواة بين السوريين. ولا أستخدم كلمة مزرعة هنا من قبيل التشهير على الإطلاق وإنما بالمعنى العلمي للكلمة. فهي تعبر بالفعل عما تمارسه الفئة المالكة انطلاقا من الحق الطبيعي الذي تخوله الملكية من التصرف الحر بموارد الأرض وسكانها من دون أن تسألهم عن رأيهم أو تستشيرهم في ما تقرره عنهم أو أن تقدم لهم حسابا عن الطريقة التي تتصرف فيها بالموارد والبشر ولا أن تشعر بأن لهم أي حق في أن يعرفوا ماذا تفعل بهم وإلى أين تذهب بموارد الأرض التي يعملون فيها. فلصاحب المزرعة سلطة مطلقة على ملكه يخوله أن يستفيد منه كما يشاء ويوزعه على من يشاء ويمنعه عمن يشاء ويقدمه لمن يشاء من دون أن يكون لأحد الحق في توجيه سؤال له عن أسباب ما يفعله بملكه، وبشكل خاص الأجراء الملتحقين أو الملحقين بمزرعته.
فلا يستطيع أحد أن ينكر أن البعثيين لم يتصرفوا خلال العقود الأربعة الماضية على أنهم أصحاب ولاية سياسية تنتهي ولايتهم بانتهاء المهام التي أوكلها الشعب لهم، سواء أكانت الوكالة شرعية أو غير شرعية، وإنما كملاك حقيقيين كما نظروا إلى بقية أبناء الشعب كأجراء ملحقين. فقد كان لهم وحدهم الحق في احتلال مناصب المسؤولية ووضع اليد على كل منصب يرتبط به أو ينبع منه قرار حتى لو كان قرارا علميا أو إداريا أو اقتصاديا أو فنيا أو أدبيا أو ثقافيا. فهم المقدمون من دون تبرير ولا منافسة لشغل مناصب الإدارة من مدير المدرسة الابتدائية حتى رئاسة الوزارة مرورا بجميع مناصب الخدمة المدنية والخدمة العسكرية. ولهم جميع مراكز السلطة السياسية من الرئاسة إلى أصغر دائرة رسمية. وهم الذين يسيطرون على جميع مواقع السلطة في جميع النقابات والهيئات المدنية العامة. لا ينافسهم في ذلك حزب ولا جماعة ولا قوة ولا يخضعون في سلوكهم لمحاسبة أو مساءلة قضائية أو اجتماعية أو سياسية. وبسبب هذه العلاقة الخاصة نجح البعثيون في تحويل سورية بالفعل، تماما كما كان يقضي شعار "سورية البعث" الذي رفعوه، إلى وطن خاص بالبعثيين من دون سواهم وحولوا جميع من ليسوا من فريقهم إلى أجراء مستضعفين لا حول لهم ولاقوة ولا موقع ولا دور في بلدهم. وما عليهم إلا الطاعة والاذعان.
أما الأساس القانوني الذي أقاموا عليه ملكيتهم هذه والذي ضمن ولا يزال يضمن لهم من دون منازع وضع اليد على جميع مراكز السلطة والمسؤولية فهو ببساطة المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع. ولذلك تبدو هذه المادة وكأنها صك تمليك حقيقي للدولة السورية ومن عليها لحزب البعث بقدر ما امتنعت عن تحديد فترة زمنية للولاية أو وضع شروط لممارستها أو مراجعتها، جاعلة من إرادة المالك المطلقة المرجع الوحيد لها، فحولت بذلك الولاية السياسية إلى ملكية عقارية تبيح لأصحاب السلطة القائمة التصرف بحرية كاملة بموارد البلاد وسكانها من دون الحاجة إلى تقديم حساب عن عملهم أو التماس أي ذريعة أو سند من الشرعية للبقاء في الموقع الذي أعطوه لأنفسهم أو تبرير استمرارهم فيه. إنها ولاية ثابتة وأبدية مكرسة بالدستور أي قائمة في جوهر العقد (هذا هو معنى الدستور) الذي يجمع بين السوريين وحكامهم أو قادتهم. فالبعثيون هم القادة ومن سواهم هم المنقادون.
أما الاستراتيجية التي ساعدت البعثيين على تحقيق هذا الهدف وحولتهم إلى سادة متميزين كما جعلت من بقية السوريين بمثابة أجراء منقادين ليس لديهم الحق لا في التعبير ولا في التنظيم ولا في التساؤل ولا من باب أولى في الاعتراض أو الاحتجاج أو المطالبة بالتغيير أو بتعديل الوضع القانوني الذي سقطوا فيه وكرسه الدستور فهي تكمن في تعميم الحالة الاستثنائية وتخليدها. فعقيدة الانقلاب على الأوضاع الطبيعية والعادية باسم الثورة ودحر الطبقات البرجوازية والإقطاعية هي المبدأ المؤسس والأم الحقيقية للحالة الاستثنائية الأعم والأشمل التي تضع الدولة والمجتمع معا تحت الوصاية الكلية وتلغي قوانين السياسة ونصابها. وفرض قوانين الطواريء والأحكام العرفية هو الأساس لبناء الحالة الاستثنائية في مجال القانون وتعليقه كليا لصالح القوانين الاستثنائية المعمول بها منذ اثنين وأربعين عاما. وإخضاع المحاكم العادية إلى سلطة المحاكم الاستثنائية كما تجسد ذلك محكمة أمن الدولة و المحاكم العسكرية والمحاكم الاقتصادية هو أساس فرض الاستثنائية على صعيد السلطة القضائية. وتقديم الولاء الحزبي على الكفاءة والأهلية في التعيين في مناصب الإدارة والمسؤولية هو تجسيد مبدأ الاستثناء في المجال الإداري أيضا حيث تحتل اللجنة الحزبية موقع السلطة الفعلية وتقصي من السلطة حتى النخبة التكنوقراطية أو الخبيرة إن لم تقض عليها انتقاما وإمعانا في تأمين الحماية المستقبلية. والسيطرة الآلية على الموارد الاقتصادية لمراكمة الريوع هو أساس بناء قاعدة الاستثنائية في الاقتصاد بما تعنيه من تكوين اقتصاد توزيع المغانم والامتيازات والمكرمات ومن ثم القضاء على القوانين الاقتصادية سواء ما تعلق منها بقوانين المنافسة الطبيعية أو بمعايير الكفاءة والعقلانية الاقتصادية. والمراهنة على الطبقة الزبائنية وتأمين وسائل إعادة إنتاجها عبر آليات الفساد هذه كبديل للمجتمع وفرضها على أي طبقة أخرى إنتاجية هو أصل الاسثتثنائية الاجتماعية. وتكليف المخابرات بالاشراف على ضبط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الأفراد بدل القانون أو ضد القانون هو أكبر تجسيد لهذه الاستثنائية في مجال السياسة وما تعنيه من إخضاع سلوك الأفراد جميعا وتصرفاتهم في حياتهم العامة والشخصية لتقديرات أجهزة الأمن اليومية كما كشفت عن ذلك الدوائر الحكومية نفسها عندما نشرت قرار القيادة القطرية بإعفاء 67 حالة من الترخيص المسبق لأجهزة المخابرات بهدف إراحة "المواطن" وتخفيف وطأة أجهزة الأمن عليه. فلا يعني هذا الإشراف المباشر من قبل أجهزة الأمن على ممارسات يومية للأفراد من زواج وطلاق وافتتاح مكاتب عمل أو مطاعم أو مشاغل بل تعليم أطفال شيئا آخر سوى أن الحياة العمومية لا تخضع لقانون وإنما هي رهينة إرادة رجل المخابرات الذي لا يحكم موقفه من معاملات الناس ومصالحهم أي قانون موضوعي أو مكتوب أو منقول ولا يتحكم به سوى هواه الشخصي ومصالحه الخاصة. وإخضاع جميع النشاطات الفكرية والابداعية من عروض ومنشورات واتصالات ومحادثات، حتى اليومية منها، وكل أشكال التعبير والتصوير والتمثيل الأخرى، للرقابة الأمنية والسياسية والايديولوجية هي التجسيد لهذا الوضع الاستثنائي في مجال الثقافة أيضا حيث يحل القمع والزجر محل المناقشة العقلية والحوار والجدال وتحكيم الضمير الأخلاقي، أي محل التربية الانسانية، في تنظيم حياة الناس والأفراد الاجتماعية.
ليس هدف الاستثناء سوى إلغاء القانون، لا بمعنى النص الرسمي ولكن بالمعنى الأعمق الذي يحيل إلى قاعدة أو منوال عام وثابت ومعلن يسترشد به جميع الأفراد في سلوكهم مهما كانوا وأينما كانوا ويصاغ عليه الحكم القضائي ويبعده عن أن يكون محض هوى ذاتي ونزوة نفسية. وإلغاء القانون يعني بالضرورة استبداله بالإرادة التعسفية والاعتباطية للأشخاص الحاكمين وأصحاب المسؤولية. وبتعميم حالة التعسف والاعتباطية، وهذا هو بالمناسبة معنى "الفوضى البناءة"، على جميع مرافق الحياة العامة والخاصة معا نجح تحالف المصالح الفئوية مع الأجهزة العسكرية والأمنية في تحويل سورية من دولة مواطنيها إلى مزرعة تحكمها وتتحكم بها، باسم البعثيين ومن وراء حجاب البعث بما يرمز إليه من انتماء لعقيدة مثالية قومية وما يشير إليه من مباديء ايجابية، أرستقراطية جديدة هي أيضا استثنائية في رثاثة المصالح التي تمثلها وفي افتقارها لأي منظومة قيم اجتماعية أو إنسانية.
من هنا تشكل العودة إلى الحالة الطبيعية والإعلان عن نهاية الحقبة الاستثنائية في نظري جوهر العملية الاصلاحية المطلوبة في سورية تماما كما تشكل العودة إلى حكم القانون جوهر الخروج من الأوضاع الاستثنائية. فحكم القانون هو الشرط الأول لبدء مسيرة استعادة الدولة وضعها السياسي والمدني الطبيعي وتحولها من أداة خدمة المصالح الخاصة إلى دولة الخدمة العامة أي إلى أداة لخدمة المصالح الجماعية والعليا لجميع مواطنيها والعمل على محاربة التمييز في ما بينهم بدل تكريسه الراهن. ويبدو لي أن تأميم الدولة أي تحويلها إلى دولة الأمة هو شرط تخصيص المجتمع أو تأكيد خصوصيته وخصوصياته معا والاعتراف بحقوق أفراده وجماعاته، تماما كما أن تطبيع الحياة الوطنية بالعودة إلى دولة القانون هو أساس رد الاعتبار للسياسة بوصفها مشاركة المواطنين جميعا في تحمل المسؤولية في ما يجري في بلدهم سواء بمعنى القيام بالواجب والالتزام بالمهام الملقاة عليهم أو بمعنى الاعتراف بحق الفرد في أن يشارك في تقرير المصير الجماعي المشترك وعدم التنازل عن هذا الحق لغيره أو التخلي عنه. هذا هو ثمن إحياء الوطنية السورية والوقوف الفعال ضد إرادة الهيمنة الأجنبية وإطلاق حركة الإصلاح والتجديد الحقيقية.