دور إسرائيل وحروبها في تفجير أزمات الشرق الأوسط

2003-08-31:: الوطن

 
ركز الباحثون الغربيون من أمثال برنارد لويس أو فؤاد عجمي أو حتى أرنست جيلنر، في كتاباتهم الأخيرة على البنيات التاريخية الثقافية والاجتماعية، لتفسير إخفاق البلاد العربية في جهودها من أجل توطين الحداثة والديمقراطية. وإذا لم يكن هناك شك في أن لهذه البنيات نصيبا من المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع العربية نتيجة مساهمتها في ترسيخ عادات وأنماط سلوك وتفكير ضعيفة وغير ناجعة، إلا أن هذا التركيز كثيرا ما يستخدم، للأسف، للتغطية على عامل آخر، ربما كان صاحب القسط الأكبر في دفع البلاد العربية إلى الإخفاق هو إقامة الدولة الإسرائيلية، مع المشاكل العديدة التي أثارها ولا يزال يثيرها تأمين استقرارها وتوطينها النهائي في المنطقة. وربما شكل ضمان هذا الاستقرار المصدر الأول لزعزعة الاستقرار الدائم والشامل لمجتمعات كاملة وتهديد أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها. فقد جاء الإعلان عن إنشاء الدولة اليهودية من جانب واحد، وعجز الأمم المتحدة والدول الكبرى التي كانت تسيطر عليها عن تنفيذ الشق الثاني من القرار الخاص بإنشاء دولة عربية فلسطينية، ليشكل صدعا عميقا في نظام الأمن والاستقرار والتوازن الإقليمي. ونجم عن هذا القرار تحويل شعب كامل إلى شعب من اللاجئين الذين انتشروا في الدول العربية المجاورة للدولة اليهودية الجديدة. وبالإضافة إلى التحدي الذي تمثله كدولة مفروضة بالقوة وقائمة على التوسع تحت حماية القوة العسكرية والتهديد المستمر بالحرب على حدود الدول العربية، ستشكل عواقب قيام إسرائيل قنبلة موقوتة داخل مجتمعات العالم العربي نفسه. فما كان من الممكن للفلسطينيين المشردين والمقيمين على حدود وطنهم أن يبقوا مكتوفي الأيدي أمام المصير الذي فرض عليهم بموافقة الدول الكبرى وتأييدها.
لقد أدخل قيام إسرائيل ديناميكيات صراع جديدة إلى المنطقة تتجاوز بكثير العنف الذي تبطنه ويمكن أن تنتجه جميع ديناميات النزاع والصراع الأخرى السابقة. وتبدو التوترات الناجمة عن النزاعات الاجتماعية السياسية داخل الدول العربية وتلك الناجمة عن الصراعات بين الأنظمة العربية الضعيفة والمتباينة في اختياراتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية بسيطة وسهلة المعالجة بالمقارنة مع المشكلة المعقدة التي طرحها قيام إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني في البلدان العربية المحيطة وما وجهه هذا الوضع من تحديات على النخب والرأي العام العربي. وبالرغم من الضحايا ومن الخسائر المادية التي كلفتها، تبدو آثار النزاعات الداخلية الأهلية والحروب العربية محدودة جدا على مصير التنمية ومستقبلها في المنطقة بالمقارنة مع التكاليف الباهظة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية التي أسفرت عنها ولا تزال الأزمة العربية الإسرائيلية المستمرة والحروب العديدة التي نجمت عنها.
فمن أجل أن تفرض وجودها ضد إرادة الشعوب العربية التي لم تقبل إعلان الدولة اليهودية من جانب واحد وعلى حساب الشعب الفلسطيني دخلت إسرائيل في منطق تحقيق التفوق العسكري والاستراتيجي الساحق والحرب الوقائية المستمرة ضد العرب. وخاضت من هذا المنظور الاستراتيجي حروبا متتالية في 48 وفي 56 وفي 67 حققت فيها مكاسب إقليمية كبرى اضطرت العرب إلى مواجهتها بحرب 73. ومنذ منتصف السبعينيات لم تتوقف حروب إسرائيل التي تركزت على جنوب لبنان ثم انكفأت على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد دفع قيام إسرائيل ثم توسعها الاستيطاني المستمر واستخدامها المتصاعد للقوة لتحقيق أهدافها خارج أي إطار للتفاهم الإقليمي، ومع استبعاد أي حل مقنع وعادل للمسألة الفلسطينية، إلى سباق إقليمي على التسلح استنزف طاقات المجتمعات العربية الرئيسية. وبلغت تكاليف الحروب الإسرائيلية العربية مئات مليارات الدولارات التي أنفقت على إعداد الجيوش وشراء الأسلحة.
لكن تكاليفها السياسية كانت أكبر أثرا. فقد عزز احتلال أراضي الدولة الفلسطينية، منذ الخمسينيات، ثم أراضي الدول العربية بعد حرب 1967، والتهديد المستمر بالحرب الوقائية، فرص النخب العسكرية للتسلط على الحكم ثم التمسك به وحرمان المجتمعات من حقها في المشاركة السياسية وفي مراقبة السياسات الحكومية ومحاسبة المسؤولين. ودعم هذا التسلط العسكري على الحكم مفاهيم سلبية لممارسة السلطة والاحتفاظ بها أدت إلى غياب الشعور بالمسؤولية العمومية عند الحاكمين والاستهتار بالحسابات الوطنية، وعمل على تعميم الفساد في الإدارات العسكرية والمدنية. كما عمل تصاعد العنف الناجم عن الاحتلال وانخراط اللاجئين الفلسطينيين فيه على زعزعة استقرار بعض الدول والمجتمعات. وكان أحد الأسباب الرئيسية لتفجر الحرب الأهلية التي استمرت سبعة عشر عاما في لبنان.
وعلى المستوى الاقتصادي دمرت الحروب المستمرة التي شنتها إسرائيل أو التي اضطرت الدول العربية إلى شنها لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، لمرات عديدة، البنيات التحتية العربية، بما في ذلك المؤسسات العلمية، ومنها مفاعل تموز العراقي للبحث الذري في الثمانينيات. كما أدى المناخ المتوتر الدائم إلى هرب الاستثمارات وتفاقم نزوح الرساميل المحلية إلى الخارج بحثا عن مواطن بعيدة وذلك نتيجة الشك بإمكانية الاستثمار الطويل المدى وعدم الثقة في مستقبل المنطقة. وشكلت الحروب المتواصلة، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية التي نجمت عنها، حافزا إضافيا لتفاقم هجرة الأطر والكوادر الفنية بالإضافة إلى حافز البحث عن تحسين مستوى الدخل أو إيجاد مناصب أكثر جاذبية ومردودا ماديا ومعنويا. وأنجب منطق الحرب الذي عاشت فيه المنطقة لأكثر من نصف قرن من دون انقطاع، مع وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون غالبا في أسوأ الشروط المادية والنفسية، توترات وتناقضات إضافية بين الحكومات والدول العربية. وأصبحت الخلافات حول الاستراتيجية التي يجدر اتباعها تجاه إسرائيل عائقا جديدا أمام تطوير أشكال التعاون الاقتصادية والعلمية والتقنية الضرورية بين الدول العربية. وعلى المستوى السياسي زادت درجة الحذر والشك وانعدام الثقة التي وسمت باستمرار العلاقات القائمة بين هذه الدول.
وعمل العجز عن مواجهة التحدي الإسرائيلي لدى الدول العربية على تطوير استعدادات قوية للفصل بين القول والعمل وللتغطية على القصور بادعاء الإنجازات الكاذبة في كل مجال، وزاد الاتجاه إلى رفض المحاسبة وإلغاء الشفافية الاقتصادية والمالية والسياسية معا والقبول بالنفاق والكذب في العلاقات العربية تحت ستار الحفاظ على المصالح الوطنية وعدم إظهار الخلافات والعيوب الداخلية. وأفسد التنافس بين النظم العربية على كسب الرأي العام العربي في مسألة فلسطين التفكير الوطني والقومي وعمم نمط المبالغة الكلامية في الوطنية على حساب التخطيط العقلاني والطويل المدى لتحقيق إنجازات فعلية. وربما كانت النزاعات والاختلافات بين الدول العربية التي نجمت عن تباين الوضع الاستراتيجي لكل دولة وحسابها للمخاطر في مواجهة إسرائيل، وما نجم عن ذلك من إلغاء فرص التعاون الإقليمي العربي هي الثمن الأكبر الذي دفعته المجتمعات العربية لقيام الدولة اليهودية ولضمان استمرارها. ولا يزال منع التفاهم والتعاون بين الدول العربية هدفا رئيسيا من أهداف استراتيجية ضمان الأمن والاستقرار في إسرائيل، في نظر تل أبيب والعواصم الدولية الرئيسية معا، بصرف النظر عن أثر هذا الخيار على حياة الشعوب وأمنها وحاجات تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية ومستقبلها في عموم المنطقة. ولا يزال الصراع العربي الإسرائيلي الذي لا يظهر في الأفق أي حل واضح أو قريب له يشكل السبب الأول في تقليص فرص التنمية والتطور العلمي والمعرفي في البلاد العربية، سواء لما يخلقه من مناخ عدم الاستقرار وبالتالي تدهور شروط الاستثمار وغياب إمكانية التقدم في عملية التعاون والاندماج الإقليمي أو لما يكلفه من رساميل وتضحيات بشرية وذيول سياسية ونفسية ترهن المجتمعات وتستنزفها ماديا ومعنويا.
ولعل ما يزيد من دوافع اليأس لدى شعوب المنطقة والمعنيين بتطورها ونموها أنه في الوقت الذي تبدو فيه الدول العربية وكأنها فقدت السيطرة على مصيرها وليس لديها أي جواب على استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية ورفض السلطات الإسرائيلية أي تسوية، مهما كانت، حول المسألة الفلسطينية، تشير السياسات الأمريكية المنحازة كليا لإسرائيل إلى أن واشنطن تراهن أكثر فأكثر على التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب لضمان سيطرتها وتفوقها في المنطقة على الدول الأخرى. وهي ميالة بالتالي أكثر من أي حقبة ماضية إلى القبول باستراتيجيات التوسع الاستيطاني والحرب الإسرائيلية المستمرة باعتبارها جزءا من استراتيجيتها العالمية لاحتواء المنطقة العربية وإخضاعها لمصالحها القومية.