حروب الشرق الأوسط اليائسة

2007-01-18:: الوطن

 ليس هناك شك في أن انحياز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في السنوات القليلة الماضية، أو ما بدا انحيازا لفكرة الاصلاح والديمقراطية، بعد عقود طويلة من الرهان على التعاون مع النظم الاستبدادية لنشر الأمن والاستقرار، قد أطلق آمالا كبيرة لدى الرأي العام العربي. ولا شك أيضا أن هناك من اعتقد بالغعل في الدول الصناعية الغربية أن دعم جهود الاصلاح والتغيير في الشرق الاوسط يصب في صالح الدول الصناعية ، بقدر ما يساعد على تحسين شروط حياة الناس ومشاركتهم السياسية ويقضي بالتالي على منابع السخط والتمرد والعدمية التي تدفع إلى انتشار الحركات الإرهابية وتوسع دائرة عملياتها ضد الدول الغربية، في أكثر مناطق العالم حساسية من الناحية الاستراتيجية.

بيد أن الوضع قد اختلف كثيرا اليوم. بعد أن تبين للرأي العام العربي أن الانحياز الغربي لمشروع التغيير والديمقراطية كان جزءا من استراتيجية أعم تهدف إلى الحفاظ على السيطرة الغربية في المنطقة، بل ربما إلى توسيع دائرتها وتعزيز قبضتها، وأن الإخفاق الذي منيت به المخططات الغربية في السنتين الماضيتين، في العراق وغيره من المناطق، قد دفعها ولا يزال إلى التخلي عن هذا الجزء التعويضي والدعائي معا، لصالح تعزيز القبضة الحديدية، وربما العودة إلى سياسة المراهنة على النظم الاستبدادية من جديد لمنع المنطقة من السقوط في دائرة العنف والفوضى المعممة نتيجة الفشل الذريع الذي منيت به سياستها الشرق أوسطية، بعد أن دمرت أسس التوازن الإقليمية. وهو ما تحاول أن تستدركه الدعوات الدولية المتزايدة إلى التفاهم مع النظم "المارقة" والحوار معها للوصول إلى اتفاقات تضمن مصالح "الجميع".
وهكذا بدأ شعور قوي بالاحباط وانسداد الآفاق يحتل مكان انتعاش الآمال عند الرأي العام العربي، يزيده انقلاب موازين القوى الظاهر، وعودة العديد من النظم إلى ما يشبه الهجوم المعاكس على قوى الاصلاح والتغيير من أجل اجتثاثها من الجذور، بعد أن كانت تظهر بعض التساهل معها لكسب الرأي العام الغربي.
وكما تسيء بعض النظم العربية تحليل الوضع الراهن عندما تعتقد أنها ربحت المعركة، وتحررت من ضغوط النظام الغربي، وأصبحت طليقة اليد في كل ما يتعلق باحترام القانون والواجهة التعددية وحقوق الانسان، تسيء المعارضات العربية أيضا وقوى التغيير المختلفة تقدير الموقف عندما تستسلم لمشاعر الاحباط واليأس وتتخلى عن روحها الكفاحية القوية التي عرفت بها في السنوات الماضية. فالواقع أن شيئا لم يحسم بعد في المواجهة المتعددة الأوجه التي بدأت في الشرق الأوسط منذ عقدين ولم تكن حرب العراق إلا فصلا من فصولها المتعددة والمتداخلة. ومحور هذه المواجهة كان ولا يزال تغيير الأوضاع القائمة وغير المحتملة، سواء ما تعلق منها بواقع الاحتلال والاستعمار والسيطرة الخارجية التي جردت الشعوب من سيادتها، أو ما ارتبط بذلك من تكريس أنماط من الحكم المطلق التي عممت الفساد والعسف والخراب. ولم يكن للنزاع الذي نشب بين حلفاء الأمس من النخب المحلية والحكومات الغربية مصدر آخر سوى الخلاف على طريقة إنقاذ الوضع القائم، والطرف الذي سيدفع الثمن الأعلى في هذا الإنقاذ. وقد خسرت الولايات المتحدة الجولة الاولى من هذه المواجهة لأنها استخفت بحلفائها السابقين التي كانت تعاملهم دائما كأتباع صغار، واعتقدت أن بإمكانها أن تجعل من رأسهم ثمنا رخيصا لمشروع استعادة نفوذها وهيبتها وأسبقية مصالحها في المنطقة. لكن الأطراف الأخرى، حتى لو أنها نجحت في حماية رأسها حتى الآن، لم تحقق أي تقدم بالمقارنة مع مواقعها السابقة. والنتيجة الوحيدة الواضحة اليوم، هي تساوي جميع الأطراف في الخسارة، بالرغم من المظاهر الخادعة. فكلها تعيش، من دون استثناء، بما فيها تلك التي تظهر وكانها تقف في موقف الهجوم، في مأزق عميق، وتدرك أن حسم الوضع يحتاج إلى قبول المزيد من المخاطر والقيام بالمزيد من التضحيات، من دون وجود أي ضمانة في تحقيق أي هدف من الأهداف التي تسعى إليها. ينطبق هذا على الولايات المتحدة وحلفائها كما ينطبق على طهران ودمشق وحزب الله.
يرد هذا التحليل على فرضيتين. تلك التي تعتقد أن التفاهم بين النظم الاستبدادية والدول الاستعمارية، أي ما تعبر عنه صحافتنا بمفهوم الصفقة، قد حصل أو في طريقه للحصول، وليس هناك شك في حصوله في المستقبل القريب. والفرضية الثانية التي تعتقد أن تحقيق مثل هذا التفاهم سوف يمد في عمر الأنظمة أو يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، قبل انفجار أزمة الشرق الأوسط الكبير بسبب إخفاق الولايات المتحدة في العراق. والحال، لم يغير هذا الإخفاق في حقيقة المواقف العميقة للطرف الامريكي، وهو ما عبر عنه قرار الرئيس بوش بإرسال المزيد من القوات للعراق، كما لم تدفع التهديدات الأمريكية القوية النظم الممانعة إلى أي إصلاح داخلي، أو تعديل في سياساتها الوطنية، يحد من نمو عوامل التفسخ فيها، ويحول دون تنامي مشاعر النقمة والمعارضة والاحتجاج. وكان ردها الوحيد على الضغوط الخارجية تشددا أكثر في سياسات الحجر والقمع والانغلاق.
ومن الواضح الآن أن المطالبين بفتح الحوار مع طهران ودمشق لا يفعلون ذلك اقتناعا بصلاح سياستهما ولا ايمانا بعدم مشروعية الأهداف التي كانت وراء إرسال القوات الامريكية، ومن قبل قوات التآلف الدولي للعراق، وإنما بالعكس، من الاعتقاد بأن مقاربة هذه الأهداف بالوسائل العسكرية وحدها لم تكن ناجعة، وأن الدبلوماسية قد تعطي نتائج أفضل مع النظامين "الشريرين" من المواجهة المباشرة، عسكرية كانت أم سياسية. فهم يبحثون بوسائل الحوار عن تحقيق الأهداف نفسها التي أخفقوا في تحقيقها عن طريق الحرب. ومن هذه الأهداف كما هو معلوم وقف المشروع النووي الايراني وفك التحالف بين طهران ودمشق وإقناع دمشق وطهران باحترام استقلال العراق ولبنان والكف عن التدخل فيهما. وهم يفترضون أن من الممكن تحقيق هذه الاهداف من خلال تقديم حوافز معينة للأطراف الأخرى، تتركز أساسا على ميزات تجارية ومالية وسياسية (وقف الضغوط)، وتعاون في ميدان التخصيب النووي ضمن حدود الحد من انتشار التقنية النووية العسكرية، ومن الممكن أن يكون ضمن هذه الصفقة أيضا فتح مفاوضات حول الجولان السوري المحتل من دون أي ضمانة في عدم انهيار هذه المفاوضات في مرحلة تالية لسبب أو آخر. والواقع أن ما يطلبه الأمريكيون والأوروبيون المعتدلون هو تنازلات وجودية في مقابل محفزات تبدو في نظر الحكومات السورية والايرانية "كمالية". فتخلي طهران عن مشروعها يعني، تماما مثل تخلي دمشق عن تحالفها مع طهران، وهنا جوهر الخلاف، تعرية النظامين السياسيين معا، وتعريضهما لتهديدات داخلية قاتلة، أي مؤكدة وحتمية. وليس لأي منهما مصلحة في صفقة تكلفهم تنازلات جوهرية تتعلق بأمنهم ووجودهم مقابل محفزات لا تستفيد منها سوى بعض الفئات الاقتصادية.
لكن حتى لو أمكن التوصل إلى ما يشبه الصفقة، بسبب احتمال انهيار مواقع أحد الأطراف في المواجهة، فلن يكون لها في نظري اليوم أي أثر يذكر على المصير المحتوم لأنظمة القمع االعربية. فلن يساعد تخفيف الضغوط على دمشق مثلا، والاعتراف لها ببعض الحقوق في لبنان والعراق، من حالة الانحلال التي يعيشها النظام، بسبب افتقاره لأي نوع من آليات الإصلاح الذاتي، ومبالغته في حرمان نفسه من أي منها بعد استئصاله كل أشكال التفكير والنقد والمعارضة والاحتجاج الداخلية، واستسهاله الحكم عن طريق البطش وشراء الضمائر والرشوة والفساد. بل إن وقف الضغوط الخارجية سوف يزيد من ترهله، ويسرع عملية التحلل والتفسخ التي يتعرض لها، بقدر ما سيعزز تمحوره على ذاته واعتتاده بنفسه وتطرفه في فرض سيطرته الأحادية والشاملة.
باختصار، لن تنجح الولايات المتحدة في وقف نزيف الدم الذي يتعرض له الوجود الأمريكي الشرق أوسطي برمته وليس فقط في العراق. لكن النظم التي واجهت الولايات المتحدة لن تستفيد من الإخفاق الأمريكي، لأنها وقد دخلت المواجهة لقطع الطريق على أي إصلاح، ستجد نفسها مباشرة في مواجهة المأزق الحقيقي والصعب الذي سعت إلى الهرب منه عن طريق المناورات الخارجية، أعني مأزق الفساد الداخلي وتحدي الاصلاح والتغيير، وهي في حالة يرثى لها من الترهل والتفكك والفساد. ومن هنا لن يخرج من المواجهة الراهنة أي رابح فعلي، فالولايات المتحدة مثلها مثل النظم التي تواجهها، كلاهما يحاربان من أجل الحفاظ على نظم رجعية ومنحطة تجاوزها الزمن، نظم السيطرة الاستعمارية بالنسبة للبعض ونظم السيطرة الاستبدادية الفاسدة بالنسبة للبعض الآخر، ويسعيان، كل حسب مصالحه، إلى قطع الطريق على التغيير، إقليميا كان أم داخليا. لكن هذا لا يعني أن الشعوب لا تدفع الثمن. وأنها ستظل تدفعه ما لم تنجح في أخذ زمام أمورها بيدها لشق طريق التغيير الذي يتنازع في منعه أمراء الحرب الخارجيين والداخليين، وكذلك لنقل المعركة والجهد إلى ساحتهما الرئيسية: ساحة البناء الوطني، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والإنساني معا، ساحة السيادة والحرية والعدالة والمساواة والاستقلال.