حتى لا نلدغ من الجحر ذاته عشرات المرات

2002-05:: الجزيرة نت

المطلوب بلورة اوراق ضغط عربية حقيقية لتغيير الموقف في واشنطن وتل ابيب

عادت الدبلوماسية العالمية من جديد مع انتهاء القسم الاكبر من العمليات العسكرية للجيش الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية الى الحديث عن مبادرة الامير عبدالله ولي العهد السعودي. وتصاعدت الامال بعد فك الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني في رام الله وتوقع تحقيق تقدم مماثل في موضوع حصار كنيسة المهد في امكانية الخروج من مرحلة المواجهة العنيفة نحو تجديد مفاوضات التسوية السياسية انطلاقا من المشاريع التي كانت قد توصلت اليها لجان المفاوضات السابقة وتأسيسا على مقررات الامم المتحدة. ويبدو ان العرب يشعرون بثقة اكبر اليوم في ان تقود المفاوضات الجديدة الى نتائج اكثر ايجابية مما قادت اليه مفاوضات التسوية السابقة التي أعاد انهيارها الاوضاع الى سابق عهدها وكشف عن حالة الاحتلال وتوسيع الاستيطان والاستعمار السافر وادى الى اشعال الانتفاضة الفلسطينية وفيما بعد الى تسيير الحملة العسكرية الاسرائيلية التدميرية والانتقامية التي انتهت بمجزرة وحشية وجرائم ضد الانسانية تسعى اسرائيل الى التغطية عليها والهرب من استحقاقاتها بكل الوسائل,
وتذكرنا هذه العودة الى مفاوضات السلام المفاوضات السابقة التي بدأت هي ايضا مع الكثير من التفاؤل وقامت على اسس بدت مقبولة من الجميع وهي الارض مقابل السلام وتطبيق قرارات الامم المتحدة المتعلقة بالانسحاب من الاراضي العربية المحتلة بعد السابع من حزيران 1967 ولكنها انتهت باجهاض اتفاقات اوسلو التي وقعت على هامشها وكانت ادنى كثيرا منها وتحولت فيما بعد الى غطاء لاستمرار الاستيطان والمساومات الرخيصة على كل شبر من الارض يقدم للفلسطينيين كما لو كان منة او هبة اسرائيلية استثنائية.
وبالعودة الى طاولة المفاوضات يطرح على العالم العربي التحدي ذاته الذي طرح من قبل وهو ماهي الوسائل الفعالة التي سيستخدمها العرب او يمكن ان يستخدمونها لتعزيز موقفهم في هذه المفاوضات امام المفاوض الاسرائيلي لاجباره على الاستمرار في هذه المفاوضات بروح جدية من جهة ولفرض الموقف العربي وضمان تحقيق المصالح العربية فيها من جهة ثانية؟
فكما قيل عن حق حين نشرها وتصويت القمة العربية عليها, تعاني المبادرة العربية الجديدة للسلام كسابقاتها جميعا من عطب جوهري هو انها لا تملك وسائل دعمها وأليات تحقيقها. ومن الواضح لكل من تتبع المفاوضات السياسية السابقة العربية الاسرائيلية ان العامل الوحيد الذي كان المفاوض العربي يعتمد عليه في مواجهة التعنت الاسرائيلي هو التدخل الامريكي. وقد لعب الضغط الامريكي دورا مهما ولاشك في دفع الاسرائيليين الى القبول بالمفاوضات ومباديء التسوية السياسية لكن هذا الضغط عانى من علتين: الاولى انه كان ضغطا متقلبا ومترددا بسبب الصداقة الكبيرة الامريكية الاسرائيلية والثانية انه ارتبط برغبة كل رئيس امريكي وقبوله الانخراط في العملية بجد لتحقيق مصالح خاصة شخصية الى حد كبير. فقد كانت تحرك كلينتون الرغبة في ان يخلد اسمه كصانع للسلام في الشرق الاوسط ليكسب تأييد اوسع لدى الرأي العام الامريكي والدولي.
ويبدو الامر مختلفا عن ذلك تماما اليوم. فالادارة الامريكية اليمينية المسيطرة الان على مقاليد الامور في واشنطن ليست مهتمة كثيرا بايجاد تسوية سريعة في الشرق الاوسط ولا في أي منطقة اخرى في العالم بقدر ما هي مصممة على خوض حرب دائمة وشاملة ضد العالم كله لفرض قيادة امريكا ومصالحها واملاء ارادتها. ولا يبدو الرئيس الامريكي الحالي مهتما كثيرا بالحصول على نياشين المجد كرجل سلام أو صانع سلام بقدر ما هو مهتم بأن يتماهى مع الرأي العام الامريكي اليميني في غطرسته الفارغة.
وبالرغم من أن واشنطن ستجد نفسها مضطرة لا محالة لدفع الاطراف نحو الدخول في مفاوضات سياسية جديدة الا انها لن تكون والحالة على ماهي عليه قادرة ولا راغبة في لعب دور نشيط فيها. ومعرفتها بالعجرفة الاسرائيلية وصلافة رجال الحكم اليمني القائم سوف تردعها عن محاولة التدخل القوي للضغط على اسرائيل مما يجعل من السهل على تل ابيب جر العرب الى مفاوضات اكثر سخرية من تلك التي خاضوها في الحقبة السابقة.
لاشك ان من الممكن المراهنة على الرأي العام العالمي الذي اصبح اكثر وعيا بمأساة الشعب الفلسطيني بعد مجزرة جنين وربما بشكل اكبر على الضغوط الاوروبية. كما ان من الممكن المراهنة على الامم المتحدة التي تدفعها ظروف الحياة الماٍساوية للشعب الفلسطيني الى الانخراط بشكل اقوى في ملف الشرق الاوسط. بيد ان كليهما, اوربا والامم المتحدة, ستجدان انفسهما رهينتين للارادة الامريكية ولن يكون لضغوطهما الصادقة من اجل تدعيم جهود التسوية السياسية الاثر الكبير الذي ينتظره العرب منهما.
ما ينقص الجهود الدولية الراهنة من أجل الخروج من ازمة المواجهة العربية الفلسطينية الاسرائيلية هو محرك اقليمي عربي يضغط أو يستطيع ان يضغط في اتجاه التوصل الى تسوية تضمن تحقيق الحد الادنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فمن دون هذا المحرك او العامل العربي لن يكون هناك امل بتراجع اسرائيل عن مكتسباتها او ما تعتبره الان ممتلكاتها وبالتالي أي فرصة لتحقيق تسوية حتى نصف عادلة. وللأسف بالرغم من مرور ما يقارب السنتين على المواجهة الفلسطينية الاسرائيلية لم تنجح المجموعة العربية في الاعداد لأي وضع يسمح لها بالتأثير بشكل اكبر على مجرى الامور في المنطقة كما لو كانت المسألة لا تعنيها كثيرا بل لا تعنيها ابدا, ولا يزال اعتمادنا مطلق على عوامل الضغط الخارجية الامريكية او الاوروبية او الدولية.
ومع ذلك كان من الممكن بسهولة لو توفر الوعي وتوفرت الارادة عند المسؤولين والاهلين العرب خلق ظروف تعزز بقوة الموقف العربي وتشعر الادارة الامريكية بأن عدم التقدم الى الامام يمكن ان يترتب عليه خسائر كبيرة مادية وسياسية ومعنوية للمصالح الامريكية. على المستوى العسكري كان ولا يزال بإمكان وزراء الدفاع او رؤساء الاركان العرب الحديث عن تعبئة جزئية ومناورات عربية مشتركة وتفعيل لاتفاقات الدفاع المشترك من دون المخاطرة بخوض أي حرب, وكان هذا الموقف سيفهم على انه تهديد بتغيير الاستراتيجية العربية واتخاذ خيارات اكثر حزما في المستقبل. وعلى المستوى الدبلوماسي كان من الممكن الاعلان الجماعي العربي عن تخفيض مستوى العلاقات مع الحكومة الامريكية لاشعارها بأن الاستمرار في التنكر للحقوق العربية يمكن ان يدفع الانظمة بالرغم منها الى اتخاذ اجراءات مضطره اليها للتخفيف من ضغط الرأي العام ولا تريدها. وعلى المستوى الاقتصادي كان بآمكانها البدء بالفعل بسحب جزء من الودائع وتقليص الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة والغاء عدد كبير من الصفقات واظهار التوجه نحو مصادر اخرى للتموين والتسليح. كما كان من الممكن كذلك التفاهم على تخفيض جزئي وتدريجي لصادرات النفط. وعلى المستوى السياسي كان من الممكن ولا يزال تعزيز الحشد الوطني الداخلي بتضييق الهوة القائمة بين الحكومات والشعب وتعميق التعبئة القومية والوطنية وذلك بتحرير معتقلي الرأي والانفتاح على المجتمعات وفتح الحقل السياسي والبدء باصلاحات ديمقراطية تربط مصير الانظمة بشكل اكبر بقبول رأيها العام وبالتالي تضعف من امكانية تأثير الضغوط الخارجية وهنا الامريكية عليها. لكن ما كان من الممكن لأي من هذه المبادرات والاجراءات الجريئة ان تمر من دون ان تكون جماعية تشارك فيها وتتفاهم حولها مجموعة من الدول العربية. وكان هذا التفاهم والتضامن العربي نفسه سيشكل لوحده ورقة ضغط لا مثيل لها ليس على الادارة الامريكية المؤيدة لاسرائيل فحسب ولكن على اسرائيل ذاتها وعلى الدول الاوربية وجميع الدول الصناعية. وكان من الممكن ان ينشأ في موازاة المعركة البطولية التي خاضها ويخوضها المقاومون الفلسطينيون مناخا شبيها بالمناخ الذي عرفه العالم بعد حرب عام 1973 والذي رفع من قيمة العرب ووزنهم وجعل الدول الصناعية جميعا تتقرب منهم وتخطب ودهم.
ومثل هذه الاجراءات كانت ولا تزال ممكنة باسلوب اخر على مستوى الممارسة الاهلية. فقد كان من المطلوب والمتوقع ان تقوم النقابات والمنظمات الاهلية باعلان الاضراب الشامل في العالم العربي تأييدا للفلطينيين واحتجاجا على العدوان الاسرائيلي والدعم الامريكي له. وكان من المطلوب والمتوقع لنقابات العمال اعلان الاضراب عن شحن او تفريغ البواخر والطائرات المحملة بالبضائع الامريكية في المرافيء والمطارات. ففي عام 1956 لعب قطع انابيب التابلين من قبل الحركات الوطنية دورا كبيرا في الضغط على دول التحالف الثلاثي الذي استهدف قناة السويس وفي تعبئة الرأي العام العربي وحشده وراء الشعب المصري الذي تعرض لعدوان اسرائيلي بريطاني فرنسي سافر. وكان من المطلوب والمتوقع ان تقوم المنظمات الاهلية بجهود اكبر في الاتصال والتواصل مع المنظمات الاهلية الدولية لتعبئة الرأي العام العالمي وحشده خلف قضية الكفاح الفلسطيني العادل. وكان من الممكن والمتوقع ان تجتمع الاحزاب العربية على مختلف اتجاهاتها ليس للتعبير عن تضامنها الجماعي مع الشعب الفلسطيني فحسب ولكن للتأكيد على ان معركة الفلسطينيين اليوم هي معركة العالم العربي برمته وعلى استعداد هذا العالم عبر ممثليه للمشاركة السياسية على الاقل ان لم تكن المادية في الجهد اللازم لردع العدوان ووقف المشروع الاسرائيلي التوسعي والعنصري الاستيطاني.
هناك بالتأكيد اموال كثيرة جمعت وتظاهرات كثيرة خرجت في شوارع العواصم العربية وعرائض عديدة وقعت من قبل مثقفين ومواطنين من مختلف الاتجاهات ومسيرات واعتصامات حصلت ولا تزال في المدن والقرى العربية الكثيرة لكنها كانت ولا تزال تحصل من دون تنسيق منفردة ومنفصلة واحدتها عن الاخرى أي من دون ان تكون تعبيرا عن تكون قوى عربية جديدة مستمرة ومنظمة عابرة للحدود وقادرة على فتح الافاق الضرورية لبلورة رد ناجع على المشروع الاسرائيلي والتي لم تستطع الحكومات او ليس من مصلحتها ان تفتحها.
والقصد ان نقول ان النتائج السياسية التي يمكن لطرف ما ان يحصل عليها مرتبطة بشكل اساسي بتغيير التوازنات وموازين القوى. واذا كان من الممكن تماما بسبب التقصير عن الواجب ان لا تكون الحرب ولا التهديد بالحرب هو الوسيلة المثلى او المتوفرة لتغيير توازنات القوى وفرض التغيير في الموقف, فهناك وسائل كثيرة آخرى للضغط على الخصم غير الحرب. ووسائل الضغط هذه على اسرائيل ليست بالضرورة ولا ينبغي أن تكون امريكية تعتمد على حسن النوايا الامريكية وتراهن على اقتناع واشنطن او ايمانها بعدالة القضية العربية ولكنها ينبغي ان تكون ومن الممكن ان تكون عربية. فنادرا ما تتقاطع السياسة مع الاخلاق وهي تتقاطع اقل في الولايات المتحدة منه في أي بلد صناعي اخر وتتقاطع اقل من ذلك بكثير في عهد اليمين الامريكي القومي المتطرف الحاكم اليوم منه في أي عهد اخر.
فما لم تستند التغيرات في المواقف على ضغوطات عربية مستمرة واحتمالات ضغوطات عربية مستمرة وبالتالي على تغير فعلي في موازين القوة فليس هناك ما يضمن تنفيذ أي وعد سياسي تقطعه او يمكن ان تقطعه دولة او فئة سياسية على نفسها تجاه دولة او فئة اخرى.