تحولات السياسة الدولية.. من مفهوم السيادة إلى مفهوم الشراكة

2004-12-30:: الجزيرة نت


لم يعد هناك أمل -في عصر التفاعلات الدولية القوية الذي نعيشه- لأي شعب صغير في الاحتفاظ باستقلال قراره الوطني من خلال الدفاع الجامد عن المفاهيم القديمة في السيادة الوطنية وما تتطلبه من رفع جدران العزلة أو الاستعداد للانخراط في الحروب الدفاعية. إن الاحتفاظ بالحد الأدنى من الإرادة الحرة والاستقلال يستدعي اليوم -بالعكس أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي- الانتقال. فبقدر ما ينجح شعب من الشعوب في التحول إلى شريك في تقرير المصير العالمي يحظى بهامش من المبادرة والحرية يتيح له تكوين قرار وطني بل رأي عام داخلي ولحمة وطنية جامعة.

في قلب هذه السياسة التي تؤسس لمفهوم الشراكة العالمية يوجد مفهوم المسؤولية، وعلى درجة المسؤولية التي تظهرها النخب الحاكمة وعلى القدرة التي تبديها في جعل مصالح شعوبها في اتساق وتطابق مع مصالح المجموعة الدولية عموما والشعوب المحيطة بها بشكل خاص، يتوقف حظها في الحصول على موقع مرموق في هذه الشراكة. ومن الواضح أن هذا الشعور بالمسؤولية يقف على طرفي نقيض مع روح الأنانية والانفرادية السائدة لدى الدول الكبرى، كما أنها على طرفي نقيض مع روح التهرب من مواجهة المسؤولية ورميها على الآخرين أو في الاحتماء وراء مفهوم الضحية الذي عبر عنه سلوك النخب في العالم الثالث بمناسبة الأزمات الوطنية والإقليمية والدولية العديدة. وللمسؤولية السياسية في هذا السياق الذي نتحدث عنه ثلاثة أبعاد أو وجوه لم يعد من الممكن فصل واحد منها عن الآخر. الوجه الأول هو مسؤولية النخب أو الطبقات السياسية تجاه المسائل التي تتعلق بتسيير البلاد التي تحكمها وحسن إدارتها لمواردها وتثميرها لها. فلم يعد الحكم داخل أي بلد مسألة خاصة بالنخب الحاكمة، ولكنه أصبح هو نفسه مسألة من مسائل الإدارة الدولية بقدر ما أصبح للسياسات الفاسدة في أي بلد نتائج أو عواقب مباشرة على سياسات ومصير المجتمعات والبلدان الأخرى القريبة والبعيدة معا.
ومن هنا فإن النخب التي تظهر مقدرة ضعيفة على إدارة موارد البلاد التي تحكمها وتتعرض باستمرار لتحديات داخلية لا تنجح في معالجتها بغير العنف وإسالة الدماء وتبقي الباب مفتوحا بشكل دائم أمام اضطرابات وقلاقل حاملة لمخاطر كبيرة لها ولجيرانها وللمجتمعات الأخرى، تفقد الصدقية العالمية وتصبح هي نفسها هدفا لضغوطات وإستراتيجيات إقصاء خارجية تقودها تلك الدول التي تعتقد أنها الأكثر تعرضا للإساءة أو لمخاطر سياساتها اللاعقلانية والضيقة الأفق. وهذا ما سوف يجعل من التدخل في شؤون الدول أمرا طبيعيا وواردا أكثر من أي فترة سابقة في نظري وبصورة متزايدة باستمرار، وهو ما سوف يدفع الرأي العام الدولي أيضا إلى القبول بشكل أكبر بمثل هذه التدخلات، وربما إلى تقنينها بصورة أدق في مرحلة قادمة في دائرة الأمم المتحدة لإضفاء شرعية دولية مباشرة وواضحة عليها. هذا ما بينه التأييد الواسع الذي حظي به مشروع تغيير النظام البعثي في العراق عن طريق التدخل العسكري المباشر للدول الكبرى، وما برهنت عليه بشكل أكبر مبادرة الشرق الأوسط الأميركية التي وافق عليها بعد تعديلها بما يضمن مصالحه الاتحاد الأوروبي كما دعمتها جميع الدول الصناعية في مجموعة الثمانية الكبار، وهو ما أكد عليه كذلك القرار 1559 الذي اعترض على تمديد ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية لحود رغم حرص أصحاب التمديد على احترام القواعد الدستورية واحتجاجهم بتمسكهم بالوصاية السورية.
كل ذلك يجعل من المؤكد أن عمليات التدخل من قبل الدول الكبرى، سواء جاءت تحت غطاء قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة أو من دونهما، تسير في اتجاه التنامي السريع والثابت في المستقبل وتجد أكثر فأكثر ما يسمح بتبريرها بل ربما بالمطالبة بها في منطقة العالم الفقير الذي لا تبدي فيه النخب الحاكمة قدرة كبيرة على معالجة التوترات ومواجهة التحديات الحقيقية، سواء ما تعلق منها بتحديات التنمية الإنسانية أو بإيجاد الحلول السياسية والتوافقية للصراعات والنزاعات الاجتماعية والدينية والإثنية قبل السقوط الأليم نحو مزيد من الاضطرابات والحروب والمجاعات وجميع أشكال التقهقر والانحطاط المأساوية التي تقود إليها سياسات النخب الرديئة والمفتقرة إلى الكفاءة والشعور بالمسؤولية.

ولا شك عندي أن الزيادة المستمرة في طلبات التدخل الخارجي وممارسته من قبل الدول الكبرى أو مجلس الأمن أو حتى قوى دولية متوسطة، سيشكل بؤرة نزاع دولي متصاعد. ولابد أن يشكل منذ الآن في نظري نافذة للتفكير الجدي بقضايا جديدة ومتجددة بالنسبة للمجموعة الدولية وفي مقدمها مسألة بناء إدارة سياسية عالمية بالمعنى الحقيقي للكلمة تشارك فيها الشعوب جميعا وتتفاوض فيما بينها، في ما وراء حدود الدول التي تنزع إلى أن تخضع أكثر فأكثر في أجندتها الداخلية إلى النخب الحاكمة التي تتحكم بها وتستخدمها لخدمة مصالحها الفئوية وحدها. والوجه الثاني للمسؤولية السياسية المنتظرة من الحكومات اليوم كي تحظى بالصدقية العالمية، يتعلق بطبيعة السياسات والممارسات الإقليمية التي تظهرها النخب الحاكمة.
وتنبع أهمية هذا الوجه من حقيقة أنه لم يعد هناك أمل لدولة بتحقيق أهدافها الإنسانية داخل أراضيها، أي من تنمية الموارد المادية والمعنوية وتحسين شروط حياة الأفراد والجماعات، من خلال الاعتماد على مواردها الخاصة وحدها وتثميرها حتى لو حصل ذلك بأفضل السبل والوسائل. كما أنه لم يعد يكفي لبلد أن يراهن على امتلاك موارد كبيرة -مادية وبشرية- حتى يضمن تقدمه ونموه، بل ربما أصبحت هذه الموارد في بيئة مضطربة وغير مستقرة سببا في احتلاله أو خرابه وتفككه، كما برهن على ذلك بأقوى وجه مثال العراق الحديث والمعاصر.
إن الإدارة الوطنية السليمة لأي بلد لم تعد تنفصل أو لم يعد من الممكن فصلها في السياق المعولم الذي نعيش فيه عن الإدارة الإقليمية السليمة، وبقدر ما يكون للدولة من مشاركة إيجابية في بناء إطار فعال وناجع للتعاون الإقليمي وبالتالي بقدر ما تساهم -من خلال سياساتها الإقليمية البناءة- في تحسين فرص التنمية عند المجتمعات المحيطة بها وليس فقط داخل حدودها، تحظى بقدر أكبر من الصدقية وتزداد فرص حصولها على الشرعية العالمية. أما الوجه الثالث للمسؤولية السياسية الذي نتحدث عنها في السياق الذي ذكرت فهو يشير إلى المقدرة التي تملكها قيادة سياسية أو نخبة حاكمة على الارتفاع فوق المصالح القومية الضيقة من أجل ضمان الاتساق والانسجام العالميين وتعزيز فرص وشروط الأمن والسلام الدوليين. وتفترض هذه المساهمة نشاطا دبلوماسيا فعالا وحضورا دوليا مستمرا كما تفترض مشاركة جدية وبذل جهد وتضحيات فعلية من أجل تحقيق القيم والأهداف العالمية المشتركة، وقبل ذلك المساهمة في بلورة هذه القيم والمبادئ التي لا يقوم من دونها مجتمع دولي موحد ومتفاعل ولا متّحَد إنساني سياسي متعاون ومتواصل.

فليس لمجتمع اليوم داخل المنظومة الدولية وزن سياسي ولا معنوي إلا بقدر الجهود التي يبذلها للمساهمة في حل المشاكل الدولية، وهذا يتناقض بشكل قاطع مع سياسات الهيمنة الدولية والانفراد بالقرار العالمي كما يتناقض مع عقلية الاتكال والتبعية التي تميل إليها بعض الدول وما يرافقها من اعتماد منطق التسول على الولايات المتحدة وأوروبا للحصول على الدعم اللازم أو للحفاظ على الأمن والاستقرار أو للدفاع عن المصالح القومية والوطنية.
وإذا كان حمل المسؤولية القطرية يعني اليوم في العالم العربي السعي الجدي إلى تغيير جذري في أساليب الحكم والإدارة وفي نوعية السياسات التي قادت إلى الأزمة الداخلية المتفجرة والعودة إلى طريق الإدارة السليمة القائمة على احترام معايير الكفاءة والنزاهة والقانون، بدل معايير الزبونية والمحسوبية وتبادل المصالح السائدة، وكان حمل المسؤولية الإقليمية يعني مساهمة كل دولة في خلق الشروط التي تسمح بضمان استقلال الإقليم وتطوير سبل التعاون والتبادل المثري بين شعوبه، فإن حمل المسؤولية الدولية يعني قبل أي شيء آخر الاهتمام الجدي -بما وراء المشاكل الوطنية والإقليمية- بقضايا عالمية مشتركة تهم مصير البشرية بأكملها. ولا تتعلق هذه القضايا بمسائل البيئة والأوبئة والجريمة المنظمة وتدفقات الهجرة غير الشرعية وانتشار أسلحة الدمار الشامل مما تركز عليه أجندة الدول الكبرى فحسب، ولكن قبل ذلك بمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية العالمية ومحاربة الفقر والبطالة وردم الهوة بين الجنوب والشمال واحترام القانون الدولي ودرء الحروب وحماية الشعوب والأقليات المهددة، أي باختصار التعاون في سبيل تحقيق التوازن والاستقرار وضمان السلام والأمن الدوليين.
ولا تبرر أنانية بعض الدول وإجرامها تهرب الدول الأخرى من المسؤولية ولا يفيدها الاحتجاج بهذه الأنانية في شيء. فـ "لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"، فلن يتاح لدولة أن تحظى بتأييد الرأي العام الدولي وتحصل على الرصيد المعنوي الذي يمكنها من التحول إلى عضو مشارك في السياسة الدولية وفاعل في تقرير مصير الإنسانية إلا بقدر ما تظهره من التزام بقيم ومبادئ القانون والحياة السياسية السليمة على أراضيها وتجاه شعبها وشعوب العالم الأخرى. هذا هو معنى وحدة المصير البشري التي نتجه نحوها بشكل مطرد بسبب تزايد الاندماج ومفعول التأثيرات المتبادلة القوية. ويعني ذلك على المستوى العملي أن رصيد الدول السياسي ونصيبها في لعب دور في تقرير شؤون العالم والمجموعة الدولية يرتبط اليوم بما تظهره من قدرة على العمل المشترك والتفاعل مع غيرها.
فبذلك وحده تستطيع الدول الصغيرة أن تخرج من حالة انعدام الوزن وتنجح في تكوين تكتلات قادرة على التأثير، كما تستطيع أن تنمي الموارد التي تمكنها من المساهمة المادية والسياسية معا في حل المشاكل العالمية وتقديم إسهامات جدية لتحقيق الأهداف الدولية المشتركة. من هنا يشكل الالتزام بالمعايير الديمقراطية واحترام الحقوق الإنسانية ومعايير المساواة والعدالة الاجتماعية والقانونية في جميع المجالات -الوطنية والإقليمية- ومن قبل جميع البلدان، الإطار الضروري لإطلاق مبادرات إنسانية وبلورة سياسات تعاون دولي نشطة وبناءة على جميع المستويات.
"الإدارة الوطنية السليمة لأي بلد لم تعد تنفصل أو لم يعد من الممكن فصلها في السياق المعولم الذي نعيش فيه عن الإدارة الإقليمية السليمة" كما يشكل نجاح الدول الفقيرة التي تحولت بسبب سياسات دولية غير عادلة ولا متسقة إلى مصدر للأزمة الدائمة والتهديدات العالمية، في بناء نظم قادرة على إعادة إطلاق ديناميات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المعوقة ودفع عجلة التقدم السياسي والأخلاقي، الطريق الطبيعي لتحريرها من صورتها السلبية وتمكينها من اكتساب موقع لها في السياسة الدولية. وبقدر ما تظهر النخب الحاكمة في جميع المناطق التزاما بالمبادئ القانونية وحرصا على مصالح شعوبها الفعلية، وبقدر ما تساعد سياساتها على تحرير الشعوب من العطالة والهامشية والقيود السياسية والفكرية والأمنية التي تكبلها وتدفع بها إلى الاستقالة والانكفاء أو تفجر في وسطها حركات الإرهاب الانتقامية، فهي تساهم في استعادة الثقة إلى البيئة الدولية السياسية وفي تقريب أجل بناء إطار قانوني لسياسة عالمية شرعية قائمة على حوارات جدية منظمة وجماعية تشترك فيها جميع الأطراف المعنية، أوروبية كانت أو أميركية أو آسيوية أو أميركية لاتينية أو روسية أو أفريقية.
هذا هو الثمن الذي لابد لجميع البلدان -صغيرها وكبيرها- أن تدفعه لقاء طموحها المشروع لأن تكون طرفا شرعيا ومقبولا في إدارة عالمية عقلانية للموارد البشرية وللمشاركة الفعلية والفعالة في رسم وتقرير المصائر العالمية، وفي ما وراء ذلك، في تجاوز خيار حرب الحضارات وصداماتها الكارثية.