تحدي القوة الايراني والرد العربي عليه

2006-11-08:: الاتحاد

على إصرار طهران على الاستمرار في عملية اكتساب التقنية النووية وتطوير عملية تخصيب الأورانيوم على أراضيها، بعكس ما اقترحت عليها الدول الغربية المعنية بحظر انتشار الأسلحة الذرية، ردت الدول العربية الرئيسية بأسلوبين. الأول جاء مبكرا على لسان الأمين العام للجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر، السيد جمال مبارك، والثاني أتى من العربية السعودية وانتشر في بعض الدول العربية المجاورة، عكسته تصريحات بعض فقهاء أو علماء المملكة. قال مبارك الابن في خطبته في مؤتمر الحزب (19 سبتمبر ايلول 2006) أن مصر جاهزة للعودة إلى إطلاق برنامجها الذري الذي كانت قد أوقفته بعد كارثة شارنوبيل عام 1986. ولم تمض أيام حتى أكد الرئيس مبارك نفسه هذا الخيار مشيرا إلى حاجة مصر إلى موارد طاقة جديدة، ورغبتها في تامينها عن طريق استغلال التقنية النووية لأهداف سلمية. في المقابل نزع عدد من علماء السعودية إلى التركيز منذ بعض الوقت على الصراع المذهبي، كرد فعل على الاختراق الذي أخذ يحققه ما سمي بالمحور الشيعي أو الايراني، كما ذكر الشيخ الحوالي، في مناطق بلاد الشام، أي في سورية ولبنان، وربما في العراق أيضا، ملمحا إلى أن مثل هذا الاختراق لن يبقى من دون رد.

وبالرغم من أن العلاقات العربية الايرانية لم تكن على درجة خاصة من التوتر في السنوات القليلة الماضية، بل نزعت إلى التطبيع خلال رئاسة خاتمي، إلا أن عددا من الأحداث المهمة التي جرت في الفترة الأخيرة دفعت البلدان العربية إلى الشعور بتفاقم الخطر الايراني، لم يكن تصميم إيران على امتلاك التقنية النووية إلا أحد العوامل فيها. ومما لا شك فيه أن تدهور الاوضاع العراقية بعد التدخل العسكري الامريكي عام 2003، قد زاد من مخاوف الدول الخليجية من تحول العراق إلى منطلق لتمدد نفوذ الثورة الايرانية الاسلامية، بعد أن راهنت عليه لعقود طويلة كدرع قوي يقف في وجهها ويدرء الخطر الايراني عنها. وجاء انتخاب أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية الايرانية، وهو المعروف بتشدده وبسياسته القومية الايرانية، ليعزز من هذه المخاوف. لكن درجة الشعور بالتهديد سوف تتفاقم بشكل أكبر بعد أن نجح الرئيس الايراني الجديد في تشكيل محور قوي يجمع بين طهران ودمشق وبيروت ممثلة بحزب الله، ثم بعد الإنجاز العسكري الكبير الذي حققه هذا الحزب على إسرائيل في ايلول الماضي، وانسحاب دمشق من محور التنسيق السعودي المصري التقليدي واتهامها لشركائها السابقين بالتخاذل والتهجم عليهم. وما كان من الممكن لمشروع التقنية النووية الايرانية في مثل هذه الظروف أن يمر من دون أن يزيد من إحباط الدول العربية ومخاوفها. خاصة وأن ايران لم تقم بالجهد اللازم لتطمين هذه الدول، والخليجية منها بشل خاص، مسبقا. ولا يكفي ترداد بعض المسؤولين والمعلقين الصحفيين الايرانيين فكرة أن القوة النووية الايرانية لن تكون موجهة ضد جيرانها. كما لا يحل المشلكة تعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العربي الشعبي مع المشروع النووي الايراني واعتقادها بأن حصول ايران على السلاح النووي ربما يشكل عنصرا ايجابيا في توازنات الشرق الأوسط تضعف من قوة التفوق والردع الاسرائيلية وتساهم في تقليص نفوذ التحالف الغربي في المنطقة.
لكن في ما وراء كل هذه الاعتبارات، لا شك أيضا في أن مشروع ايران النووي يشكل تحديا متعدد الأبعاد للنظم العربية. فهو يهدد أولا، بقدر ما يساهم في الكشف عن ضعف الاختيارات الأمنية العربية وفراغ القوة القائم الذي نجم عن تهافت هذه الخبارات، بتعميق القطيعة بين النخب الحاكمة والشعوب، ويدفع إلى المزيد من انحسار الولاء لها. وهذا ما يعكسه منذ الآن التعاطف العربي الشعبي الواسع مع مشروع ايران النووي، ويحوله إلى مصدر تهديد سياسي يتعلق بصدقية الأنظمة نفسها وشرعيتها. وهو يفاقم من مخاطر تفكك المنظومة العربية وتعميق الشرخ الذي أصابها منذ اتفاقية كمب ديفيد ثم حروب الخليج المتتالية. وهو ما يعبر عنه منذ الآن نجاح ايران في اختراق المجال الجيوستراتيجي العربي وتكوين حلف خاضع لها يمكن أن يعمل كذراع قوية قادرة على استخدامها داخل هذا المجال لخدمة أغراضها القومية. وفي ظروف الانقسام العربي الراهن وغياب المشاريع الفيدرالية والتعاون الأمني والسياسي، يمكن لطهران النووية إذا نجحت في فرض خيارها النووي أن تتحول إلى المحاور الوحيد للغرب حول شؤون المنطقة الشرق أوسطية، من فوق رأس العرب، وأن تستعيد إلى حد كبير، في إطار سلطة إسلامية، الدور الذي كان يقوم به نظام الشاه في المنطقة في إطار عقيدة قومية امبرطورية قديمة. وفي هذه الحالة سيكون بوسع ايران التي تملك علاقات قوية وثابتة مع روسيا والصين، أن تتفاوض مع الدول الغربية على تقاسم مناطق النفوذ والمصالح في المنطقة الشرق أوسطية، على حساب البلدان العربية وربما أيضا ضدها. وليس هناك ما يمنع أن يكون ثمن هذا التفاهم، كما حصل مع العديد من الدول العربية ذات الايديولوجية القومية نفسها، غض النظر عما يحصل في فلسطين والتساهل وصرف النظر عن دعم القضية الفلسطينية بصورة عملية.
ما يستحق المناقشة إذن ليس حق الدول العربية في التخوف من امتلاك طهران للتقنية النووية، وإنما اسلوب الرد على المخاوف، وتأمين شروط الرد على التحديات والتهديدات المحتملة التي تكمن وراءها. وهنا أود أن أشير إلى خطر انجرار العرب إلى استراتيجية أمريكية تضر بمصالح العرب كما تضر بالمصالح الايرانية، بالرعم مما يبدو عليها من انحياز لصالح ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، في مواجهة نزوع القوة والسيطرة الايرانية. فلا تخفي إدارة بوش الأمريكية، التي تتصرف على أنها طرف رئيسي، إن لم تكن الطرف الرئيسي المعني في المنطقة، عزمها على مقاومة المشروع الايراني بالقوة إذا اضطر الأمر، ورغبتها في دفع العرب إلى ضم جهودهم إلى جهودها لمواجهة الخطر الايراني. ويعني هذا الضم في الواقع تكوين جبهة عربية في مواجهة ايران ومعادية لها، تقدم للرئيس الأمريكي الغطاء السياسي الذي يمكنه من الاستمرار في سياساته التدخلية العسكرية المباشرة في الشرق الاوسط ومواجهة معارضته الداخلية والدولية. ومما يشجع بعض العرب على المراهنة على الخيار الأمريكي شعورهم بفراغ القوة الإقليمية بعد إجهاض مشاريع الأمن العربي المشترك جميعا، وغياب أي سياسات أمنية مستقلة، مما يجعل من الالتصاق بالولايات المتحدة الأمريكية والاعتماد الكامل عليها في نظر الكثيرين الخيار الوحيد القائم للدفاع عن المصالح الوطنية وضمان الأمن القومي.
بالرغم من كل ما يقال في هذا الخصوص، في الخليج بشكل خاص، لا أعتقد أن الالتصاق بالولايات المتحدة لتحقيق الأمن القومي والوطني قدر لا مهرب منه. بل أعتقد أكثر من ذلك أن الاصطفاف وراء الاستراتيجية الغربية، وخوض الحرب ضد ايران مع الدول الأطلسية، إذا حصلت، وفي سياق ذلك كله، العمل على تعبئة المشاعر المذهبية، السنية والشيعية، لخلق مناخ هذه الحرب وجر الجمهور البسيط إلى الانخراط فيها، لا يشكل خيارا أمنيا رابحا للعرب، لا على مستوى الأنظمة ولا الدول ولا الشعوب. ولعل العديد من الأطراف العربية الرسمية تدرك ذلك، وتعرف أن من الممكن لهذا الخيار أن يقود إلى نتائج معاكسة تماما للمطلوب، كما حصل مع التدخل العسكري في العراق، بيد أنها ترى ربما أنه رغم سوئه فهو الخيار الوحيد المتاح. وهذا غير صحيح.، فبالرغم من صدق المخاوف التي تحدثنا عنها، لن يكون نتيجة مثل هذا الخيار سوى تحويل العرب إلى ضحية للمواجهة الغربية الايرانية، سواء ربحت ايران الرهان مع انقسام مجلس الأمن يشأن الطريق الأسلم لحل الأزمة النووية الايرانية، وحققت حلمها في امتلاك سلاحها النووي في مدى قريب أو متوسط، أو ربحت الولايات المتحدة رهانها في عزل ايران وإعداد ظروف التدخل العسكري لتدمير البنية التحتية النووية التي تعمل على تطويرها.
من هنا يبدو لي أن السؤال الحقيقي الذي يستحق الطرح لا يتعلق بتأكيد خطر الالتحاق بواشنطن والعمل على أجندتها القومية والانخراط الأعمى في استراتيجيتها الدولية، وإنما بمعرفة فيما إذا كان من الممكن للدول العربية اتباع سياسة مستقلة عن السياسة الامريكية والاطلسية عموما، تجاه ايران وتقنيتها النووية، أم أنها مضطرة، مهما كانت تقديراتها لحجم المخاطر التي ينطوي عليها، إلى السير في الطريق التي ترسمها الولايات المتحدة التي تسيطر، شئنا أم أبينا، على الأوضاع الاستراتيجية الشرق أوسطية، والذي يستحيل من دونها الحفاظ على أمن أي دولة خليجية.
لا أعتقد أولا أنه ليس هناك بديل عن الانخراط في الاستراتيجية الامريكية لضمان الأمن الوطني والقومي العربي والخليجي. بل العكس هو الصحيح. إن هذا الانخراط هو اليوم المصدر الرئيسي للمخاطر التي يمكن أن تهدد المنطقة باكملها. وثانيا ليس من الصحيح أنه من المستحيل بناء استراتيجية أمنية عربية مستقلة عن الاستراتيجية الامريكية حتى لو لم تكن معادية لها، كما يعتقد معظم القادة العرب اليوم. ولا ينبع الايمان بإمكانية بلورة استراتيجية أمنية بديلة ذات درجة من الاستقلال الاعتقاد بزوال السيطرة الأمريكية، ولا بضرورة مواجهة واشنطن والتمرد الطفولي عليها. إنه ينبع من واقع انحسار قوة الردع الأمريكية نفسها ونشوء فراغ لا تستطيع واشنطن نفسها ان تملأه او تدعي ملأه. وهي نفسها بحاجة إلى قوى اخرى حليفة أو غير معادية على الأقل تساعدها في الحفاظ على تراجعها والتغطية على المصاعب التي تواجهها. وواشنطن تدرك أن ذلك قد حصل بسبب الأخطاء التي ارتكبتها ومحدودية الرؤية الاستراتيجية التي وجهتها وضيق أفقها. وهي نفسها تمر اليوم في مرحلة مراجعة لهذه الاستراتيجية ليس من المؤكد ان ينجم عنها شيء كثير طالما أنها مرتبطة بأجندة السياسة الأمريكية الداخلية نفسها.
باختصار إن ما كان مستحيلا البارحة أصبح ممكنا اليوم، إلى حد كبير، نظرا لما أصاب المواقع الأمريكية الاستراتيجية من تدهور في السنوات الثلاث الماضية والتناقضات التي ميزت خططها وتشوش أهدافها وتخبط تكتيكاتها، وهزائمها العسكرية المتتالية من أفغانستان إلى العراق إلى لبنان وفي النتيجة، إخفاقها في إقناع المجموعة الدولية بصحة اختياراتها. وهذا الانحسار المتفاقم في قوة الردع الأمريكية، وانعدام الثقة باختياراتها هو الذي يفسر رفض نظام مهلهل مثل نظام البشير في السودان التهديدات الأمريكية، بل حتى استقبال مبعوث الأمم المتحدة والنقاش في مسألة استقبال قوات دولية، وكما يفسر دعوة العديد من المحللين والسياسيين الأمريكيين والغربيين واشنطن إلى العودة إلى أسلوب الحوار، بما في ذلك مع طهران، لتجنب كارثة قومية أمريكية في العراق، كما حصل في الماضي في فيتنام.
بل إن هذا الفراغ الأمني الذي ولده تهافت الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة هو الذي يفسر تنامي طموحات دولة مثل ايران واندفاعها لسده من خلال تطوير قدرتها العسكرية والتقنية وتغلغلها الواضح في المنطقة العربية، سياسيا وثقافيا ومذهبيا أيضا.
من هنا، بدل الاصطفاف وراء الولايات المتحدة لدعم خياراتها الخاسرة، وتعزيز موقفها تجاه طهران، ينبغي على الدول العربية، بالعكس تماما، الاستفادة من انحسار النفوذ والقوة الأمريكيتين من أجل توسيع هامش اختياراتهم المستقلة، أي العمل على تطوير سياسة أمنية عربية مستقلة، قد يكون التفاهم العربي أولا وفتح مفاوضات مع ايران ثانيا ركيزتيها الرئيسيتين في إطار رؤية إقليمية جديدة لتعزيز استقلال المنطقة، وتوسيع هامش مبادرة دولها جميعا تجاه الأحلاف والتكتلات الدولية الخارجية. في نظري هذا هو الخيار الوحيد الناجع لاستيعاب مخاطر تنامي القوة الايرانية من جهة، وتقليل فرص الصدام والتنافس بين طهران والعواصم العربية الرئيسية من جهة ثانية، وإخراج المنطقة بأكملها من خطر التحول غلى مسرح للتنافس الدولي وللحروب الساخنة والباردة التي تنجم عنه. إن خلق منظمة إقليمية للأمن والسلام في المنطقة، بالتعاون بين الدول العربية وايران وتركيا قد يكون الخيار الوحيد القادر على سد الفراغ الاسترتيجي الذي ولده انحسار القوة الردعية الأمريكية الاسرائيلية، وعلى تجنيب المنطقة مخاطر الدخول في منافسات ونزاعات متعددة الأطراف لا نهاية لها، لا يمكن أن تكون نتيجتها سوى توسيع دائرة الخراب والفوضى في عموم الشرق الأوسط، من دون الوصول إلى أي نتيجة نهائية يستطيع أن يستفيد منها أصحاب المنطقة، بل الدول الغربية والصناعية الكبرى المتنازعة نفسها.