بين القمع والمحافظة على الأمن

2002-04-14:: الجزيرة نت

فجرت مقاومة الشعب الفلسطيني الباسلة في الأراضي المحتلة حركة تضامن واسعة في العالم العربي كما هو الحال في جميع بلاد العالم الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها التي تدعم صراحة وعلانية إسرائيل.
وفي جميع هذه البلدان ترافق الشرطة وقوات الأمن التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية بصورة وديه وقانونية كما هو الحال في كل نوع من التظاهرات التي تجري بانتظام, حماية لها من احتمال التعرض لهجومات خصومها من الأحزاب أو التجمعات الصهيونية المتطرفة التي اعتادت الاعتداء على كل من لا يشاطرها الرأي وتحسبا من احتمال بروز مجموعات من داخل التظاهرة تسعى إلى استغلال المسيرة للمساس بالأمن أو الممتلكات العامة والخاصة.
وفي جميع بلدان العالم سارت الأحزاب والتجمعات السياسية في تظاهرات ضمت عشرات الألوف في شوارع المدن الأوروبية والآسيوية والأميركية اللاتينية ولم يتعرض أي من المشاركين فيها إلى الضرب بالهري أو إلى الاعتقال, ولم تنقل الصحف أي حوادث خطيرة نجمت عن هذه المسيرات.
بيد أن الذي يتابع ما يجري في العواصم العربية يندهش لمرآى رجال الأمن وجاهزيتهم وسرعة استعدادهم لا ستخدام السلاح أو وضع أصابعهم على الزناد. فمنذ بداية حركة الاحتجاج والاعتصام والتظاهر لفلسطين لا تكف الأنباء القادمة من العواصم العربية عن الحديث عن الصدامات العنيفة بين رجال الأمن والمواطنين المتظاهرين في الشوارع العربية لدعم الصمود الفلسطيني أو للتعبير عن الاحتجاج والاستنكار لسياسات الدول التي تؤيد إسرائيل وترفض أن تتحمل مسؤولياتها في لجم حكومة شارون العنصرية ومنعها من استكمال مخططاتها الإجرامية.
وقد لجأت قوات الأمن في مرات عديدة إلى إطلاق الرصاص بجانب استخدام القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين. وصار من المعروف أن هناك عشرات المعتقلين اليوم ومئات الجرحى القابعين في المستشفيات العربية نتيجة تدخل قوات الأمن بصورة غير سليمة وغير مفهومة معا.
لا أدري كيف يمكن تفسير هذا السلوك الخاطئ من قبل سلطات الأمن العربية وما هي مصادر الخوف من حركة تضمان مع الشعب العربي الفلسطيني الذي يتعرض لمحنة تاريخية ومن مسيرة احتجاج على حكومات إسرائيلية وأميركية لاتزال تردد منذ أشهر -وبصرف النظر عن كل ما يجري على الأرض- أطروحات مرفوضة عن مسؤولية الفلسطينيين في انهيار عملية السلام وعنفهم النابع من ثقافة التعصب والانتحار ولا تجد كلمة واحدة سلبية تصف فيها سلوك زعيم إسرائيلي حملته محكمة بلاده نفسها مسؤولية كبيرة في المجازر الجماعية الوحشية التي حدثت من قبل سنوات في مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان.
أعرف كما يعرف الكثيرون بالتأكيد أن جزءا من حركة الاحتجاج موجه أيضا إلى الحكومات العربية التي يتهمها الرأي العام عموما بالتقاعس في مد يد العون إلى المقاومة الفلسطينية. لكن هذا هو الحال أيضا بخصوص التظاهرات التي تجري في البلاد الأخرى غير العربية. فالجمهور الغاضب والمتعاطف مع الفلسطينيين يتظاهر أساسا ليحتج على عطالة حكوماته وعدم اتخاذها المبادرات التي يعتقد أنها في وسعها تخفيف الظلم عن الفلسطينيين. لكن هذه الحكومات لا تشعر مع ذلك بأن مثل هذا الاحتجاج وهذا النقد المضمر وأحيانا المكشوف لسياساتها يمكن أن يشكل مصدر خطر كبير عليها أو على الأمن المدني.
وأعرف أيضا بالتأكيد أن هناك خوفا دائما عند جميع قوات الأمن في العالم من أن تتجاوز التظاهرات حدود التظاهر السلمي أو أن تنزع إلى التعرض لبعض الممتلكات أو السفارات الأجنبية وهنا الأميركية بشكل خاص, لأن مثل هذا الانزلاق يمكن أن يحرج الأنظمة والحكومات. لكن ليس من المؤكد أن ضرب الأفراد المتظاهرين وتكسير الهري على رؤوسهم هو الوسيلة المثلى لحماية السفارات الأجنبية ولا للدفاع عن الممتلكات الخاصة أو الرسمية.
وأعرف أيضا أن هناك قلقا عميقا يسكن العديد من الحكومات من أن تنتقل عدوى التضامن مع شعب فلسطين إلى داخل البلاد نفسها أو أن تستغل التظاهرات الشعبية الواسعة المكرسة لفلسطين من قبل أحزاب المعارضة أو من قبل الناشطين السياسيين وأن تنحرف بالتالي عن أهدافها الأصلية. لكن نزوع المعارضات إلى استغلال مثل هذه الأحداث الوطنية للتذكير بوجودها أو للتعبير عن مواقفها هو من الأمور العادية التي تشكل قاعدة عامة وتنطبق على جميع البلدان والمجتمعات. فالتظاهرات الوطنية هي المناسبة الطبيعية كيما تعبئ المعارضة التي تعاني دائما من الشعور بالتهميش والتي تعيش على هامش السلطة أو خارجها جمهورها وكيما تتحقق من قوة نفوذها وتضمن إعادة إنتاج نفسها. ويزداد الميل إلى استغلال المناسبات الوطنية للتذكير بالوجود بقدر ما تفتقر المعارضات العربية إلى مناسبات شرعية وقانونية لممارسة حقوقها وتأكيد فاعليتها ووجودها.
ومن الأفضل للحاكم العربي أن تنفس المعارضات القائمة عن إحباطها من خلال المناسبات الوطنية وفي إطار الدفاع عن القضايا المشتركة والاجماعية من أن تعيش في مناخ القطيعة المستمرة والعداء المستحكم. ولا أدري لماذا يشكل تذكير المعارضات بوجودها وتأكيدها لحضورها تهديدا خطيرا للنظم السياسية وللاستقرار حتى لو كانت هذه النظم ديكتاتورية أو تسلطية, بل خاصة وأنها كذلك.
إن خوف قوى الأمن الزائد من المتظاهرين العرب لفلسطين غير مبرر وغير ناجع على الإطلاق بل ربما كان الطريق الأسرع لتفجير الصراعات الكامنة بين الأنظمة والرأي العام الذي يشعر بالإحباط والمهانة لعدم قدرته على تقديم يد العون القوية لأخوة له يواجهون أعتى جيوش القهر الموجودة في العالم اليوم من دون حماية ولا مساعدة. ومن المؤكد أن قمع الجمهور في مثل هذه الحالات وهذه الظروف الاستثنائية يعرض الأمن والاستقرار للخطر أكثر بكثير مما لو رافقت قوات الأمن بروح ودية ووطنية التظاهرات الشعبية وعبرت عن ثقتها بالمواطن وبروح المسؤولية الوطنية عنده. وبالمقابل لا يمكن لمواجهة هذا الجمهور الغاضب بالهري والرصاص والضرب إلا أن يزيد من قوة المعارضة وعدائها وأن يضع السلطات التي تلجأ إلى وسائل القمع والاعتقال والحجز للناشطين المناصرين للفلسطينيين في صف الضالعين مع القوى الإسرائيلية والأميركية. وهو ما أصبح شبه بديهة على لسان أجهزة أو بعض أجهزة الإعلام العربية التي لا تكف عن اتهام الأنظمة العربية والتشكيك بقدراتها وصدقيتها ليل نهار.
فإذا استمرت الأمور على هذا الحال فالذي سيحصل هو بالضبط ما تخشاه الأنظمة وقوات الأمن, أي تداخل مشاعر النقمة الوطنية على إسرائيل والولايات المتحدة مع عوامل النقمة على الأوضاع والنظم السياسية فندخل في حالة شبيهة تماما بتلك التي عرفتها البلاد العربية أو معظمها بعد نكبة عام 1948.
لا يخدم ضرب المتظاهرين واعتقالهم وقتل بعضهم الاستقرار الذي تبحث عنه النظم العربية في هذه الفترات العصيبة ولا يوفر على الحكومات الجهد الضروري لتحسين مستوى أدائها في مواجهة قضية المقاومة والحرب الدائرة في فلسطين. إنه يأتي ليرسخ الاعتقاد السلبي السائد من أن الأنظمة ليست معنية كثيرا بالكفاح الفلسطيني أو أنها تخاف من الانتصار. وهذا يعني أن المخاطر التي تخشى منها الحكومات تصبح أكثر احتمالا مع تزايد اللجوء إلى القمع لأنها تدفع إلى الجمع بين الإحباط الشعبي الناجم عن التقصير والإحباط الناجم عن التقصير.
على أولئك المعنيين بشؤون المجتمعات العربية ومستقبلها أن يدركوا أن تظاهرات الشباب العرب في الجامعات والمدارس ومشاركة الجمهور الواسع الذي اختفى منذ فترة طويلة من الحياة العامة في المسيرات يشكلان بوادر نهضة سياسية وأن هذه النهضة لا تعني شيئا آخر سوى التغلب على روح السلبية التي سادت في الحقب الماضية بسبب الصراعات السياسية العنيفة التي شهدتها الساحة السياسية العربية في جميع البلدان والتي أدت في معظم الأحيان إلى الانقسام والاقتتال بين الأخوة وعممت ظواهر الاعتقال والحبس من دون محاكمة والانتقام بل والاغتيالات السياسية في كثير من الحالات. ولا يعني التغلب على روح السلبية والنزوع إلى الانخراط من جديد في الحياة العمومية سوى استعادة الثقة بالذات والاستعداد المتزايد لحمل المسؤولية الوطنية والقبول بالتضحيات التي تصدر عن قبول هذه المسؤولية.
من المحتمل أن يكون المحرك الأول لهذا النهوض في الفكرة الوطنية وتنامي الشعور بالمسؤولية العمومية نموذج التضحية الاستثنائية الذي عبر عنه ولايزال مقاتلو الحركة الوطنية الفلسطينية وفي مقدمهم أولئك الذين يقدمون أرواحهم رخيصة فداء لقضية الأرض والوطن والمقدسات. ومن المحتمل أيضا أن يكون وراء هذا الاندفاع الوطني الجديد شعور عميق أو دفين بانفتاح آفاق جديدة للعمل والإصلاح والتغيير, آفاق ليست مرتبطة بقرار سياسي ولا بموقف رسمي أو غير رسمي بقدر ما هي ثمرة ظروف تجعل من غير الممكن أو توحي على الأقل بأن من المستحيل أن تستمر الأوضاع التي كانت سائدة ولاتزال سائدة منذ عقود من دون تجديد.
ومهما كان مصدر هذه النهضة السياسية وحس المسؤولية فإن على الحكومات والنظم القائمة التي تريد الإصلاح أو تسعى إليه أن تستفيد من هذه الروح الجديدة وأن تستثمرها لتجديد نهضة البلاد لا أن تعيشها كما لو كانت كابوسا يؤرقها ولا تعرف كيف تتخلص منه.