بين الديمقراطية العربية والديمقراطية الأمريكية

2004-02-28::

مع انهيار الحركات القومية ووصول أـنظمتها بالمجتمعات العربية إلى طريق مسدود لا تستطيع هي نفسها أن تنكره، تتنامى في أوساط الرأي العام، وبشكل خاص الرأي العام الشبابي، والعالمي أيضا، نزعة عدائية تجاه البرامج والشعارات والأهداف التي استحوذت في الماضي القريب على عقول الناس وأفئدتهم لعقود طويلة. وينهال النقد بصورة عشوائية على كل البرنامج الوطني العربي الذي بلورته الحركات الشعبية منذ بدايات القرن العشرين في مواجهة الاحتلالات الغربية للأقطار العربية أولا ثم في مواجهة علاقات التبعية والاستعمار الجديد ثانيا. حتى إن البعض أصبح يتندم على خروج الاحتلال والاستعمار، بل لقد سمعت صديقا يردد ولو على سبيل المزاح الذي لا يخلو من الجدية إن ما نحتاج إليه هو الخلاص من الاستقلال. 

والمشكلة ليست في نقد البرامج الوطنية ولكن في بروز نزعة عدمية وسوداوية تجاه الحقب السابقة لا تفرق بين أخطاء الزعماء وتهافت الطبقات السياسية وتضحيات الشعوب. فلا ينبغي للاحباط الهائل الذي تعيش فيه الشعوب العربية اليوم أن يدفع إلى مثل هذا الموقف التعميمي العدمي. ولا يمكن لمثل هذا الموقف أن يقود إلى تصحيح الحال بقدر ما يعمل على تعميق الظلمة وانعدام الوعي. إن من واجبنا أن نعيد النظر بماضينا من دون أدنى تردد. لكن لا ينبغي أن يكون ذلك في سبيل نفي هذا الماضي أو صبغه بالسواد. فرفض الماضي والتنكر له لا يفيدنا في فهم ما يحصل لنا ولا يساعدنا على فهم الأسباب التي تكمن وراء إخفاقنا وكيف ومن هو المسؤول عن هذا الإخفاق. أعني أنه لا يساعدنا على أن نميز بين سياسات أو اختيارات سياسية واستراتيجية خاطئة وسياسات ايجابية ينبغي بلورتها وتطويرها حتى نخرج من المأزق الذي نحن فيه. والسبب بالضبط هو أن شتم الماضي والتنكر له لا يعني نقده ولا تمحيصه ولكن بالعكس الاستمرار في العماء الذي قاد إلى الفشل والإخفاق،.ولا يكفي أن نجلد أنفسنا ونشتم تاريخنا ونحقر ثقافتنا حتى نكتشف طريق التجدد والخلاص،
والسؤال الذي ينبغي على جميع المتصدين لمثل هذا النقد أن يطرحوه هو التالي: هل ترجع الأوضاع المأساوية التي نعيشها اليوم إلى خطأ الاختيارات والأهداف التي حددتها لنفسها بعد الاستقلال الحركة او الحركات الوطنية العربية؟ هل كان من الخطأ مثلا تبني شعار الاستقلال عن الأجنبي، والتفكير الذي ساد خلال الخمسينات والستينات بالوحدة أو بالتقارب بين الدول العربية؟ وهل كان من الخطأ التفكير في تقليص الفوارق بين الطبقات وتطبيق معايير أفضل للعدالة الاجتماعية وتحرير الفلاحين وتطبيق برامج الاصلاح الزراعي وإدخال الفلاحين والعمال إلى الحياة السياسية؟ هل كان من الخطأ العمل على التعبئة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الزاحف ؟ وهل كان من الخطأ البحث عن تحالفات استراتيجية أخرى غير تلك التي كانت معقودة مع الدول الغربية خلال حقبة الاستعمار، أو شراء الأسلحة السوفييتية وتكوين الجيوش الوطنية؟ وهل كان الموقف الصحيح يتطلب الصلح بأي ثمن مع اسرائيل والتفاهم مع الدول الغربية والتعاون معها كما تسعى إلى فعله النظم العربية اليوم؟ وهل هذا السعي وما يعنيه من تخل عن الاختيارات الوطنية العربية السابقة من قبل الأنظمة الراهنة هو عمل صحيح وهو المطلوب وأن ما كان قائما كان خطأ أم أن هناك طريقا آخر ممكنا للتعامل مع الأوضاع الراهنة؟
هذه الأسئلة مطروحة على العرب اليوم بقوة وبراهنية. والاجابة العقلانية عنها تشكل عاملا أساسيا للخروج من حالة التخبط والفوضى الفكرية والايديولوجية والضياع السياسي التي يعيشها الرأي العام العربي. فمن دون ذلك سوف يستمر الوضع القائم كما هو، ويستمر الجمهور العربي في رفض الماضي والحاضر معا جملة وتفصيلا . ولا شك أن هذا الرفض للواقع القائم رفض محق. لكنه لن يستطيع أن ينتقل من السلب إلى الايجاب أي من رفض الواقع إلى بناء رؤية عقلانية وسليمة لإعادة بنائه وإصلاح أحواله من دون مراجعة عقلانية وجدية لسياسات الماضي واختياراته الأساسية.
في اعتقاتدي كان للبرنامج الوطني في العالم النامي بأجمعة ثلاثة محاور عمل أساسية. الأولى تأكيد الهوية السياسية أو الوطنية، وعندنا الهوية العربية أو المصرية أو اللبنانية او السورية أو الجزائرية أو المغربية، في مواجهة الهويات أو التماهيات التقليدية الدينية والطائفية والعشائرية والجهوية، بل انعدام الهوية، ومن دونه لم يكن من الممكن بناء الدولة الحديثة ولا الدخول في منطق سياسة العصر وتنظيمه المدني. والثاني حل مسألة الريف العربي ودمج الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية من السكان، لكن الأغلبية المهمشة والمنبوذة، في الحياة الوطنية، ومن ضمنها تحقيق عدالة اجتماعية أفضل. وهو شرط تكوين نسيج وطني والخروج من منطق القرون الوسطى القائم على التمييز في المراتب والمقامات وعلى إلغاء الفردية أو إغراقها في العصبيات الجماعية. والثالث هو التحديث الإداري والتصنيع الاقتصادي الذين لا بديل عنهما من أجل دمج البلدان العربية بدورة النمو الصناعي والاقتصادي العالمي وايجاد فرص العمل الضرورية لأجيال الشباب المتنامية.
وفي العالم العربي ولأسباب خاصة يمكن أن نضيف إلى هذا البرنامج محورين آخرين الأول هما مواجهة واقع الاستعمار الاسرائيلي الذي جاء ليصادر في فلسطين على نتائج حركة التحرر من الاستعمار ويفرض وقائع جديدة استيطانية وجيواستراتيجية كبيرة التأثير. والثاني هو مسألة ترتيب العلاقات بين الأقطار العربية وإدارة الإرث الثقافي والتاريخي والعاطفي المشترك، سواء أخذ هذا الترتيب صورة التكتل في إطار الجامعة العربية أو الطموح الأكثر جذرية ليناء دولة عربية واحدة أو اتحاد عربي. ومما زاد من قوة الدفع نحو شعار الوحدة وتشكيل تكتل عربي هو تصاعد قوة الدولة الاسرائيلية وحاجات الرد على تحديات حركة الاستيطان تحت حماية التحالف الذي انعقد بين مشروع الاستعمار الاسرائيلي في فلسطين ومشاربع السيطرة على النفط من قبل القوى الكبرى ونزوعها إلى الابقاء على العالم العربي في دائرة النفوذ والتبعية للغرب وتكريس علاقات الاستعمار الجديد في المنطقة بهدف التحكم الطويل المدى بمصادر الطاقة النفطية.
ليس الخطأ في البرنامج الوطني العربي ولا في محاوره المختلفة التي صاغتها في الواقع حركة الجماهير العربية نفسها خلال عقود طويلة من اختبار السلطة الاستعمارية والصراع معها. وليس تحقيق هذا البرنامج هو المسؤول عن الكارثة التي يعيشها العالم العربي اليوم المهدد بتجريده من سيادته واستقلاله وموارده معا. إن الخطأ هو في خيانة النخب العربية هذا البرنامج الوطني وفي عدم تحقيقه واستبداله بمشاريع سيطرة أقلوية تتمحور حول خدمة الفئات الحاكمة وحدها وقاعدتها الزبائنية بدل خدمة المجتمعات. إن الخطأ قائم في مصادرة هذه النخب والنظم التي أسستها لهذا البرنامج ومن ورائه لمصير المجتمعات ومصالحها.
وما نشهده اليوم ليس إفلاس البرنامج الوطني العربي ولا خطئه أـو لا معقوليته وعدم اتساقه، فهو لم ينفذ حتى جزئيا، ولكن إفلاس النخب العربية الحاكمة وسياساتها وبرامجها غير الوطنية وغير العقلانية وبؤسها الفكري والسياسي والأخلاقي. فليس من العبث التأكيد على حقوق الشعوب العربية في الاستقلال والسيادة ورفض الاستيطان وسلب الأرض ولا العمل على توزيع أفضل للثروة المادية والرمزية على السكان، سواء أجاء ذلك باسم الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية، ولا السعي لبناء هوية أو تعزيز الانتماء إلى دائرة ثقافية وسياسية عربية تستدعي التضامن والتكافل بين الشعوب ولا الانخراط في برامج التنمية والتصنيع. إن عدم تحقيق ذلك هو مصدر الخطأ والعبث لأنه لم يعن شيئا آخر سوى التضحية بالمصالح العربية الوطنية والقومية معا على مذبح المصالح الخاصة وأحيانا الشخصية.
ومن هنا لن يفيد التنكر لهذا الإرث الوطني العربي في تقدم الحركة الشعبية أو الديمقراطية أو التحديثية، وليس المطلوب تصفيته والتنكر للتضحيات الكبيرة التي قامت بها الأجيال العربية السابقة من أجل رسم طريق التحرر من التبعية وتحديث البنى الوطنية السياسية والمدنية خلال ما يقارب القرنين من الزمن. إن المطلوب، بالعكس من ذلك، محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن التخلي عن هذا الإرث والتنكر للتضحيات التاريخية والاستهتار بالمصالح الشعبية الوطنية والعربية.
ذكرت كل ذلك لأقول إنه لا ينبغي أن نطرح مسألة الديمقراطية اليوم في مواجهة اختياراتنا الوطنية في فلسطين وفي مسائل الهوية العربية والتنمية والتصنيع والتكتل والاتحاد أو كبديل عنها، وإنما علينا بالعكس أن نعزز الالتفاف حول شعارها والانتماء لها وترسيخ جذورها باستيعاب هذا البرنامج الذي سقطت النخب البيرقراطية المستبدة، المدنية والعسكرية، في امتحان تحقيقه. ولن يكون للديمقراطية مستقبل من دون أن تنجح في تحقيق هذه المهام الوطنية والاجتماعية المرتبطة بهذا البرنامج . باختصار، لن يكون بإمكان العرب التحرر والارتقاء بمستوى حياة السكان المادية والأخلاقية والاندماج في المسيرة الحضارية العالمية من دون استكمال برنامج التحرر الوطني هذا بما يشمله من وضع حد للتسلط الاسرائيلي وحركة الاستيطان وتجاوز التفتت والتشرذم السياسي العربي الذي يعيق انتشار الابداعات وتنقل المبدعين والمنتجين وعناصر التقدم في المنطقة ويقسم الأسواق والشعوب ويزرع التوترات والانقسامات والنزاعات بين الأقطار العربية. ولن يكون من الممكن استكمال هذا البرنامج الذي تخلت عنه النخب الحاكمة وإعادة إطلاق حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز التكافل والتضامن والعدالة الاجتماعية إلا بتجديد الحياة السياسية وتكوين نخب قيادية جديدة وتغيير موازين القوى الداخلية والإقليمية، وهو ما يتوجب على الحركة الديمقراطية العربية أن تحققه أو تثبت قدرتها على تحقيقه. وإلا فلن يكون لها مستقبل ولن تحظى بالشرعية التاريخية التي تحتاج إليها للبقاء والتنامي والرسوخ في التربة العربية. وسوف تستمر المجتمعات العربية في التخبط والضياع لعقود طويلة قادمة.
إن الذين يرون الديمقراطية بديلا للحركة الوطنية ونقيضا لها هم الليراليون اليمينيون أو رجال الأعمال والأسواق الحرة وحدهم. وهذا هو مشروع الديمقراطية الأمريكية المقترح للعالم العربي. ولسان حالهم يقول: بيعونا الاستقلال والنفط وفلسطين ونعطيكم الحريات الفردية.

ويخشى أنه إذا سيطرت على ذهن الأجيال الجديدة فكرة أن كل ما فكر به وعاش وضحى من أجله جيل الآباء كان خطأ ولا معنى له، وأن البحث عن العدالة في فلسطين والتكتل في إطار العالم العربي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الهوية والاستقلال الثقافي والسياسي، ليس سوى وهم وعبث لا أمل فيه ومن الأسلم عدم التفكير فيه والتفرغ فقط للدفاع عن الحريات الفردية والحقوق الإنسانية والسعادة اليومية والاندماج في الثورة الاليكترونية والمعلوماتية، فستكون الولايات المتحدة وشار بيرل ورمسفيلد وبوش هم الرابحون ويكون المستقبل في المنطقة للديمقراطية الأمريكية بالفعل، أي للأمريكيين يحكمون ويتحكمون ويحلون محل النخب القديمة المنهارة. ولن يكون هناك عرب ولا من باب أولى ديمقراطية عربية ولكن مناطق مفتوحة يعبث بها خبراء السلاح والمال والشعوذة الإعلاماتية العربية و الغربية.