بؤس الوضع العربي الاقليمي والدولي هو انعكاس لبؤس السياسات الوطنية

2002:: الاتحاد


لم يعد يخفى على أحد من المراقبين السياسيين أو حتى من الجمهور العادي أن المواجهة التي فرضتها الولايات المتحدة على العالم العربي عبر الصراع الاسرائيلي الفلسطيني، قد وضعت العواصم العربية في مأزق عميق وأظهرت محدودية خياراتها والهامش الضعيف جدا من الاستقلالية التي تملكها في مواجهة أي أزمة دولية أو إقليمية. 
فواشنطن التي كانت تشكل حتى آخر عهد الرئيس كلينتون الكابح الرئيسي للتوسعية الاسرائيلية أصبحت اليوم في عهد الرئيس جورج بوش الابن المشجع الأول لحكومة اسرائيل اليمينية في حربها ضد الشعب الفلسطيني وتحديها للعالم العربي بأجمعه. وأمام هذا الوضع الجديد لم يعد في جعبة الحكومات العربية التي راهنت على واشنطن في التوصل إلى حل سريع في أهم مشكلة تؤرق الشرق الأوسط وتحول دون تقدمه أي خيار. فاعتمادها الرئيسي إن لم نقل الكامل في تأمين الحد الحرج من استقرارها السياسيَِ أو الاقتصادي أو في تأمين حمايتها الخارجية بل أحيانا وجودها وضمان استمرارها على الولايات المتحدة من جهة وهشاشة مواقف بعضها الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية والوطنية الشديدة، من جهة ثانية، يحرمانها حتى من التفكير بمواجهة الضغوط الأمريكية ويكرهانها على الصمت والاذعان والقبول بتطبيق سياسات اقليمية ووطنية لا تنسجم مع مصالح الدول العربية. وحتى تلك الدول التي ترغب في أن تنأى بنفسها قليلا عن هذه السياسات لحماية سمعتها أو التمديد في أجل شرعية تاريخية في مواجهة الأمبريالية أو مقاومة مخططاتها الاقليمية تجد نفسها في وضع يفرض عليها الانحناء، بل ربما التنافس مع الدول التي كرستها الولايات المتحدة معتدلة في التنازلات لارضاء واشنظن وحلفائها الغربيين. فالاضافة إلى ما تشعر به من حاجة إلى إظهار الولاء الأشد للدولة العالمية الوحيدة والتملص من سمعتها واختياراتها التقليدية السابقة حتى تستحق عن جدارة وثقة لقبها كعضو مشارك ومتعاون في التحالف الدولي الجديد تعيش غالبية نخبها الحاكمة تعيش أزمة عميقة مع المجتمعات المحلية وتشعر بالخوف الشديد من المستقبل بعد أن قطعت جميع جسور الحوار والتفاهم الوطني مع شعوبها وأقامت الحكم على أسس من السيطرة المادية والعسكرية الصرفة والقهر والتخويف. بل إن الكثير من هذه النخب يجد نفسه مضطرا، مخافة انقلاب الأوضاع الداخلية عليه، إلى تقديم خدمات مجانية للولايات المتحدة في سبيل ضمان حمايتها والاحتفاظ ببقائها. 
إن جوهر المأزق الذي تجد الحكومات العربية نفسها فيه نابع من هذا الوضع الذي يجعلها واقعة بين سندان التهديدات والضغوطات الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم منذ سنوات ولا تملك حلولا لها من جهة ومطرقة الهجوم الأمريكي الكاسح والثقيل من جهة ثانية. ولعل أهم ما يميز هذا الوضع هو أنه يجردها تماما من الهامش الضيق لاستقلالية قرارها ويجعلها عارية تماما أمام جماهيرها التي تترصدها على مفترق الطريق وخصومها الخارجيين معا. فهي لا تستطيع أن ترضي هذه الجماهير من دون أن تفقد الحماية والدعم الأجنبيين ولا تستطيع أن ترضي الولايات المتحدة وحلفاءها من دون أن تقطع آخر شعرة تربطها بعد بالمجتمعات التي تحكمها.
لا يمكن أمام مثل هذا الوضع أن لا تطرح سياسات الدول العربية الاقليمية والوطنية على السؤال. فهذا الوضع ليس حتمية تاريخية ولكنه ثمرة اختيارات سابقة، اقتصادية واجتماعية وسياسية واستراتيجية. وهذه السياسات هي التي أوصلتها إلى الطريق المسدود الذي تجد نفسها فيه اليوم ومن ورائها الشعوب العربية جميعا أعني طريق التسليم للقوة وافتقاد أي نوع من المبادرة أو العجز عن القيام بأي فعل يضمن حماية المصالح العربية الحيوية ويردع إرادة الحرب الاسرائيلية. 
في صلب هذه الاختيارات رفض التعاون والتفاهم والتكامل العربي الذي كان ولا يزال أمل المجتمعات العربية وخطاب التعبئة الرئيسي عند معظم الأنظمة العربية، اليسارية واليمنية قبل تكوين الجامعة العربية في عام 1945، والذي كان وراء تكوينها أيضا. ومنها أيضا تهميش الشعوب العربية وحرمانها من أي مشاركة سياسية وأكثر فأكثر فكرية، وتحويل موارد الدولة والمجتمع إلى ما يشبه الثروات الشخصية وتجييرها لصالح طبقات طفيلية تفتقر لأي قيم انتاجية كانت أم معنوية، واستصغارنا جميعا، حكاما ومحكومين للتحولات الروحية والأخلاقية والعلمية والتقنية العالمية لصالح عبادة جديدة بعثناها من العدم لتصبح أعني عبادة الأجداد، سواء أغطت هذه العبادة على نفسها بمظاهر دينية أم زمنية قومية.
وها نحن ندفع اليوم ثمن استهتارنا بتأمين وسائل حمايتنا اواستقرارنا وتنميتنا الحماعية وقبولنا بالتبعية وهدرنا الدائم لمواردنا البشرية والمادية وتهاوننا في تأمين وسائل استقلالنا وسيادتنا وقبولنا بالحكومات الديكتاتورية وبغياب الحياة السياسية والقانونية والأخلاقية الحقيقية في بلادنا. إننا ندفع جميعا ثمن خوفنا من المسؤولية بل هربنا منها والتعلق بالأسباب الخارجية. وهذا يعني في النهاية أن بؤس السياسات العربية الاقليمية نابع هو نفسه من بؤس السياسات الوطنية وهو وحده الذي يفسر بؤس الوضع العربي الراهن الخارجي والداخلي معا وهشاشة موقف العرب وخواء جعبة قادتهم أمام اسرائيل والعالم.