المعارضة السورية في الامتحان

2005-05-11:: الاتحاد

في مواجهة الإعلان عن نوايا الإصلاح التي عبر عنها خطاب رئيس البلاد الجديد عام 2000 ، وكرد عليها، أطلقت المعارضة السورية منذ بداية عام 2000 شعار الحوار الوطني. وكان الهدف من هذا الشعار تطمين القوى الحاكمة أو الكثير منها على مواقعها بهدف الوصول إلى مصالحة وطنية تطوي صفحة الماضي الأليم لتبدأ صفحة جديدة على أسس مختلفة. وقد عبرت سياسة اليد الممدودة التي يمثلها هذا الشعار عن ايجابية المعارضة السورية تجاه العهد الجديد واستجابتها لما أظهره من رغبة إصلاحية واستعدادها لتجاوز ما تحملته في الماضي من أجل نقل سورية من دون عنف نحو الحالة الطبيعية. ولم تكن المعارضة مخطئة في ذلك فقد كان هناك العديد من العوامل التي تسمح بمثل هذا الانفتاح وتجعله احتمالا واردا كما تجعل من رفضه خطأ يمكن أن يقود إلى إجهاض احتمال التغيير السلمي ومن وراء ذلك إلى تشجيع خيار العودة إلى العنف الذي لفظه المجتمع السوري منذ فترة طويلة بعد كارثة أحداث 1980. ولم يكن من المستغرب إذن أن تكون فكرة الحوار الوطني، عبر مؤتمر أو من دونه، هي الفكرة التي طغت على كل شعارات القوى السياسية السورية وفكرها خلال السنتين الأوليتين من عمر العهد الجديد.
لكن بعد مرور خمس سنوات اختبرت خلالها المعارضة حقيقة النوايا الرسمية ودفعت فيها بعشرات المعتلقلين إلى السجن اختلفت الأوضاع كثيرا. فلم يعد التمسك بهذا الشعار يعكس في نظر الرأي العام إبراز تصميم المعارضة على تجنيب البلاد مخاطر المواجهة العنيفة التي يمكن أن تقود إلى زعزعة الاستقرار وتعريض البلاد لهزات هي في غنى عنها، وإنما أصبح يشير بشكل أكبر إلى إخفاق هذه المعارضة في تحقيق أي إنجاز وإلى دورانها في حلقة مفرغة وافتقارها لأي استراتيجية عملية لخوض معركة الديمقراطية التي تنادي بها سوى النقيق على النظام واستنفار مشاعره الوطنية.
والواقع ان المعارضة السورية تعاني من الأمراض نفسها التي يعاني منها النظام. فهي مثله لا تزال تعيش في عالم آخر ينتمي هو أيضا إلى مناخ حقبة الحرب الباردة. وقد أخفقت مثله أيضا في فهم مغزى التحولات الكبيرة التي حصلت على الصعيد الجيوسياسي والجيوثقافي كما أخفقت في استيعاب دروسها للانتقال بوسائل التفكير والعمل والممارسة إلى آفاق وأنماط جديدة تتفق ومشاعر الجمهور العربي الراهن ومتطلباته وأساليب عمله وتفكيره. ومن هنا فهي لا تزال تستخدم، مثل النظام الذي تخضع له أيضا، أساليب عمل بالية وتحلم ببناء الأحزاب على الطريقة القديمة وتتخبط بسبب ذلك في مشاكل الانقسام الفكري والتنظيمي. وهذا ما يفسر ما تعيشه من انعدام التفاهم ونقص القدرة على المبادرة والتخبط في الخيارات المتاحة أو عدم الوضوح فيها كما يفسر ما يحيق بها من فشل وما تعاني منه من عزلة مستمرة عن الرأي العام ومن الانفصال عن جمهورها الواسع.
لقد كان من الصعب فعلا على المعارضة أن تنجح في استقطاب الجمهور ونيل ثقته بينما لا تظهر هي نفسها أي قدرة على شق طريق آخر غير العمل مع النظام وعليه في سبيل تحقيق التغيير المنشود. فلا يعني هذا الاصرار على العمل من داخل النظام ومعه سوى اعتراف المعارضة بصورة غير مباشرة بانعدام الخيارات البديلة عندها واستخدامها شعارات الحوار المكرورة للتغطية على هذا الفراغ. ومن الطبيعي أن لا يقود مثل هذا الموقف إلى شيء آخر سوى تعزز شعور الرأي العام، لكن أيضا أنصار النظام، بهامشية المعارضة من جهة وبمركزية السلطة وتفوقها الساحق من الجهة الثانية. لقد حكمت المعارضة على نفسها بأن تظل رهينة العلاقة الثنائية التي تربطها بالنظام وأن لا تستطيع الخروج من الشرنقة التي وضعت نفسها فيها، أي من العزلة العميقة وربما المتزايدة التي تميز علاقتها مع جمهورها الذي ينتظر قيادة حقيقية لبدء مسيرة التحولات الديمقراطية الفعلية. فمما لا شك فيه أن الاستخدام المستمر لهذا الشعار خلال السنين الخمس الماضية من دون أي مردود بل ولا وعد من قبل النظام بقبول هذه الفكرة قد قضى على صدقية المعارضة بقدر ما أظهرها أمام الرأي العام وكأنها تركض وراء سراب دون ماء، في الوقت نفسه الذي جعل من المراهنة على النظام، بالرغم من كل ما أدت إليه سياساته على المستوى الوطني والاقتصادي والاجتماعي والانساني، الأفق الوحيد المفتوح كما لو لم يكن هناك بديل آخر سوى النظام لكن مع التعديل والانفتاح. وبالإجمال، بقدر ما أبرز هذ الموقف عدم نضج المعارضة وطفولية تفكيرها وبين كم هي عاجزة عن بناء استراتيجية تغيير مستقلة عن السلطة وكم هي مفتقرة لمشروع خاص بها يميزها عن مشروع النظام القائم ، ساهم في تعزيز استراتيجية السلطة القائمة على كسب الوقت.

إن مؤتمر الحوار الوطني بالمعنى الذي تطرحه المعارضة منذ خمس سنوات، أي كإطار للتفاهم بين قوى المعارضة والنظام القائم، يمثل في نظري هدية لا تقدر بثمن للحكم القائم. وغطرسة السلطة وحدها هي التي منعت أصحابه إلى الآن من تلقفه. ولو حظيت بقدر أفضل من الذكاء لقفزت عليه بأقصى السرعة في سبيل توريط المعارضة في حوار لا يقود ولا يمكن أن يقود في ظروف السيطرة الشاملة للحزب الحاكم إلى شيء آخر سوى احتواء المعارضة والسعي إلى فرض تسوية ضعيفة عليها تسمح باستخدامها كورقة في المواجهة الخارجية المفروضة عليها. وكان بإمكان مثل هذا الحوار لو جاء نتيجة مبادرة السلطة أن يشكل مناسبة كبيرة لتجديد شرعية النظام القائم وتكريسها مقابل تنازلات سطحية لا تتعدى كثيرا عملية توسيع وتحسين صيغة الجبهة التقدمية للحفاظ في النهاية على الوضع القائم كما هو.

ليس هناك شك في أن حالة المعارضة لا تزال هي النقطة الأضعف في عملية التحول الديمقراطي المطروحة اليوم على جدول العمل السياسي السوري. والمصدر الرئيسي لهذا الضعف لا ينبع من صمت الشارع ولا غياب اهتمام الرأي العام بقضايا السياسة والتغيير، كما يحلو للعديد من أطرافها أن يردد، ولكن من غياب الخط السياسي والاستراتيجية الناجعة والمقنعة في التغيير. فلو أرادت المعارضة أن تتحول بالفعل إلى معارضة وان تستقطب حركة التغيير العميقة المتصاعدة بدل أن تتركها ضحية أوهام الرهان على القوى الخارجية او على تحولات النظام الداخلية، فقد كان ينبغي عليها أن تفكر في طريقة عمل مختلفة تماما عن تلك التي اتبعتها حتى الآن، أعني أن تعمل على بلورة استراتيجية مستقلة ليست مرتهنة كليا كما هو الحال الآن للإرادة الطيبة لطبقة حاكمة لم تتردد في السخرية من فكرة التغيير وتداول السلطة خلال أكثر من أربعين عاما ولم تكف عن تأكيدها على رفض مبدأ الحوار وإصرارها على الانفراد بالسلطة حتى في أكثر الظروف خطرا على مستقبل البلاد. وكان المطلوب حينئذ فتح الحوار بكل أشكاله وصوره مع الجمهور الواسع والتفاهم مع المجتمع والتفاعل مع قضاياه وتعبئته وتنظيمه. ولا يمكن لمثل هذا الحوار الثاني أن ينطلق ويستقيم ما لم تظهر المعارضة، في طبيعة الشعارات التي ترفعها ونوعها، استقلالا حقيقيا وتصميما فعليا وإرادة قوية واستعدادا كبيرا أيضا لتقديم التضحيات من أجل التغيير. وهو ما يتعارض مباشرة مع التثبت على شعار واحد والتذكير، كلما تفاقم الخطر الداخلي أو الخارجي، بضرورة الحوار والمناشدة بالتغيير حرصا على المصالح الوطنية ورغبة في تحسين شروط الحياة الاجتماعية. إن درء المخاطر الخارجية والحيلولة دون مخاطر الانفجارات والانهيارات الداخلية التي قد تستدعي التدخلات الأجنبية يقتضي التخلي عن وهم التغيير بالشعارات والخطابات من أجل الانخراط في العمل الجدي على تكوين أوسع تآلف ممكن من القوى والتيارات والهيئات الشعبية والوطنية المستقلة التي تشكل الأداة الضرورية لأي تغيير، بل لأي إصلاح داخل النظام نفسه. فوجود هذه القوة هو الشرط الضروري أيضا للفرز داخل النظام بين القوى الاصلاحية والقوى المحافظة المعادية لأي إصلاح. فإذا كان للإصلاح من داخل الأنظمة العربية القائمة من معضلة فهي بالضبط غياب التمييز داخلها بين التيارات الإصلاحية والمحافظة بل ضياع الإصلاحيين أنفسهم واختلاط وعيهم وخور إرادتهم تحت ضغط قوى العطالة التاريخية وغياب قوى الضغط المحلية الحقيقية.