المطلوب أوراق ضغط عربية لتغيير الموقف في واشنطن وتل أبيب

2004-10-03:: الجزيرة نت

 

عادت الدبلوماسية العالمية من جديد مع انتهاء القسم الأكبر من العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية إلى الحديث عن مبادرة الأمير عبدالله ولي العهد السعودي. وتصاعدت الآمال بعد فك الحصار عن مقر الرئيس الفلسطيني في رام الله وتوقع تحقيق تقدم مماثل في موضوع حصار كنيسة المهد في إمكانية الخروج من مرحلة المواجهة العنيفة نحو تجديد مفاوضات التسوية السياسية انطلاقا من المشاريع التي كانت قد توصلت إليها لجان المفاوضات السابقة وتأسيسا على مقررات الأمم المتحدة.
ويبدو أن العرب يشعرون بثقة أكبر اليوم في أن تقود المفاوضات الجديدة إلى نتائج أكثر إيجابية مما قادت إليه مفاوضات التسوية السابقة التي أعاد انهيارها الأوضاع إلى سابق عهدها وكشف عن استمرار حالة الاحتلال وتوسيع الاستيطان والاستعمار السافر وأدى إلى إشعال الانتفاضة الفلسطينية وفيما بعد إلى تسيير الحملة العسكرية الإسرائيلية التدميرية والانتقامية التي انتهت بمجزرة وحشية وجرائم ضد الإنسانية تسعى إسرائيل إلى التغطية عليها والهروب من استحقاقاتها بكل الوسائل.
وتذكرنا هذه العودة إلى مفاوضات السلام بالمفاوضات السابقة التي بدأت هي أيضا مع الكثير من التفاؤل وقامت على أسس بدت مقبولة من الجميع، وهي الأرض مقابل السلام وتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بعد السابع من يونيو/ حزيران 1967، ولكنها انتهت بإجهاض اتفاقات أوسلو التي وقعت على هامشها وكانت أدنى كثيرا منها وتحولت في ما بعد إلى غطاء لاستمرار الاستيطان والمساومات الرخيصة على كل شبر من الأرض يقدم للفلسطينيين كما لو كان منة أو هبة إسرائيلية استثنائية.
وبالعودة إلى طاولة المفاوضات يطرح على العالم العربي التحدي نفسه الذي طرح من قبل، وهو ما الوسائل الفعالة التي سيستخدمها العرب أو يمكن أن يستخدموها لتعزيز موقفهم في هذه المفاوضات أمام المفاوض الإسرائيلي لإجباره على الاستمرار في هذه المفاوضات بروح جدية من جهة ولفرض الموقف العربي وضمان تحقيق المصالح العربية فيها من جهة ثانية؟. فكما قيل عن حق حين نشرها وتصويت القمة العربية عليها, تعاني المبادرة العربية الجديدة للسلام كسابقاتها جميعا من عطب جوهري هو أنها لا تملك وسائل دعمها وآليات تحقيقها. ومن الواضح لكل من تتبع المفاوضات السياسية العربية الإسرائيلية السابقة أن العامل الوحيد الذي كان المفاوض العربي يعتمد عليه في مواجهة التعنت الإسرائيلي هو التدخل الأميركي. وقد لعب الضغط الأميركي دورا مهما ولا شك في دفع الإسرائيليين إلى القبول بالمفاوضات ومبادئ التسوية السياسية، لكن هذا الضغط عانى من علتين، الأولى أنه كان ضغطا متقلبا ومترددا بسبب الصداقة الأميركية الإسرائيلية الكبيرة، والثانية أنه ارتبط برغبة كل رئيس أميركي وقبوله الانخراط في العملية بجد لتحقيق مصالح خاصة شخصية إلى حد كبير.

فقد كانت الرغبة تحرك كلينتون في أن يخلد اسمه كصانع للسلام في الشرق الأوسط ليكسب تأييدا أوسع لدى الرأي العام الأميركي والدولي. ولكن الأمر مختلف تماما اليوم، فالإدارة الأميركية اليمينية المسيطرة الآن على مقاليد الأمور في واشنطن ليست مهتمة كثيرا بإيجاد تسوية سريعة في الشرق الأوسط ولا في أي منطقة أخرى في العالم بقدر ما هي مصممة على خوض حرب دائمة وشاملة ضد العالم كله لفرض قيادة أميركا ومصالحها وإملاء إرادتها. ولا يبدو الرئيس الأميركي الحالي مهتما كثيرا بالحصول على نياشين المجد كرجل سلام أو صانع سلام بقدر ما هو مهتم بأن يتماهى مع الرأي العام الأميركي اليميني في غطرسته الفارغة. ورغم أن واشنطن ستجد نفسها مضطرة لا محالة لدفع الأطراف نحو الدخول في مفاوضات سياسية جديدة فإنها لن تكون والحالة على ما هي عليه قادرة ولا راغبة في لعب دور نشط فيها، كما أن معرفتها بالعجرفة الإسرائيلية وصلافة رجال الحكم اليميني القائم سوف تردعها كذلك عن محاولة التدخل القوي للضغط على إسرائيل مما يجعل من السهل على تل أبيب جر العرب إلى مفاوضات أكثر سخرية من تلك التي خاضوها في الحقبة السابقة.

لا شك أن بالإمكان المراهنة على الرأي العام العالمي الذي أصبح أكثر وعيا بمأساة الشعب الفلسطيني بعد مجزرة جنين. كما أن من الممكن المراهنة على الأمم المتحدة التي تدفعها ظروف الحياة المأساوية للشعب الفلسطيني إلى الانخراط بشكل أقوى في ملف الشرق الأوسط، بيد أن كليهما, أوروبا والأمم المتحدة, ستجدان أنفسهما رهينتين للإرادة الأميركية ولن يكون لضغوطهما الصادقة من أجل تدعيم جهود التسوية السياسية الأثر الكبير الذي ينتظره العرب منهما. ما ينقص الجهود الدولية الراهنة من أجل الخروج من أزمة المواجهة العربية الفلسطينية الإسرائيلية هو محرك إقليمي عربي يضغط أو يستطيع أن يضغط باتجاه التوصل إلى تسوية تضمن تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
من دون هذا المحرك أو العامل العربي لن يكون هناك أمل بتراجع إسرائيل عن مكتسباتها أو ما تعتبره الآن ممتلكاتها وبالتالي أي فرصة لتحقيق تسوية حتى نصف عادلة. وللأسف رغم مرور ما يقارب السنتين على المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية لم تنجح المجموعة العربية في الإعداد لأي وضع يسمح لها بالتأثير بشكل أكبر على مجرى الأمور في المنطقة كما لو كانت المسألة لا تعنيها كثيرا بل لا تعنيها مطلقا, ولا يزال اعتمادنا مطلقا على عوامل الضغط الخارجية الأميركية أو الأوروبية أو الدولية.
ومع ذلك كان من الممكن بسهولة لو توفر الوعي وتوفرت الإرادة عند المسؤولين والأهلين العرب خلق ظروف تعزز بقوة الموقف العربي وتشعر الإدارة الأميركية بأن عدم التقدم إلى الأمام يمكن أن يترتب عليه خسائر كبيرة مادية وسياسية ومعنوية للمصالح الأميركية. على المستوى العسكري كان ولا يزال بإمكان وزراء الدفاع أو رؤساء الأركان العرب الحديث عن تعبئة جزئية ومناورات عربية مشتركة وتفعيل لاتفاقات الدفاع المشترك من دون المخاطرة بخوض أي حرب, وكان هذا الموقف سيفهم على أنه تهديد بتغيير الإستراتيجية العربية واتخاذ خيارات أكثر حزما في المستقبل. وعلى المستوى الدبلوماسي كان من الممكن الإعلان الجماعي العربي عن تخفيض مستوى العلاقات مع الحكومة الأميركية لإشعارها بأن الاستمرار في التنكر للحقوق العربية يمكن أن يدفع الأنظمة بالرغم منها إلى اتخاذ إجراءات للتخفيف من ضغط الرأي العام.

وعلى المستوى الاقتصادي كان بإمكانها البدء بالفعل بسحب جزء من الودائع وتقليص الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة وإلغاء عدد كبير من الصفقات وإظهار التوجه نحو مصادر أخرى للتموين والتسليح. كما كان من الممكن كذلك التفاهم على تخفيض جزئي وتدريجي لصادرات النفط. وعلى المستوى السياسي كان من الممكن ولا يزال تعزيز الحشد الوطني الداخلي بتضييق الهوة القائمة بين الحكومات والشعب وتعميق التعبئة القومية والوطنية، وذلك بتحرير معتقلي الرأي والانفتاح على المجتمعات وفتح الحقل السياسي والبدء بإصلاحات ديمقراطية تربط مصير الأنظمة بشكل أكبر بقبول رأيها العام وبالتالي تضعف من إمكانية تأثير الضغوط الخارجية ومنها الأميركية عليها.
لكن ما كان من الممكن لأي من هذه المبادرات والإجراءات الجريئة أن تمر من دون أن تكون جماعية تشارك فيها وتتفاهم حولها مجموعة من الدول العربية. وكان هذا التفاهم والتضامن العربي نفسه سيشكل وحده ورقة ضغط لا مثيل لها ليس على الإدارة الأميركية المؤيدة لإسرائيل فحسب، ولكن على إسرائيل نفسها وعلى الدول الأوروبية وجميع الدول الصناعية. وكان من الممكن أن ينشأ بموازاة المعركة البطولية التي خاضها ويخوضها المقاومون الفلسطينيون مناخ شبيه بالمناخ الذي عرفه العالم بعد حرب عام 1973 والذي رفع من قيمة العرب ووزنهم، وجعل الدول الصناعية جميعا تتقرب منهم وتخطب ودهم. ومثل هذه الإجراءات كانت ولا تزال ممكنة بأسلوب آخر على مستوى الممارسة الأهلية، فقد كان من المطلوب والمتوقع أن تقوم النقابات والمنظمات الأهلية بإعلان الإضراب الشامل في العالم العربي تأييدا للفلسطينيين واحتجاجا على العدوان الإسرائيلي والدعم الأميركي له.

وكان من المطلوب والمتوقع لنقابات العمال إعلان الإضراب عن شحن أو تفريغ البواخر والطائرات المحملة بالبضائع الأميركية في المرافئ والمطارات، ففي عام 1956 لعب قطع أنابيب التابلين من قبل الحركات الوطنية دورا كبيرا في الضغط على دول التحالف الثلاثي الذي استهدف قناة السويس وفي تعبئة الرأي العام العربي وحشده وراء الشعب المصري الذي تعرض لعدوان إسرائيلي بريطاني فرنسي سافر. وكان من المطلوب والمتوقع أن تقوم المنظمات الأهلية بجهود أكبر في الاتصال والتواصل مع المنظمات الأهلية الدولية لتعبئة الرأي العام العالمي وحشده خلف قضية الكفاح الفلسطيني العادل.
وكان من الممكن والمتوقع أن تجتمع الأحزاب العربية على مختلف اتجاهاتها ليس للتعبير عن تضامنها الجماعي مع الشعب الفلسطيني فحسب ولكن للتأكيد على أن معركة الفلسطينيين اليوم هي معركة العالم العربي برمته، وعلى استعداد هذا العالم عبر ممثليه للمشاركة السياسية على الأقل إن لم تكن المادية في الجهد اللازم لردع العدوان ووقف المشروع الإسرائيلي التوسعي والعنصري الاستيطاني. هناك بالتأكيد أموال كثيرة جمعت وتظاهرات كثيرة خرجت في شوارع العواصم العربية وعرائض عديدة وقعت من قبل مثقفين ومواطنين من مختلف الاتجاهات ومسيرات واعتصامات حصلت ولا تزال في المدن والقرى العربية الكثيرة لكنها كانت ولا تزال تحصل من دون تنسيق منفردة ومنفصلة واحدتها عن الأخرى أي من دون أن تكون تعبيرا عن تكون قوى عربية جديدة مستمرة ومنظمة عابرة للحدود وقادرة على فتح الآفاق الضرورية لبلورة رد ناجع على المشروع الإسرائيلي التي لم تستطع الحكومات أو ليس من مصلحتها أن تفتحها. والقصد أن نقول إن النتائج السياسية التي يمكن لطرف ما أن يحصل عليها مرتبطة بشكل أساسي بتغيير التوازنات وموازين القوى.
وإذا كان من الممكن تماما بسبب التقصير عن الواجب ألا تكون الحرب ولا التهديد بالحرب هو الوسيلة المثلى أو المتوفرة لتغيير توازنات القوى وفرض التغيير في الموقف فهناك وسائل كثيرة أخرى للضغط على الخصم غير الحرب. ووسائل الضغط هذه على إسرائيل ليست بالضرورة ولا ينبغي أن تكون أميركية تعتمد على حسن النوايا الأميركية وتراهن على اقتناع واشنطن أو إيمانها بعدالة القضية العربية ولكنها ينبغي أن تكون ومن الممكن أن تكون عربية. فنادرا ما تتقاطع السياسة مع الأخلاق وهي تتقاطع أقل في الولايات المتحدة منه في أي بلد صناعي آخر وتتقاطع أقل من ذلك بكثير في عهد اليمين الأميركي القومي المتطرف الحاكم اليوم منه في أي عهد آخر. فما لم تستند التغيرات في المواقف على ضغوط عربية مستمرة واحتمالات ممارسة ضغوط عربية مستمرة وبالتالي على تغير فعلي في موازين القوة فليس هناك ما يضمن تنفيذ أي وعد سياسي تقطعه أو يمكن أن تقطعه دولة أو فئة سياسية على نفسها تجاه دولة أو فئة أخرى.