المصلحة الأميركية في التغيير العربي

2003-08-27:: الاتحاد


هل تحمل السياسة الأميركية الجديدة بذور تغيير حقيقي في العالم العربي؟ هذا ما تحلم به أغلبية واسعة من الرأي العام العربي، رغم كل الاعتراضات الأخرى التي تضعها على السياسات الأميركية في فلسطين والعراق· وهو أيضا ما توحي وتعد به بيانات الإدارة الأميركية ومقالات كبار مسؤوليها من كولن باول إلى كوندوليزا رايس· حتى يكاد المرء يعتقد من متابعة المناقشات الدائرة داخل أوساط النخبة الأميركية السياسية والثقافية نفسها أن الولايات المتحدة قد اكتشفت للمرة الأولى أن هناك بالفعل مجتمعات عربية في الشرق الأوسط، وليس مجرد خيم وجمال وبدو وإرهابيين حمقى ومتعصبين يحاولون السيطرة على آبار النفط· وأنها أصبحت تعتقد أن لدى هذه المجتمعات مثقفين وأحزابا وقوى اجتماعية تستحق النظر إليها بل والحوار معها، حتى لو لم يصبح بعد من الممكن أخذ وجهات نظرها البدائية بالاعتبار· كما يمكن القول إنه لأول مرة يشعر المرء كما لو أن المسؤولين الأميركيين بدأوا يعتقدون، عن جد، بأن هذه المجتمعات ليست ذات طبيعة خاصة تدينها بالاستمرار في نظم حياتها وأنماط سلوكها وتفكيرها الدينية والقومية التقليدية والمغرقة في الخصوصية، وأنها تستطيع، ربما إذا قبلت بالوصاية الأميركية، الارتفاع في مستوى حياتها وتنظيماتها السياسية والمدنية إلى مستوى القيم والمبادئ الأخلاقية من ديمقراطية وحقوق إنسانية وتنمية بشرية·
لكن إذا لم نقبل بالوعود كوقائع محققة ولا التفكير الرغبوي الذي يسيطر على الرأي العام العربي المعطل والعاجز بالفعل عن الانجاز، لا يمكن أن يكون هناك رد على هذه المسألة الكبيرة من دون الإجابة، قبل ذلك، على سؤالين : هل للولايات المتحدة مصلحة في التغيير؟ ثم هل تستطيع الولايات المتحدة وهل لديها الوسائل الفعلية لإحداث هذا التغيير؟
ليس هناك شك عندي في أن الإدارة الأميركية، التي تحتفظ بمصالح حيوية لم تكف يوما عن التذكير بها في الشرق الأوسط، تشعر منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 على الأقل أن النظم العربية المشرقية التي رعت إنشاءها وساهمت في تعزيز سيطرتها وبقائها قد أصابها التعب وأنها لم تعد قادرة على حمل المسؤوليات التي كانت السبب في تقديم الدعم الشامل لها· ومن هذه المسؤوليات تحقيق الاستقرار والسلام الإقليميين والعالميين والرد، ولو جزئيا، على حاجات المجتمعات المحلية حتى يمكن ضمان الأمن والاستقرار فيها· فقد خسرت في معركة الأمن الداخلي ولا تزال العديد منها تواجه مقاومات مسلحة عنيفة، كما خسرت في معركة الاستقرار والسلام الإقليميين فلم تنجح في ضبط القوى والمنظمات الأهلية المكافحة ضد إسرائيل ولا قبلت بتسوية عربية إسرائيلية واقعية تضع حدا لمناخ المواجهة والعنف في المنطقة وتفتح الطريق أمام ما يبدو كحملة إخضاع وتهدئة شاملة لمجتمعات المنطقة وشعوبها· بل إن قسما من هذه الأنظمة المتضامنة في إطار الجامعة العربية لا تتورع هي نفسها عن دعم بعض منظمات المقاومة الارهابية وتشجع بالتالي على العنف وزعزعة الاستقرار الإقليمي والعالمي· وقد جاءت تقارير الأمم المتحدة التي أظهرت بالفعل الحجم الهائل لهدر الموارد والطاقة والفرص في المنطقة لتقدم للإدارة الأميركية حجة جديدة تبرر بها غضبها على هذه الأنظمة وحملتها الشعواء عليها· وهكذا أخذت هذه الإدارة ترسم للنظم العربية والنخب الحاكمة صورة سلبية تماما يقترن فيها الاستبداد والخديعة والنفاق وما يمثله من انعدام الصدقية مع الاخفاق الخطير في نمط الإدارة والتسيير وانعدام الشعور بالمسؤولية·
وتشعر الولايات المتحدة أنها في سباق مع الزمن في الشرق الأوسط أمام الحركة الاسلامية التي أصبحت ألد اعدائها بعد أن كانت حليفتها الرئيسية، وأن استمرار التدهور الراهن في الأوضاع لا يمكن إلا أن يقود إلى عودة الحركات الإسلامية إلى مقدمة الساحة السياسية الشرق أوسطية، إن لم يكن إلى السلطة في أكثر العواصم العربية· وفي مواجهة مثل هذا الخطر البارز، ومن أجل الإمساك المباشر بالأوضاع المشرقية وقطع الطريق على نشوء حالة تجد الولايات المتحدة نفسها فيها مضطرة إلى التخلي عن الكثير من مصالحها، بلورت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة ثلاثية الأركان: الحرب ضد الإرهاب، أي ضد الحركات الإسلامية التي تشكل الخطر الرئيسي على الاستقرار في المنطقة، ثم العودة إلى طريق التسوية السلمية للنزاع الاسرائيلي-الفلسطيني، وأخيرا السعي إلى إصلاح النظم القائمة· فبهذه الاستراتيجية الجديدة تأمل واشنطن في وضع حد لتدهور الوضع الشرق أوسطي وإزالة الاحتقان والتوتر ثم ربط الشرق الأوسط العربي بالاقتصاد الأميركي بحيث يمكن التغلب على مخاطر القطيعة المحتملة في المستقبل·
ليس هناك شك إذن في أن للولايات المتحدة مصلحة في إحداث تغيير ملموس في المنطقة حتى تقطع الطريق على أي بديل آخر يشكل تهديدا لمصالحها، سواء أكان بديلا ديمقراطيا أو بديلا إسلاميا· لكن ينبغي في نظري التحذير من وهمين كبيرين ارتبطا عند الرأي العام العربي بدخول الأميركيين القوي للساحة الشرق اوسطية منذ احتلال العراق· الوهم الأول أن الولايات المتحدة تنوي تغيير الأنظمة الراهنة لصالح أنظمة ديمقراطية، مما يعني أن مثل هذا التغيير يتماشى مع مصالحها الرئيسية· والوهم الثاني هو الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قادرة، إذا وجدت النية والإرادة، على تحقيق مثل هذا الهدف· إن ما تريده الولايات المتحدة هو بالتأكيد وضع حد للفساد المدمر في أنماط الحكم والإدارة الذي يهدد في العالم العربي بتفجير أزمة اجتماعية وبالتالي سياسية وعقائدية لا يمكن لأحد السيطرة عليها في المستقبل، مع تراكم عشرات ملايين العاطلين عن العمل وتدهور مستويات المعيشة والفراغ العقائدي والسياسي، مما يقدم فرصة كبيرة لمنظمات مثل منظمة القاعدة للتحول من منظمات صغيرة وسرية معزولة إلى منظمات لا تقهر مدعمة بجمهور واسع من المتعاطفين والمتعاونين والمتحمسين· وهو ما بدأت معالمه تظهر في عراق ما بعد صدام· ومن أجل تحقيق مثل هذا الهدف سوف تستخدم الولايات المتحدة جميع وسائل الضغط على النظم والنخب الحاكمة، العسكرية والسياسية والدبلوماسية، كما أنها ستستخدم وسائل الترغيب والدعم والمكافأة· لكن لا يعني التغير، في هذه المرحلة على الأقل، التبديل المنهجي أو المنظم للنخب الحاكمة أو تغيير الأنظمة كما قد يخطر للبعض· فليس لدى الولايات المتحدة كما رأينا، بديل واضح، أو هي لا ترى أن هناك بديلا لها بعد· وهذا يعني أن المنحى الرئيسي للاستراتيجية الأميركية لهذا الوقت هو التفاهم مع هذه النخب والتعامل معها بقصد تطويرها وتحديثها، أي تحسين مستوى أدائها ومساعدتها، ماليا وتقنيا وسياسيا، لتتغلب على بعض نقائصها وثغراتها لقاء ما يمكن أن تقدمه من تعاون فعال في تحقيق الأهداف الأميركية وضمان الهدوء والسلام والحيلولة دون انفجار عام·