العالم العربي في مهب الريح

2008-04-23:: الاتحاد

مثل العالم العربي اليوم كسفينة ضلت طريقها، تضربها العواصف وتتقاذفها الأمواج، في محيط بلا قرار. وفي كل لحظة تهدأ فيها العاصفة قليلا يسرع الأقوى من ركابها إلى إلقاء مراكب النجاة الصغيرة في البحر للهرب بأنفسهم، بينما لا تجد الغالبية من الركاب خيارا سوى الاستسلام للمصير المحتوم، والانشغال عن العاصفة بالتضرع إلى الله وطلب رحمته وغفرانه. أما داخل غرفة القيادة فالصراع على أشده بين فريق من الركاب، الذي انتدب نفسه لإنقاذ السفينة، وقبطانها الذي يصر على أنه هو وحده صاحب الحق بقيادتها، ولن يحيد عن االطريق التي اختارها، مهما عظمت المخاطر والتحديات. والنتيجة المنتظرة كارثة محققة للجميع، لن ينجو منها من هرب ولا من سلم أمره ولا من انتدب نفسها لانقاذها ولا قبطانها الأحمق أيضا.

والقصد أن السبب في ما وصلنا إليه هو ببساطة غياب القيادة، لا بمعنى وجود الزعيم الملهم والقائد الفذ الذي يفرض نفسه بالقوة ويجبر الجميع على اتباعه والسير وراءه، ولكن بالعكس، بمعنى وجود الرؤية الصائبة التي تتحدد فيها الأهداف والوسائل وخطة العمل وتحظى بقبول الشعوب وتأييدها، والمعرفة الصحيحة بمنطق التطورات والأحداث الجارية، والحكمة الضرورية لمواجهة النزاعات وحل التناقضات التي تخترق كل المجتمعات وإشراك الجميع في المسؤولية. ولا قيادة من دون رؤية توضح الاتجاه. ولا رؤية من دون معرفة سليمة وموضوعية بالوقائع والامكانيات والاحتياجات. بالمقابل، دفع تقاطع سلبي للحوادث والتطورات في العقود الماضية، إلى منصب القيادة، في معظم البلاد العربية، فئات ليس لها أي رؤية لما هو مطلوب لتحرير المجتمعات وانعتاقها وتقدمها، لا تحظى بالكثير من المعرفة، ولا تملك الخبرة، ومن باب أولى الحكمة النظرية والعملية اللازمة للتعامل مع المجتمعات المتصدعة وتوحيد إرادتها وجهودها، تحركها العواطف والضغائن والأحقاد اكثر مما تحفزها الأفكار، تفتقر لموهبة التواصل مع شعوبها، كما تفتقر للمقدرة على إدارة الدولة، بل على فهم منطق عملها والعمل المؤسسي بشكل عام. لا تشعر بالراحة والسعادة إلا في جو الزعامة الشخصية والولاءات العائلية أو العشائرية أو الزبائنية. هكذا حلت الأمزجة الشخصية وإرضاء الطموحات الفردية محل السياسات المنبثقة من العمل المنهجي والمنظم على بلورة مصالح الجماعة الوطنية وتعظيمها. وانتصرت أساليب التعبئة العصبوية (زعيم وأتباع) على أسلوب العمل المؤسسي المستند إلى الخبرة الصحيحة والمستقل عن الأشخاص وطموحاتهم وأمزجتهم الذاتية. وفي سياق نشوء هذا "النظام" الجديد، لن تزول الحاجة للمعرفة العقلية، أي النقدية، فحسب، ولكن سينظر إليها أكثر من ذلك على أنها نزعة تخريبية، بل خيانة وطنية لأنها تقوض الأسس التي تقوم عليها القيادة الملهمة، التي هي بالتعريف قيادة إستثنائية، لا تدرك بالعقل ولا تخضع لمعاييره وحساباته، بمقدار ما تستدعي الايمان والتصديق.

وفي السياق ذاته تنتفي الحاجة إلى إدارة مؤسسية، تستند إلى توزيع واضح للسلطات والصلاحيات، وترتبط بمبدا المسؤولية، وتتطلب الاحتكام إلى معايير ثابتة في المحاسبة والمساءلة السياسية والقانونية. فكل ذلك مما يهدد أسس الزعامة الإلهامية التي تميل إلى إنكار أي تراتبية فعلية تتوسط بين الزعيم الملهم وأتباعه، أو تفرض على الاتباع الخضوع لسلطات إضافية لا تنبثق منه مباشرة وفورا، أو حيازة مسؤوليات خاصة أو مستقلة، تقلل من صدقية السلطة الواحديه وتحد من وهجها وتنتقص من شمولها واستقلالها وإطلاقيتها. فهذه الأخيرة لا تعمل إلا إذا عمقت، لدى من تمارس عليهم، الشعور بأنها هي وحدها العقل والروح والحكمة الأبدية التي تحرك أناسا وأفراد لا يتخذون قيمتهم، ولا يحتلون مكانتهم، ولا يحققون دورهم، ولا يبلغون سعادتهم، إلا بمقدار ما يتخلون عن إرادتهم ويتحولون إلى أدوات، بل إلى مرايا جاهزة لالتقاط القبس الإلهي وعكسه على العالم. من دون ذلك ليس هناك نظام ولا وحدة ولا استقرار. ليس المقصود بالقيادة هنا القيادة السياسة التي تتألف من أصحاب المسؤولية العمومية والذين يحتلون مناصب الدولة الرئيسية فحسب، وإنما جميع القيادات الروحية والثقافية والإقتصادية والأهلية التي يتوقف عليها بث الاتساق والانتظام في الهيئة الاجتماعية، وتسيير شؤونها، وتغذيتها بالمعارف والأفكار النافعة، ومساعدتها على رسم الخطط والاستدلال على الطريق المؤدي للانجاز والتثمير والتنمية الانسانية. فلكل من هذه القيادات نصيبه في نشر الظلام، وتشويش الرؤية، وإضعاف مقدرة الأفراد على إدراك تحديات الحاضر والمستقبل، ومعرفة الأهداف الصحيحة وتجنب الاختيارات الخاطئة التي لا تقود إلى أي هدف. ولها جميعا مساهمتها الخاصة في تعميم مفهوم للزعامة والرئاسة والسلطة يتعارض تعارضا كليا مع تنمية روح الحرية والمسؤولية والمبادرة والمشاركة والتفكير المنظم والعمل الجماعي.

بالتأكيد، يقف في المقدمة منظومات السلطة السياسة وقيمها القرسطوية أو شبه السلطانية التي تحرم على الشعوب أي شكل من أشكال المشاركة أو المشاورة الشعبية أو النقاش أو النقد او الإصلاح، ويتلبسها الحمق والجنون لمجرد شعورها بأن هناك من ينافسها على القيادة أو يطمع فيها، مهما ضؤلت مقدراته وضعف أمله في تحقيق مثل هذا الهدف. لكن لا ينبغي لهذا أن يمنعنا من إدراك فساد منظومات الزعامة الأهلية، الدينية والمدنية، القائمة على العنترية التي تعوض عن الاستسلام الحقيقي للقوة والخضوع لها والانقياد لأصحابها وتغطي عليه في الوقت نفسه. ولا فساد منظومة النخبة الاجتماعية التي تدفع أصحاب المال والثروة والمجد والجاه، إلى التصرف كأرستقراطية أجنبية، لا يهمها مصير المجتمعات التي تعيش فيها إلا من حيث هي مصدر للعوائد والمنافع والثروات، وهي على استعداد للفرار والتخلي عن أي مسؤولية لدى أول شعور بوجود مخاطر عليها أو نقص في عوائد السيطرة أو تحديات غير منتظرة للنظام. ولا فساد منظومات المعارضة التي لا ترى في المقاومة للنظم القائمة سوى مناطحة على طريقة فرسان القرون الوسطى، تمتح من بحر الشجاعة والفروسية والعنجهية والتناحة الشخصية، بل المراهنة على ما تمثله الشعوب وتختزنه معا من قوة معنوية ومادية، وما يمكن أن ينتج عن العمل المنهجي على تنظيمها وتأهيلها بالحكمة والرأي السديد من إمكانيات واحتمالات.
هذا المزيج غير المدرك وغير المفكر فيه من الجشع والغرور وضيق الأفق واحتقار الرأي وانعدام الحكمة ونفاذ الصبر وغياب الثقة والخوف من الآخر، الذي يميز منظومة القيادة والسلطة، على جميع مستوياتها وفي كل ميادين ممارستها في مجتمعاتنا، هو المسؤول الحقيقي عن الضياع وغياب الرؤية والتخبط في تحديد الأهداف الصحيحة، وعن سيطرة الجهل بأحوال الأمم والمصائر التاريخية والعجز عن مواجهة تحدياتها. وهو في الوقت نفسه التعبير الأقسى عن الفقر الإنساني الذي تعاني منه مجتمعات تستثمر في العنف والحرب الداخلية والخارجية، وتنفق على الآلات العسكرية والأجهزة القمعية، أكثر بكثير مما تنفق على تأهيل أبنائها، وتمكينهم، بالمعرفة والحكمة والمثال الصالح، من أن يتصالحوا مع العالم المحيط بهم، ويكونوا أعضاء فاعلين، ايجاببين، منتجين ومبدعين، في حضارة عصرهم. وبالفعل، من دون علم ولا حكمة ولا فضائل أخلاقية كيف يمكن أن يقوم، على غير القوة والقهر، حكم أو نظام. وقديما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لها ولا سراة إذا جهالهم سادوا.