الشرق الأوسط ضحية التدخلات الأجنبية  

2003-08-17:: الوطن

 

بالرغم من الاستمرارية الملفتة التي شهدتها النظم العربية في الأربعين سنة الماضية والتي فاقت جميع النظم الأخرى في العالم، يظل عدم الاستقرار السمة الرئيسة التي تميز الوضع العربي والتي تفسر ضعف إنجاز المنطقة العربية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية وخاصة العلمية والتقنية. ويمكن معاينة هذا الانعدام المزمن والشامل للاستقرار من خلال تواصل التنافس العالمي على النفوذ في المنطقة وتعدد بؤر الصراع والنزاع الإقليمي وتفاقم الانقسامات الوطنية والعربية والاجتماعية داخل دولها وفيما بينها أيضا. ومن نتائج ذلك تنامي الخلافات بين أطرافها وتفاقم التوترات التي تهزها وتخترق دولها ومجتمعاتها ومن ثم زيادة فرص التدخل الخارجي وإخضاع المنطقة للاستراتيجيات الدولية وبالتالي حرمانها من الحد الأدنى من الاستقلالية التي تمكنها من التوصل إلى تفاهمات مستمرة بين أعضائها والقبول بتسويات معقولة للمشاكل العالقة وفيما وراء ذلك إقامة التعاون الذي لا مجال للتقدم من دونه في هذا المجال أو ذاك وبشكل خاص في مجال البحث والتجديد العلمي والتقني.
ليس لانعدام الاستقرار المزمن في المنطقة العربية مصدر واحد وحيد ولكن مصادر متعددة ومختلفة. وأول ما ينبغي الإشارة إليه في تحليل هذه المصادر الموقع الجيوسياسي المميز الذي احتلته المنطقة الشرق أوسطية في دائرة الحضارة القديمة وامتداداته في دائرة الحضارة الحديثة الأوروبية المنشأ. فمما لا شك فيه أن المنطقة قد شكلت منذ القديم ولا تزال تشكل مركز جذب وميدان تنافس دائم وبالتالي ساحة صراع وتنازع دولي تتجدد أسبابه وتتبدل ولكنها مستمرة بلا انقطاع. وإذا استثنينا فترات تاريخية محدودة، نستطيع أن نقول إن الشرق الأوسط ربما كان من المناطق النادرة في العالم التي تميزت بهذا النوع المزمن من التنافس والصراع على النفوذ ولا تزال معرضة بشكل قوي له. وكل الحضارة التي عرفتها كانت ثمرة هذا التجاذب المستمر بينها وبين الشعوب المجاورة التي نقلت إليها مكتسبات الحضارات الأخرى وجعلت منها مركز التوليف الحضاري الأشهر في العالم. لكن حركة التجاذب والتنافس الدولي على المنطقة هي التي كانت وراء الخراب المتكرر لحضارتها وازدهارها وتبديد فرص التراكم والتقدم المستمر فيها أيضا. فبقدر ما حولها الصراع العالمي عليها إلى منطقة تواصل فيما بين الحضارات زاد من شدة التنافس والصراع من أجل السيطرة عليها وعرضها للخراب في كل مرة كانت تتغير فيها موازين القوة الاستراتيجية الدولية والإقليمية.
ففي العصور القديمة كانت المنطقة هدف غزوات مستمرة من الشمال والشرق لم تتوقف إلا مع صعود نجم الإمبراطورية الرومانية التي وحدت المنطقة وطبعتها بطابع مشترك لقرون عديدة. لكن انقسام الإمبراطورية وتفككها قد أعاد جدلية النزاع حول المنطقة إلى ما كان عليه حتى قدوم الفتوح الإسلامية التي أعادت توحيد المنطقة من جديد عبر الولاء المشترك لعقيدة دينية واحدة. وقد فتح انقسام الإمبراطورية الإسلامية وضعفها الباب من جديد أمام الغزوات القادمة من الشرق التركي المنغولي ومن الشمال الأوروبي وأدخل المنطقة في دورة طويلة من التفكك وانعدام الاستقرار.
وفي القرون الوسطى كان التنافس على السيطرة على الأراضي المقدسة، وما كانت تشكله من رأسمال رمزي استثنائي يطمح إلى امتلاكه كل صاحب سلطة أو طموح كبير للسلطة الإمبراطورية، في الغرب وفي الشرق - سببا رئيسيا في تفجير الحروب الصليبية التي غطت بنزاعاتها وحروبها المتواصلة ما يقارب الأربعة قرون. ولم يمكن للخراب المادي والمعنوي الذي خلفته أن ينتهي وتزال آثاره أو قسم كبير منها إلا مع ظهور الدولة العثمانية التي أعادت توحيد المنطقة ونشرت السلام فيها لعدة قرون. لكن الثمن الذي اضطرت المجتمعات إلى دفعه لقاء هذا الاستقرار كان عاليا جدا بقدر ما كان قائما على الإخضاع العسكري والسيطرة البيروقراطية والعزلة الدولية. وقد تركت السياسات الاجتماعية المحافظة والحروب المستمرة التي خاضتها الدولة العثمانية أو اضطرت لخوضها للحفاظ على الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها في مرحلة توسعها المجتمعات العربية في حالة متقدمة من الجمود والاستنزاف المادي والمعنوي. ولم يأت القرن العشرون حتى كانت معظم هذه المجتمعات قد خضعت لسيطرة الدول الأوروبية الصاعدة.
وفي العصور الحديثة، وفي موازاة تقدم النهضة الاقتصادية والعلمية والتقنية الأوروبية وتفكك القوة العثمانية استعادت جدلية الصراع على الشرق الأوسط حيويتها. وقد بدأت الدول الأوروبية القوية منذ القرن الثامن عشر تحركاتها للسيطرة على بعض المواقع المتوسطية واحتلالها في سياق البحث عن المواد الأولية ثم التنافس على الأسواق الذي دشن لدورة الحروب الاستعمارية. وما كادت الحروب العثمانية التي أرهقت شعوب المنطقة تصل إلى نهايتها، وكان آخرها الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة الإمبراطورية، حتى بدأت موجة الحروب والنزاعات الوطنية الرامية إلى فرض الاستقلال وتحرير المنطقة من السيطرة الأجنبية خلال حقبة ما بين الحربين.
ولم ينحسر النظام الاستعماري في الشرق الأوسط من دون أن يخلق بؤرا جديدة للتوتر والنزاع الإقليمي بعيدة الأثر. وبالرغم من أن العرب اكتسبوا على ضوء الحروب الاستقلالية الكثير من مفاهيم وقيم العصر الحديث إلا أن الاستعمار الأوروبي للمنطقة العربية قد ترك محددات جيوسياسية وسياسية واجتماعية وثقافية لا تزال تضغط بعواقبها السلبية على المنطقة وتحد من قدراتها على تمثل الحداثة والتعاون فيما بينها والاندماج. ومن أهم هذه العواقب وأعمقها أثرا من دون شك الخلل البنيوي في تركيبتها الجيوسياسية الناجم عن تفتيت المنطقة وما فرضه هذا التفتيت من مشكلات.
ولا شك أن هذه الجغرافية المصطنعة التي حكمت اتجاه وشكل تطور النظم المجتمعية في المنطقة بعد الاستقلال هي المصدر الأهم لانعدام الاستقرار الذي عرفته المنطقة. ومهما كان الدافع لذلك، وهو مختلف بين دولة وأخرى، ولو ارتبط جميعه بالصراع على النفوذ الدولي وحماية المصالح الخاصة بالإمبراطوريات الكبيرة، عملت أطماع الدول الأوروبية ونزاعاتها الخاصة على التشجيع على تقسيم المنطقة إلى مجموعة كبيرة من الدول الصغيرة بشكل اعتباطي يستجيب لحاجات ضمان النفوذ الأوروبي بعد زوال الاحتلال أكثر مما يرد على حاجات التميز في شروط حياة السكان أو في هويتهم الوطنية أو في مصالحهم أو أكثر مما يعكس رغباتهم.

وقد كان لهذا التقسيم الذي يتجاوز اتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة التي تشكل جزءا منه الدور الأول في تغذية التوتر والنزاع الإقليميين بما وسم به تلك الدول من الضعف الهيكلي وما بعث في ما بينها من تنافس على امتلاك الرساميل الرمزية المشتركة وعلى كسب الرأي العام العربي الواحد ومن رغبات متناقضة في تغيير الحدود أو تجاوزها أو تعيينها. وهو الذي يفسر جميع الحروب العربية العربية تلك النابعة من خيارات قومية وقطرية متعارضة أو تلك المتعلقة بتصحيح الحدود التي نشبت بين عدد من الدول الخليجية كالسعودية واليمن وقطر والبحرين وبين الجزائر والمغرب في بداية الستينيات وفي ما بعد بين العراق والكويت وبين مصر والسودان.
لكن ما هو أهم من ذلك إن هذا الترتيب الجيوسياسي غير المتفق مع حقائق مجتمعات المنطقة ولا مصالح تنميتها الاقتصادية والاجتماعية كان مناسبة ملائمة أيضا لتنصيب زعامات على البلاد الصغيرة التابعة مفروضة بوسائل ملتوية وأحيانا بالقوة المحضة. وحيثما كان ذلك ممكنا، أي في معظم الحالات, وقع اختيار السلطات الاستعمارية على جماعات تنتمي إلى أكثر فئات السكان هامشية أو افتقارا إلى ثقافة الدولة ومفاهيم السياسة الوطنية لتسلمها مقاليد الأمور في الدول الضعيفة الجديدة. وهكذا سيطرت على الحكم في أكثر هذه الدول نخب وجماعات نظرت إلى الأقطار والمجتمعات التي خضعت أو أخضعت لها كما لو كانت ملكية إقطاعية خاصة بها وتعاملت مع مواردها وكأنها موارد شخصية يتصرف بها الحاكم وحاشيته كما يشاؤون. ومنذ البداية استبعدت في عدد من الدول المستقلة فكرة انتخاب القيادة السياسية واعتبرت الديمقراطية نموذجا غريبا وغير ملائم لثقافة الشعوب العربية. أما في البلدان التي نجحت فيها النخب الوطنية الممثلة للطبقات الوسطى الحديثة الناشئة في فرض نفسها وقيادة الحركة الوطنية الاستقلالية فقد كانت الشروط الجيوسياسية والاقتصادية لضمان الأمن والازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي ضعيفة فيها لدرجة لم تجد النخب الحاكمة فيها مهربا من الاختيار بين التفاهم من جديد مع دول الحماية السابقة لضمان بقائها في الحكم أو التسليم بسرعة للقوى العسكرية التي بقيت معظم قياداتها موالية إلى حد كبير للدول المستعمرة السابقة أو السقوط ضحية الانقلابات العسكرية. وقد نجحت هذه الانقلابات التي عمت معظم الدول العربية الفقيرة وغير المتوازنة في وضع حد نهائي لمحاولات بناء ديمقرطيات محلية ودفعت المنطقة إلى نفق النظم العسكرية البيرقراطية الاستبدادية التي ألغت كل شكل من أشكال الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية السليمة.
وما كان من الممكن لهذا الوضع الناشز الذي يخضع سياسات المنطقة لمصالح الدول المستعمرة السابقة، بالرغم من زوال الاستعمار المادي، أن يستمر طويلا. ولن تمر سنوات قليلة قبل أن تتعرف المنطقة التي قضت النصف الأول من القرن العشرين في حروب الاستقلال على نمط جديد من الحروب والنزاعات الداخلية هو نمط الصراعات الاجتماعية والوطنية والقومية معا. ففي مواجهة النخب التقليدية شبه الإقطاعية والتابعة سوف تصعد وتتطور تيارات المعارضة الوطنية والقومية والاشتراكية في البلاد العربية الرئيسة. وكان هذا مصدرا ثانيا لتغذية حالة عدم الاستقرار. ومما سيقوي من حدة هذه الصراعات الاجتماعية السياسية العقائدية مناخ الحرب الباردة الأطلسية السوفييتية الذي سيقدم للنخب والتيارات والحركات المتنازعة غطاء عقائديا ولوجستيا واستراتيجيا معا.
وفي سياق الحرب الباردة سيترسخ النزاع داخل مجتمعات المنطقة ويستمر من دون أن يكون لدى أي من النخب المتنازعة القدرة على الحسم. لكن العامل الذي ضاعف من عدم الاستقرار هو ما نجم عن هذه الصراعات الاجتماعية والسياسية والعقائدية التي تجاوزت حدود الأقطار منفردة من استقطاب عمَّ المنطقة بأكملها بين أنظمة سمت نفسها تقدمية تدين بالولاء للكتلة السوفيتية أو تحتمي بها وأنظمة اختارت أن تكون محافظة ويمينية تستمد قوتها وحمايتها وعوامل استمرارها من الدعم المباشر للدول الأطلسية وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل أفضل مثال لزعزعة الاستقرار وتغذية ديناميكيات الانقسام والتفتت في المنطقة العربية في سياق الحرب الباردة تلك الحروب التي وضعت الجيوش العربية في مواجهة بعضها البعض.
هكذا أدت الاستقلالات المغشوشة وغير الناجزة التي فرضت فيها زعامات ونخب غير منتخبة وأحيانا لا شرعية إلى ثورات وانقلابات وتفجرات داخلية عنيفة أسفرت عن قيام أنظمة عسكرية وبيرقراطية وطنية أو قومية أجهزت على كل أمل في العودة إلى نمط ديمقراطي مقبول للحكم. وفي موازاة ذلك عملت الصراعات بين الأنظمة العسكرية الجديدة ذات التوجهات السوفييتية والأنظمة التقليدية المحافظة على تعميق الاستقطاب الإقليمي وعززت من فرص النفوذ الخارجي في الأقطار العربية جميعا. وكانت النتيجة حرمان المنطقة من أي استقلالية استراتيجية أو جيوسياسية واستسلامها لتلاعبات الدول الخارجية المتنافسة على كسب مواقع النفوذ فيها وعلى مواردها الرئيسة.
إن ثمن الخضوع لأنظمة مفروضة بالقوة ومفتقرة للشرعية لم يظهر في أي حقبة مرتفعا كما يظهر عليه اليوم. فهو لا يتجلى عبر الاستخدام الموسع من قبل النخب الحاكمة لوسائل القمع وتقييد الحريات بهدف قطع الطريق على أي تعاون أو تفاعل بين الأفراد وبين الشعوب في ما وراء الحدود السياسية فحسب، ولا يبرز من خلال الخوف المتبادل الذي يميز العلاقات بين الدول العربية ولكن أكثر من ذلك عبر العجز الكامل عن إنشاء أي علاقات تعاون وتكامل بين الأقطار العربية سواء أكان ذلك في ميدان المعرفة أو في أي ميدان آخر. وكم من مشروعات التنمية المعرفية العلمية والتقنية ومن المشروعات الصناعية انهارت بسبب عدم وصول الدول العربية المعنية إلى اتفاق أو تفاهم حول تحديد بلد المقر وذلك لأن مشروعات التعاون نفسها لم تكن إلا وسيلة دعاية للنظم لا مشروعات للعمل الجدي المنتج والفعال كل نظام يسعى بفرض مقر مشاريع التعاون في عاصمته أن يستفيد وحده من ريعها الإعلامي والدعائي كي يزيد من مشروعية وجوده ولا يهمه كثيرا ضمان مشروعية الأنظمة الأخرى. بل ربما كان كل نظام يعتقد أن استقرار النظام المجاور يشكل تهديدا لاستقراره هو ويستدعي التدخل والرد بوسيلة أو أخرى. وهو ما قاد إلى عدد من النزاعات العربية العربية التي لا يزال قسم كبير منها مستمرا حتى اليوم.