السياسة الأميركية بين درء الإرهاب وصب الزيت عليه

2003-02-18:: الاتحاد


يتساءل الرأي العام العربي والعالمي عما إذا كانت هناك بعد إرادة مستقلة أو شبه مستقلة فاعلة أو قادرة على الفعل ورد الفعل في المنطقة العربية· ويظهر للمراقب الخارجي مع تفاقم الصراع والتنافس بين التكتلات الدولية الكبرى على تحديد السياسات الإقليمية كم يبدو مصير المنطقة وشعوبها معلقا أكثر فأكثر بأيدي القوى والمصالح الاجنبية· ويكاد الاعتقاد بأن أهل المنطقة غير قادرين بل غير أهل لتقرير شؤونهم بأنفسهم والتوصل إلى حلول لمشكلاتهم المحلية يتحول إلى نظرية نهائية توجه سلوك الدبلوماسية الدولية وتبرر القبول بمبادرات خارجية لا يمكن أو من الصعب القبول بها في مناطق أخرى من العالم· فبعد محاولات مخفقة لإيجاد تسوية للحرب العربية الاسرائيلية تضمن المصالح الإسرائيلية أطلقت الإدارة الأميركية القائمة يد اسرائيل في إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني وملحقاته اللبنانية والسورية بما يناسبها ويضمن لها الأمن والسلام والتوسع الجغرافي من دون اتفاق·

وبعد أن حطمت قوات التحالف الدولي في التسعينيات البنيات التحتية للدولة وللمجتمع العراقيين تعود اليوم إلى مقدمة جدول الأعمال الأميركية مسألة تغيير النظام العراقي ووضع نظام بديل يكون منسجما أكثر مع المصالح الأميركية-الإسرائيلية· وهي تتردد كما يبدو بين نظام قائم على تحالف بعض قوى المعارضة أو على حكم عسكري أميركي مباشر· وبعد أن عبرت الإدارة الاميركية أكثر من مرة عن مطالبها في تغيير البرامج التعليمية بل إغلاق المدارس الدينية ورفع مستوى التعاون الأمني مع الدول العربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خطت خطوة أكبر فأعلنت على لسان وزير خارجيتها كولن باول خطة للتدخل في الشؤون الداخلية العربية أسمتها مبادرة واشنطن لتحقيق الديمقراطية والقضاء على البطالة والارتقاء بالمرأة في البلاد العربية·
ولم يقتصر هذا التهديد بالتدخل والتدخل العلني والضغط المستمر على الحكومات العربية وحدها ولكنه مس ولا يزال يمس فئات كبيرة من الأفراد العرب سواء أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة والذين يتعرضون لأشكال متعددة ومتجددة من التمييز وفي مقدمها تسجيل أنفسهم في مكاتب السلطات الأمنية أو وضع بصماتهم في سجلات خاصة· أما الطلبة منهم فهم يتعرضون إلى سياسة تمييز علمية رسمية ويمنعون من متابعة دروسهم في أي ميدان من ميادين التحصيل العلمي الدقيق بذريعة خطر استغلالهم لتكوينهم العلمي في أعمال إرهابية· فهم يعتبرون على عكس غيرهم من أترابهم مفتقدين للضمير الأخلاقي الذي يؤهلهم لاتباع سلوك قويم وبالتالي فمن الممكن أن يتحولوا بمجرد تأهيلهم العلمي أو التقني إلى مجرمين ويستغلون علومهم لخدمة العنف والإرهاب· وإذا أضفنا إلى ذلك كله استعراض القوة والإعداد العلني والرسمي للحرب ضد بغداد وتأكيد الإدارة الأميركية اليومي إصرارها على خوض الحرب ضد العراق سواء حصلت على تفويض من الأمم المتحدة أم لم تحصل عليه، وضربها عرض الحائط جميع المبادرات السياسية الدولية للتأكد من نزع سلاح العراق وتجنب الحرب، أصبح من الممكن فهم مدى ما وصل إليه انعدام الثقة عند الجمهور العربي في إدارة أميركية يشعر أنها صممت على إخضاع العرب ونزع سلاحهم وإجبارهم على الاستسلام من دون أن يدخلوا الحرب أو حتى أن يعلنوها·

ولا يمكن تفسير موقف واشنطن هذا إلا بفرضيتين· الفرضية الأولى أنها لا تراهم أصلا ولا يشكلون بالنسبة إليها بشرا ولا مجتمعات تستحق الاحترام ورعاية الحقوق والمعاملة على أسس قانونية وأخلاقية، وكل ما تراه في المنطقة هو نفط وإسرائيليون يحمون آبار النفط أو يمكن أن يحموها من غزوات البدو الهمجيين المحتملة· وفي هذه الحالة يكون العالم العربي كله قد تحول إلى ما تحولت إليه فلسطين في نظر الصهيونية التاريخية أي إلى أرض بلا شعب لشعب بلا أرض أو هنا إلى نفط بلا وطن لوطن أميركي بلا نفط· والفرضية الثانية هي أن الولايات المتحدة التي هزتها أحداث 11 سبتمبر الأليمة تحمل العرب جميعا مسؤولية الحرب التي شنها فريق القاعدة على العاصمة الأميركية وتعتبر هذا الفريق، وهو ما يتجلى في العديد من التصريحات الأميركية الرسمية، الممثل الشرعي والوحيد للشعوب العربية والناطق باسمها والضارب بسيفها· وفي هذه الحالة فهي تعتقد أن ضرب بن لادن وجماعته وكل ما يمكن أن تتعرض له الولايات المتحدة من حركات إرهابية يمر عبر ضرب الشعوب العربية وإخضاعها ولا يمكن أن يتحقق إلا بتدمير المجتمعات التي أنتجته وتحطيمها· وعلى الأغلب تستمد السياسة الأميركية الشرق أوسطية وتجاه العرب قوتها من الجمع بين الفرضيتين· فالعرب في نظرها مسؤولون عن الإرهاب بسبب ثقافتهم واعتقاداتهم الدينية وهم يعتبرون نتيجة ذلك خارج المجموعة الانسانية وأعداء لها وبالتالي فلا شيء يبرر احترام حقوقهم ولا تطبيق القانون السياسي أو الأخلاقي عليهم· إن ضربهم وتشريدهم وكسر أذرعهم وسيقانهم على الطريقة الاسرائيلية المعروفة لإقعادهم وتكويمهم هو الطريق الوحيد لإنقاذ البشرية من شرورهم·
وإذا كان هذا التفكير هو السائد، وهو السائد بالفعل على الأغلب في العديد من الأوساط الأميركية الرسمية الحاكمة، فإن واشنطن تكون قد نجحت في قلب المعادلة بصورة نهائية وجذرية لتجعل من الشعوب البريئة أداة إرهابية ينبغي كسرها بينما يتحول فريق القاعدة وأمثاله إلى خصم لا يمكن الوصول إليه ولا مواجهته مباشرة وتصويره كما لو كان مساويا بالقوة للولايات المتحدة الأميركية ذاتها· ولا يمكن لمثل هذه الممارسة إلا أن تزيد من مصداقية خطاب بن لادن نفسه وتدفع قطاعات واسعة من الرأي العام العربي المكوي بنار العنف الأميركي والإسرائيلي اليومي، المادي والمعنوي معا، إلى الاعتقاد المتزايد بأن بن لادن وفريقه هم الأقوى والأكثر قدرة على مواجهة الغطرسة الأميركية وأن أسلوب الإرهاب الأهلي هو الرد الوحيد الممكن على إرهاب الدولة الذي لا كابح له ولا حدود· إن سياسة الولايات المتحدة التي لا تفرق بين البريء والخاطئ لا تدرأ الإرهاب ولا تفيد في ردعه بقدر ما تصب الزيت على النار التي يشعلها وتهدد بالتالي بتوسيع دائرته ونطاقه وربما جعله بالفعل خصمها التاريخي الحقيقي·