السنة العاشرة للثورة أو البحث عن السلام المفقود

2020-03-16:: العربي الجديد

من الصحيح، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، أن استمرار الشعب السوري، ممثلا بفصائل المعارضة المسلحة والسياسية والمثقفة، في خوض معركةٍ غير متوازنة أكثر من تسع سنوات، يشكل وحده عبرة لمن يعتقد أن المسألة حسمت، وإنجازا بطوليا في مواجهة نظام غدر بشعبه عندما وضع مصيره في يد قوى كبرى، تنتظر الفرصة منذ عقود، وبعضها منذ قرون، للحصول على موطئ قدم على الضفة الشرقية للمتوسط، ووضع اليد على الفريسة السورية. ولعل هذا الإنجاز يزداد قيمةً عندما نضعه في سياقه التاريخي، من الافتقار للتضامن الدولي والتشتت والانقسام الفكري والسياسي لأحزاب المعارضة، والظروف القاسية التي واجهت السوريين في سعيهم إلى الخروج من نفق العبودية الذي أراد نظام الأسد أن يدفنهم أحياء فيه إلى الأبد.
ولكن من الصحيح أيضا أن ثمن هذه المقاومة البطولية للهمجية والانتصار على الضعف والخوف الإنسانيين معا، كان باهظا جدا، دفعه السوريون من أرواح مئات الألوف من أبنائهم وبناتهم، واقتلاع الملايين منهم من منازلهم وأحيائهم وقراهم ومدنهم ورميهم في المجهول، مع حرمان ملايين الأطفال من الحد الأدنى من التعليم والتأهيل في مواجهة تحدّيات مستقبل غامض، وإلحاق الدمار بالعمران البشري، الاقتصادي والسياسي والمدني معا. ومما لا شك فيه أن أخطر ما فقده السوريون، في هذه المحنة الطويلة، وحدة إرادتهم وضياع قرارهم المستقل، واضطرارهم إلى تسليم أمورهم إلى حلفائهم أو/ وأكثر فأكثر إلى مستخدميهم. وارتهان معارضاتهم، بمسمياتها المختلفة، ومؤسساتها، وأشخاصها، إلى أجندات وأولويات القوى التي تتنازع على الحلول محلهم في حكم بلادهم واقتسام مصالحهم الوطنية.
ينطبق هذا الوضع على ما يسمى النظام والمعارضة معا، فلا يوجد أي شك في أن النظام المافيوي قد نجح في أن ينفذ تهديده: الأسد أو نحرق البلد. بل ذهب، في ذلك، إلى أبعد مما كان من الممكن لأكبر المتشائمين تخيّله، فدمّر مؤسساته ووزّع موارده على حماته من الدول التي جاءت لنجدته، حتى تحوّلت أراضيه إلى حقل منذور للحروب الإقليمية والمواجهات الدولية، مزروع بمئات القواعد العسكرية ونقاط المراقبة الأجنبية، وإلى ميدان تدريب واختبار للجنود وللأسلحة الجديدة الروسية والإيرانية والإسرائيلية والأميركية. لكنه خسر مقابل ذلك ملكه وتحوّل، بأشخاصه ومؤسساته، إلى قناة لسلطة احتلال متعدّد الأطراف، ودليل مليشياتها، وتغطية قانونية لانتهاكاتها الشاملة حقوق السوريين وسيادتهم.
ولكن النتيجة الأبرز لهذا النصر الملتبس كانت أسوأ من هزيمة، بمقدار ما عنى استمرار الحرب ومآسيها في كل مكان، تحت سيطرة النظام وفصائل المعارضة سواء، بالإضافة إلى تحوّلها إلى حرب بالوكالة، وقودها السوريون ومستقبل أجيالهم ووطنهم، ومخرجاتها تعميق الشرخ فيما بين جماعاتهم حتى أصبح من المشروع التساؤل، كما يفعل كثيرون، فيم
إذا كان لا يزال لدى السوريين ما يكفي من الثقة للعودة إلى العيش المشترك، بل والحديث عن وطن واحد قادر على احتضان جميع أبنائه، بينما لا تكفّ معالم الانقسام والتقسيم عن الانغماس عميقا في القلوب والمشاعر والتطلعات قبل أن تتجسد في الواقع وتفصل بين مناطق وعوالم تنكر بعضها بعضاً، وترفض أن ترى الواقع والحاضر والمستقبل إلا من خلال ما تعيشه من مخاوف وتتغذى به من أوهام.
ومع ذلك، لم يفقد السوريون الأمل أبدا، حتى في مخيمات التشرّد والمنافي والعراء، لا يزالون مؤمنين بأنهم لم يقولوا كلمتهم الأخيرة، وإنهم على الرغم من التدخلات الأجنبية المستمرة هم وحدهم الذين سيصنعون في النهاية قدرهم. وبدل أن ينتظروا التشجيع من قادتهم، يبادرون هم أنفسهم إلى تشجيع من شبّه لهم أو من ظهرت عليه في هذا الوقت أو ذاك علامات القيادة والشجاعة، ويدعونهم إلى أخذ المبادرة. بينما يكاد الشعور بالعجز لا يترك لعناصر النخب السياسية سوى اليأس والإحباط.
وفي النهاية، يمكن القول، باختصار، بعد تسع سنوات من الثورة التي أريد لها أن تتحول، وقد تحوّلت بالفعل، إلى حربٍ دولية وأهلية معا، يدفع ثمنها السوريون من مختلف الاتجاهات، لكن على أرضية الصراعات والأجندات الدولية، أن كلينا ربح رهانه وانتصر على أخوانه، لكننا خسرنا جميعا وطنا وسلاما وأمنا وربما مستقبلا. والتحدّي الذي نواجهه الآن هو امتلاك الشجاعة لوضع حد لهدر الأرواح والموارد، والبحث عن الحلول الناجعة لتجاوز أسباب الانزلاق نحو الحرب، والرهان على وعي جميع السوريين وقدرتهم على التسامي على آلامهم والتضحية من أجل مستقبل أبنائهم، لإرساء أسس التفاهم والمبادئ التي ستقوم عليها سورية الجديدة، بعيدا عن التمييز والظلم والاستبداد والاستقواء بالأجنبي، فلم يعد من الممكن اليوم تحقيق الديمقراطية، ولا القضاء على الديكتاتورية وإزالة الظلم الواقع على الجماعات الدينية أو القومية أو القبلية، من دون استرجاع السوريين حقهم الأول في ملكية وطنهم الذي يكاد يسرق منهم، إن لم يحصل بعد. فقد أصبح من الواضح، في نظري، أن ما يجري في سورية منذ تسع سنوات هو عملية سطو مسلح لعصابة من الدول على شعبٍ ممزق، لطرده من وطنه وانتزاع أرضه، وإحلال شعب أو شعوب وجماعات غريبة مكانه، واستخدامه، موقعا وطوائف وبشرا، أدوات في خدمة المشاريع الجيوستراتيجية لهذه الدول، وكل ذلك بموافقة السلطة العائلية القائمة وتعاونها، سواء كان هذا التعاون عن جهل وحمق أو بسبب رغبة بدائية لا ترتوي في الانتقام. لذلك لا أحد يشكّ اليوم في أن هذا التدخل والتوطن العسكري والبشري المتوسع في الأرض السورية لا يحصل إرضاءً لسلطة شاذّة، يعترف الجميع بسفاهتها وفسادها ومحدودية تفكيرها. إنه يعني بالعكس، إنهاء الوكالة الحصرية التي تمتعت بها عائلة الأسد لإدارة أحد أهم المواقع الجيوستراتيجية شرق المتوسط، بسلطاتٍ استثنائية، ولخمسة عقود، لقاء ضمانها إخضاع الشعب السوري وتحييده في معادلة القوة الإقليمية. كما يعني وضع سورية منذ الآن تحت الإدارة المباشرة للدول التي شاركت في استعادته من بين أيدي الشعب الثائر، تتقاسم ريعه فيما بينها، وتتنازع عليه في الوقت نفسه.
والسؤال: هل لا يزال هناك أمل في رأب الصدع، والتغلب على مشاعر الحقد والضغينة والكراهية التي أنتجتها سنوات، بل عقود طويلة من العنف والاستئثار بالحكم وسوء استخدام السلطة؟ وما هي احتمالات وفرص عودة السوريين، من مختلف المشارب الفكرية والسياسية والدينية، إلى منطق التعاون والتكاتف في سبيل الهدف الأسمى المتمثل باسترجاع حقوقهم الجماعية، كما فعلوا في مواجهة الاحتلال الأجنبي في النصف الأول من القرن الماضي؟ وقبل ذلك هل تستطيع نخبهم العاملة في السياسة، والطامحة إلى قيادة المرحلة المقبلة، بما تضمه من جيل المعارضة القديم وجيل الناشطين الجديد الذي ولد من رحم الثورة، وفي معاركها وأهوالها، أن تتجاوز خلافاتها وتوحد إرادتها وجهودها للسير بالشعب والبلاد إلى بر الخلاص، بعيدا عن الانشغالات والمعارك الصغيرة التي تشتت وعيها وتفتت جهودها وتهدر طاقاتها؟ كيف أو ما هو الطريق إلى ذلك؟
هذه هي الأسئلة الرئيسية المطروحة اليوم على السوريين من كل المواقع والانتماءات والتطلعات، والتي تشكل الإجابة الناجعة عنها مفتاح المستقبل السوري، وأوراق الاعتماد في يد الطامحين إلى تبوّؤ مركز القيادة الوطنية التي يتطلع لولادتها أكثر السوريين، على جميع مستوياتها الفكرية أو السياسية أو العسكرية. كما تشكل المدخل إلى حل أو مواجهة مشكلة الاحتلالات الأجنبية، ومن ثم تحقيق التغيير السياسي والانتقال من نظام التعسف وسلطة الأمر الواقع إلى نظام سياسي يعكس إرادة السوريين، ويستجيب لتطلعاتهم، التي لا تختلف عن تطلعات شعوب العالم كافة اليوم.
2
بالتأكيد، لن يكون من السهل على جمهور فقد أو كاد لغة التواصل بين جماعاته، الطائفية والقومية والثقافية، أن يحرّر ذاكرته من صور الغدر والخيانة التي رافقت مسيرة الحرب الطويلة الماضية، ويفتح صفحةً جديدة في تاريخ مشترك لا توجد بعد إشارات قوية على إمكان كتابته. هذا على الأقل ما تشير إليه تعليقات وردود وحوارات كثيرة يتداولها السوريون على وسائل التواصل الاجتماعي، كما تؤكد معظم التحليلات والنقاشات التي تدور بين أوساط النخبة السورية، والتي تكاد تجمع على أنه لم يعد لسورية، بعد المقتلة الكبرى التي عرفتها في السنوات الماضية، أي مستقبل مشترك على الأغلب، وربما انتهت إلى الأبد.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نخلط بين خطاب الحرب ومنطقها، ونحن اليوم في أسفل مراحل الحرب وأكثرها مشقّة وشقاء، مع خطاب حالة السلام ومنطقه. ولا يشك أحد بأن الميل إلى السعادة والتعلق بالحياة يظل الأقوى عند المجتمعات، وبشكل خاص تلك التي تعرّضت لمعاناة قاسية واستثنائية، بما في ذلك حرب الإبادة الجماعية.
وهذا الميل الطبيعي هو الذي يفسّر همود مشاعر النقمة والانتقام سريعا بعد وقف الأعمال العدوانية، والنزوع إلى التحرّر من العواطف السلبية والتقاليد المحافظة، وذلك ببساطةٍ لأن قيمة الحياة تظهر على حقيقتها، وبشكل أقوى بعد انتهاء الحروب التي تزهق فيها أرواح كثيرة، ويصل فيها الشقاء إلى مستوياتٍ غير محتملة. وليس هناك سوى الأمل في حياة جديدة ما يحرّر الأفراد الذين سكن القلق والرعب والجوع قلوبهم سنوات، ما يعيدهم إلى الواقع، ويشعرهم بوجودهم وقيمتهم. ولهذا غالبا ما يظهر الضحايا أكثر استعدادا لأن يغفروا لجلاديهم بعد نهاية الحروب من أولئك الذين لم يشاركوا فيها، فكثيرا ما يحول هؤلاء، لسبب أو آخر، معاناة الضحايا إلى رأسمالٍ يوظفونه في خدمة مآربهم السياسية، وأحيانا الاقتصادية، عندما يطالبون بتعويضاتٍ أو منافع أو امتيازات يستفيدون منها خاصة.
والأمثلة على تفوّق روح التسامح لدى الضحايا على مشاعر الحقد ونداءات الانتقام، من دون أن يعني ذلك الانتصار دائما عليها، كثيرة. وأقواها وأكثرها مغزى نهاية النظام العنصري الذي سيطر على جنوب أفريقيا قرونا عديدة، فالأفارقة الذين مارست عليهم الأقلية البيضاء شتى أنواع العنف لتقضي على مقاومتهم وتحويلهم إلى عبيد يخدمونها لم يتردّدوا في إظهار تسامحهم مع جلاديهم، حالما قبل العنصريون البيض تفكيك نظامهم العنصري والعيش بسلام في دولة جنوب أفريقية ديمقراطية تساوي بين جميع أبنائها. لم يقل أحدٌ عن هؤلاء السود أنهم نسوا عذابات أجدادهم وآبائهم وإخوانهم الذين حرموا مئات السنين من المعاملة الإنسانية، ولا أنهم فقدوا كبرياءهم وكرامتهم، وقبلوا بالتخلي عن حقهم في الانتقام، بل بالعكس من ذلك تماما. لقد نظرت الشعوب جميعا، بما فيهم جلادوهم العنصريون، إلى تغاضيهم عن حقارات خصومهم التاريخية على أنه تجسيدٌ لسموهم الأخلاقي، ونضج وعيهم السياسي، وتفوق حسهم الإنساني. وكتب اسم مانديلا الذي أصبح رمزا لهذا السمو والتفوق السياسي والأخلاقي لشعب أفريقيا الجنوبية في سجل الخالدين من صانعي تاريخ الإنسانية.
والمثال الثاني من رواندا، البلد الذي شهد بين 1990 و1994 حربا أهلية دموية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي، راح ضحيتها مليون ضحية، وحطمت بنياتها ومؤسساتها، وأصابت اقتصادها بالخراب. ونزح عنها أصحاب الكفاءات والرساميل جميعا، حتى وصل متوسط الدخل السنوي للفرد إلى أقل من 30 دولارا. ولكن كانت تكفي خمس سنوات لنظام الحكم الجديد الذي حقق السلام، حتى نسي الناس أحقادهم وثاراتهم، وحولوا بتعاونهم رواندا من أرض خراب وموطن حروب قبلية همجية إلى القُطر الذي يتمتع بأعلى معدل نمو على المستويين الأفريقي والعالمي. وكان الفضل في ذلك للحكومة التي وظفت الثقة التي أولاها لها الشعب المُدمى في تطبيق سياسات تنموية جريئة، راهنت فيها على حشد الطاقات المبدعة لشعبها من كل المناطق والإثنيات، وشكلت المجلس الاستشاري للاستثمار والتطوير الذي ضم ذوي الكفاءات العليا من الروانديين المنتشرين في العالم، وعاملتهم من دون تمييز، فصارت رواندا مثالا للانتقال الناجح من بلد الحروب والنزاعات القبلية إلى أرض السلام والأمن والاستقرار، ومن بلد النزوح الجماعي إلى أحد أهم المقاصد السياحية في أفريقيا، ومن الفقر والبؤس والبطالة إلى أحد أكثر عشرة بلدان أفريقية استقطابا للاستثمارات، ومن أكثرها تقدما وانفتاحا على العالم. ومن النادر أن يذكر اسم رواندا اليوم في التقارير الدولية من دون إضافة صفة المعجزة إليه، بمقدار ما أصبحت مثالا حيا لقدرة الشعوب، عندما تتوفر لها القيادة المخلصة، على تجاوز مصاعبها وانقساماتها.
ما سهّل هذا الانتقال من الحرب إلى السلام في الحالتين هو تحقيق العدالة، وفي مركزها الاحترام المتبادل والمساواة في الحقوق والواجبات، والاعتراف بمعاناة الضحايا وتعويضهم ومحاسبة الجناة على جرائمهم، في إطار ما تسمى اليوم العدالة الانتقالية التي تعنى بتطبيق قوانين استثنائية للعدالة، تأخذ بالاعتبار ظروف الحرب وطبيعة النزاعات الأهلية. فتحقيق العدالة هو الشرط الأول لتحقيق السلام، ليس لأنها تساعد على تحرير أهالي الضحايا والذين عانوا من ويلات الحرب من كوابيس ذاكرتهم، وتمكنهم من إنجاز الحداد على ضحاياهم وماضيهم القريب فحسب، ولكن لأنها تعفيهم أيضا من واجب الثأر والانتقام، وتحول دون أن تصبح الجريمة أمرا عاديا، لا يمكن أن تقوم معها حياة اجتماعية طبيعية.
لا أذكر هذا على سبيل الدعوة الأخلاقية، وإنما وصفا لواقع حي وعبرة تستحق التأمل. لكنني ذكرته أيضا لأشير إلى أن الاستمرار في القتال ليس الخيار الوحيد، بل ليس خيارا منطقيا على الإطلاق، وأن الشعوب قادرة، إذا وجدت من يأخذ بيدها من أصحاب الثقة والمسؤولية، ويحول بينها والجماعات المتطرّفة التي لا تعتقد أن هناك حلاً ممكناً لنزاعها أقل من الإبادة الجماعية للطرف الآخر، على السمو بمشاعرها وأفكارها، والبحث عن فرص التفاهم من حول أهداف وغايات نبيلة ومشتركة، والتعاون في إعادة البناء السياسي والعمراني لوطنها ومجتمعها.
فبعكس ما تسعى إلى تأكيده تحليلاتٌ تبسيطية أو مغرضة، تروّج نظريات خطيرة وخاطئة، ليس للتنوع القبلي والطائفي والقومي، بحد ذاته، أي دور في اندلاع الحروب الأهلية التي عرفتها مجتمعات عديدة. بالعكس، يشكل التنوع أحد مصادر ثروة الأمم وقوة ابتكارها وعظمة مدنيتها، ويكفي للبرهنة على ذلك النظر إلى تاريخ الإمبراطوريات التي كانت الحاضنة الأساسية للحضارات الكبرى وموطن إخصابها، من إمبراطوريات سورية القديمة وما بين النهرين إلى الصين والهند، فالتنوع هو خاصية الأمم الأعظم اليوم، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، التي تكاد تكون دولة التعدد القومي والديني والمذهبي والإثني بامتياز. وهذا لا يعني أن التنوع لا يقود حتما إلى الحروب الأهلية فحسب، وإنما يعني أكثر من ذلك أن هذه الحروب ليست نابعة من تعدّد الثقافات، ولا هي حتمية في أي مجتمع، وإنما هي صناعة سياسية، تلجأ إليها عادة نخب "مزنوقة" أو مأزومة تحاول فك عزلتها، وفتح طريق للنجاة من مصير محتوم، قادها إليه فسادها وظلمها وإفلاس سياساتها، لكن على حساب دماء شعوبها وحقوقهم ومستقبلهم، فهي لا تهدف من زجّ الشعوب في حروب داخلية إلا إلى حرف أنظارها عن مسؤوليتها هي في خلق المشكلات المستعصية على الحل، ودفعها إلى تفريغ شحنة غضبها في قتال بعضها بعضا، وفي خلط الأوراق السياسية والاجتماعية للبقاء في الحكم، واستعادة شرعية مصطنعة باسم الحفاظ على الأمن، تمكّنها من العودة إلى استخدام العنف على نطاق أوسع، وتحويله إلى أسلوب حكم.
باختصار، قليلة هي الشعوب التي لم تعرف الحروب الأهلية وغير الأهلية في تاريخها. وعلى طريقة إنهائها والخروج منها توقف، في أغلب الأحيان، مستقبلها، إما العودة إلى التفاهم والتعاون والاتحاد والتقدم إلى الأمام كما حصل في رواندا، وقبلها جنوب أفريقيا أو السقوط في الفوضى والانقسام والعنف المعمم، كما هو حال أفغانستان والصومال وأقطار كثيرة أخرى.
3
هل يمكن أن يأمل السوريون بمخرج "مشرّف" من الحرب الراهنة يوفّر المزيد من المعاناة والخسائر البشرية والمادية، وينقذ سورية من المصير المشؤوم لميدان حروب داخلية وخارجية لا نهاية لها؟ الجواب ببساطة أنه لا توجد نزاعات مستعصية على الحل. إنما توجد عقبات ومصاعب ينبغي تذليلها لشق طريق السلام. وهنا أود التركيز على عقبتين كأداءين بالفعل، الأولى الانخراط الدولي الواسع النطاق في هذه الحرب، حتى لم يعد للسوريين مكان فيها سوى الالتحاق بالاستراتيجيات الدولية المتصارعة، وصعوبة توصل السوريين إلى تفاهمٍ معها، وربما صعوبة توصل هذه الدول الأجنبية فيما بينها إلى تفاهم يوفر الحد الأدنى من شروط العودة بسورية إلى السلام. والثانية نزوع أغلب السوريين إلى تجاهل وجود مشكلات وقضايا تثير النزاع الداخلي، أو الاستهانة بكثير مما برز منها خلال الحرب، وبسببها أيضا، على منوال هؤلاء الذين يردّدون دائما إننا كنا عايشين ولم يكن هناك ما يعكر صفو حياتنا، أو أولئك الذين يصرّون على أن الخلافات الدينية والقومية والمناطقية التي تجلت بشكل واضح خلال الثورة لم تكن سوى خلافات مصطنعة أو ناجمة عن التدخلات الأجنبية. وهذا ما يمنع الاعتراف بها، ولا يشجع على التفكير فيها بموضوعية ومواجهتها بشجاعة في سبيل بلورة وعي مشترك بها والتداول في إيجاد الحلول الناجعة لها. وربما تطلب هذا بداية الفصل بين أسباب النزاع الخارجي والداخلي وعدم الخلط بين رهاناتها المختلفة أو التغطية على واحدها بالآخر.
ولأنني لا أعتقد أن في مصلحة الدول المنخرطة في الحرب السورية التوصل إلى تفاهم بينها، ولا إلى حلولٍ للقضايا المثيرة للنزاع بين السوريين، بل إنها تسعى، بالعكس، إلى تعقيدها وصب مزيد من الزيت عليها، لاستخدامها في تنفيذ خططها الخاصة، فلا أرى مدخلا لمواجهة مسألة الخروج من الحرب المستعصية على الحل، حيث تحوّلت سورية إلى ساحةٍ لاستعراض عضلات القوى الإقليمية والدولية، سوى في يقظة السوريين أنفسهم، وسعيهم الجدي إلى التوصل فيما بينهم لمثل هذه التفاهمات المشتركة. وليس هناك طريق آخر لذلك سوى مواجهة القضايا المثيرة للنزاع، والتعرف الصحيح عليها، وتقديم التنازلات المتبادلة التي تساعد على حلها، من دون تلكؤ أو انتظار أن تقوم الدول الأجنبية/ المحتلة بهذه المهمة، لأنها كما ذكرت لا تملك الرغبة ولا المصلحة في ذلك، وربما ليست قادرة عليه. وهذا يعني أن النظر في خلافاتهم هي مسؤولية السوريين وحدهم، وحلها أو وضع الأسس الواضحة لحلها، وعدم انتظار الوسطاء الدوليين، هو الشرط الذي لا غنى عنه لمواجهة التحدّيين الأكبرين: تحدّي الاحتلالات الأجنبية واستعادة السيادة على الأرض، وتحدّي بناء النظام الديمقراطي الذي يجسّد هذا التفاهم، ويضمن تعميقه وولادة الوطنية السورية التي يشكو كثيرون من غيابها.
وسوف أكتفي هنا في التذكير بهذه القضايا الرئيسية، على أمل العودة إليها بالتفصيل في مقالات لاحقة. وأهم هذه القضايا التي تحتاج إلى حوار موسع بين السوريين، جمهورا ونخبا، هي: العقدة الطائفية وعلاقة الأديان والمذاهب بنظام الحكم، ومكانة الطائفية في الصراع السياسي الراهن، والعقدة الإسلاموية ودور الحركات الإسلامية المتطرّفة والمعتدلة في إثارة المخاوف من الثورة الشعبية وعليها، ومن التحول الديمقراطي أيضا، والتمييز بين الإسلام والحركات الإسلامية، والمسألة الكردية السورية التي تفتح على مسألة الهوية والمسألة القومية وعلاقتها بالدولة الحديثة وبالديمقراطية، ومسألة العلاقات الإقليمية والدولية ومكانتها وموقعها في إعادة بناء السياسة السورية، والمسألة السياسية بما تمثله من تحديد الخيارات والتوجهات الفكرية والعقدية والاجتماعية والاقتصادية للدولة الديمقراطية المنتظرة، وأخيرا الأخلاقيات المدنية التي من دونها لا توجد ضوابط للعلاقة بين الأفراد أو بالأحرى حوافز لاتحادهم وراء هدف أو قضية.
تنشأ النزاعات والحروب، والثورات هي نوع من الحروب السياسية التي قد تصبح مسلحّة أيضا، من حول مصالح تعبر عن نفسها عادة ضمن قضايا أو مسائل، يصوغها أصحابها حسب معطياتهم الفكرية والسياسية والظرفية، ويضيفون إليها أحلامهم وأمنياتهم، وربما جزء من معاناتهم التاريخية، وهي تنير طريقهم، وتوجه سلوكهم تجاه الجماعات الأخرى. وصياغتها تنطوي بالضرورة على قسط كبير من الذاتية والحسابات الأنانية التي تنعكس، في تعدّد السرديات التي ينطوي عليها أي نزاع اجتماعي. وتعكس لذلك أشكالا مختلفة من التجاهل أو إساءة التقدير لمصالح منافسة أو المبالغة في عرض مصالح أصحابها وحقوقهم. ولا يمكن التوصل إلى تفاهم بين الأطراف المتنازعة إلا بإخضاع هذه السرديات لمناقشة مفتوحة وتقييم متبادل، تعيد أصحابها إلى الواقع، وتحدّ من الشطط في الأحلام والتمنيات على حساب مصالح الآخرين وحقوقهم، وتساعد على التوصل إلى حلولٍ عادلة، تقوم على توازن المصالح وتجنب طغيان واحدتها على الأخرى. هذه هي الخطوة الأولى التي لا مهرب منها للتقدّم على طريق السلام وضمان نهاية غير كارثية للحرب.
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/3/15/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9