الخروج الكارثي للعالم العربي من الحقبة الوطنية

2005-12-23:: الجزيرة نت

 شهدت البلاد العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، في إطار التوازن الجديد للقوى الذي أفرزه انهيار النظام الاستعماري القديم، تحولات قوية وايجابية في ميادين تأكيد هامش مناورة استراتيجية كبيرة إقليمية عزز السيادة الوطنية لدولها، كما شهدت ترسيخ الهوية الثقافية بعد قرون من التردد والتوتر بين العصبيات المحلية والولاءات الدينية والفكرة الوطنية، وأرست دعائم دولة ومؤسسات حديثة منفتحة على المشاركة الشعبية، سواء أجاء ذلك عن طريق المشاركة الانتخابية أو الانخراط في الحركات التجديدية الانقلابية، وساهمت من خلال خططها التنموية الهادفة في خلق قاعدة اقتصاد صناعي حديث، كانت البلدان العربية تفتقر إليه، بالإضافة إلى الاستثمارات الكبيرة التي قامت بها في ميدان الخدمات الاجتماعية الصحية والتعليمية والإنسانية الأخرى. ومجموع هذه الانجازات جعلت من هذه الحقبة تبدو وكأنها استعادة لمجهود النهضة العربية التي بدأت منذ القرن التاسع عشر وموجة ثانية من موجات التحديث التي نقلت العالم العربي من حالة الهامشية والركود والخضوع للأجنبي إلى حالة التحول والتغير السريع والشراكة العالمية. ولذلك بدا الجهد المتواصل والمتنوع الذي عرفته الدول العربية في مجال التحديث في ذلك الوقت وكأنه مشروع النهضة الثانية الذي قادته مصر الناصرية بعد مشروع التحديث الأول الذي كان لمصر أيضا قصب السبق فيه.

وهكذا ارتبطت هذه الحقبة الوطنية بتجربة انفعالية جماعية قوية من الصعب محوها من الذاكرة التاريخية، مع ما رافقها من معارك النهضة الفكرية والحداثة والاستقلال والانتصار على السيطرة الأجبنية وإثبات القدرة على الفعل والمشاركة في المصائر العالمية وتأكيد السيادة والإرادة الحرة في النفوس. وكما أصبح التمسك بذكرى هذه التجربة العاطفية والسياسية الفريدة في التاريخ الاجتماعي العربي، تعبيرا عن التمسك بالهوية، أصبح التخلي عنها تنكرا للذات واستسلاما للقوى الأجنبية التي حالت دون تحقيق برنامجها وطموحاتها. ومما يساعد على التمسك بها الاعتقاد القوي بأن إخفاقها كان نتيجة تآمر الدول الكبرى وأن التخلي عنها يعني أيضا التسليم بالإخفاق التاريخي والتنكر لعقود طويلة من العمل الجماعي المستمر في سبيل الحرية والاستقلال والسيادة والكرامة العربية. ومن هنا شكلت المكانة الرمزية الخاصة التي مثلتها الفكرة الوطنية/القومية في بناء تاريخ العرب الحديث ومجتمعاتهم الخارجة من مناخ القرون الوسطى العامل الأول في حرمانهم من إدراك التحولات العالمية السائرة إلى تجاوز مفهوم الوطنية والقومية معا. ويشكل استمرار محورة المناظرة السياسية في الفكر العربي حول مسألة القومية والقطرية، لوقت قريب، التعبير الواضح عن هذا التغريز الذي منع هذا الفكر نفسه من الالتقاء مع موجة الديمقراطية وأفكار المجتمع المدني التي ازدهرت في المناطق الأخرى منذ السبعينات.
لكن ما تركته تلك التجربة من ذكرى ايجابية تلهم الرأي العام العربي وربما ستظل تلهمه لعقود طويلة ليس العامل الوحيد الذي يفسر عجز المجتمعات العربية عن إدراك التحولات العالمية وبلورة استراتيجية ما بعد وطنية ناجعة للرد على حاجات الحقبة العولمية. فمما لا شك فيه أن المنطقة العربية قد تعرضت لضغوط استثنائية خارجية، أمريكية أوروبية بالدرجة الأولى في سبيل ثنيها عن مشاريع التكتل والتكامل والاتحاد بل عن التعاون الاقتصادي الجاد والمثمر. وقد ساهم وجود الاحتياطات النفطية الكبيرة والرخيصة والوفيرة معا، كما ساهم التعاطف الغربي الواسع مع إسرائيل، والموقع الجيوسياسي المتميز للعالم العربي بين القارات الثلاث، في تعميق هذه الضغوط وتنويع التدخلات الخارجية للتحكم بمصير المنطقة ككل ومنعها من الخروج من تحت السيطرة الغربية. وقد كان لهذه التدخلات دورا كبيرا في تحطيم آمال العرب الوحدوية، وفي ما بعد في تدعيم قيام نظم تسلطية تهدف إلى عزل المجتمعات وتقييد حركتها وإحكام السيطرة عليها. وأصبح الحفاظ على التجزئة العربية شرطا أساسيا من شروط بقاء الأنظمة ومن وراء ذلك استقرار النظام الإقليمي نفسه. مما يعني أن ضمان المصالح الاستراتيجية الأطلسية الأوروبية الأمريكية قد أصبح حاجزا حقيقيا أمام امكانية التفكير والعمل على تجاوز الحدود الوطنية القائمة. وهكذا انتقلت المنطقة من نفي مشروعية الدول القائمة بوصفها من مخلفات الحقبة الاستعمارية إلى التأكيد المرضي واللاعقلاني على سيادة هذه الدول نفسها واعتبار التعاون نفسه حدا منها أو تهديدا لها.
وأخيرا لا يمكن فصل هذا العجز عن الخروج الطبيعي من استراتيجيات الحقبة الوطنية عن تحولات النظم السياسية، وحاجات النخب الحاكمة المتزايدة، في علاقتها مع الدولة وحاجاتها للاحتفاظ بسيطرتها السياسية في ظروف انحسار الوطنية، إلى مصادر للشرعية، مهما كانت هذه المصادر واهية أو زائفة. فمما لا شك فيه أنه كان لهذه النخب ولا يزال دور كبير في المحافظة على الايديولوجية الوطنية حية مع تحويرها بحيث تتطابق مع سلطة الدولة والولاء لها بصرف النظر عن سياساتها وتشكل تعويضا عن تحقيق البرامج التي ترد على تطور الحاجات الاجتماعية.
لقد استخدم الخطاب القومي، والمكانة الرمزية الخاصة التي مثلتها الفكرة الوطنية/القومية في بناء تاريخ العرب الحديث ومجتمعاتهم، لتبرير استمرار سيطرة النخب الاجتماعية بما فيها تلك التي لم يكن لها علاقة بالحركة الوطنية/القومية العربية. فلا شك في أن هذه الفكرة المركزية بالنسبة للثقافة السياسية العربية الحديثة لا تزال، بالرغم من كل الانتقادات التي وجهت ولا تزال توجه لها، خاصة في العقود القليلة الماضية، على ضوء الانحطاط الذي أصاب الدول التي جسدتها، تمثل في المخيلة والذاكرة الاجتماعية، المصدر الوحيد لقيم سياسية تحظى بالكثير من الشرعية. ولا يمكن تصور عمل وطني خارج إطار الدولة الوطنية ولا من باب أولى في مواجهتها. وبقدر ما سهل هذا الموقع المتميز للدولة داخل الفكرة الوطنية استقلال نخب السلطة عن المجتمع ومصادرتها للسلطة العمومية واستخدامها لخدمة مصالح خاصة وإفساد الحياة الوطنية، حرم المجتمع الحديث من أي نقطة ارتكاز مستقلة وتركه معلقا في الفراغ يتردد كالوتر المشدود بين العودة إلى أطر التضامنات التقليدية العشائرية والطائفية والتعلق بالدولة المارقة، بالمعنى الصحيح هنا للكلمة، وبالوطنية التي تحولت ذكرى لها، كتعلق الغريق بقشة.
وهكذا حول التركيز على الدولة كسلطة مركزية جامعة، في سياق غياب حياة سياسية حقيقية، الوطنية إلى حجاب أو تميمة تخفي عودة الشياطين الطائفية والعشائرية القديمة وتعمل على طردها. ويشكل العزف على وتر الوطنية/القومية المنفصلة عن الواقع والمتحولة إلى حجاب أداة فعالة في يد الأنظمة المنفصلة عن مجتمعاتها لتجييش الجمهور وتعبئته ضد المعارضة وضد الضغوط الخارجية ودفعه إلى الالتفاف حول أنظمة ونخب فقدت كليا النجاعة والشرعية السياسية معا. لقد أصبحت الوطنية سوطا تستخدمه النخب المأزومة والفاقدة لأي علاقة مع شعوبها لإدامة سيطرتها اللاشرعية.

حالت هذه العوامل الثلاثة: هوس الوطنية والسيطرة الإقليمية شبه الاستعمارية واستراتيجياتها المناوئة للتكتل على أسس قومية، وحاجات النخب المقطوعة عن شعوبها، إلى تصنيع وطنية مركزة حول سلطة الدولة المركزية، ومقدسة لها بوصفها روح الوطنية وأساسها، دون العالم العربي وإدراك تحولات القوى العالمية وتوفير شروط الخروج المنظم من الحقبة الوطنية نحو التكتلات الإقليمية التي تشكل الشرط اللازم للدخول في حقبة التفاعل والتواصل والانخراط في المجتمع العالمي الناشيء. ومما فاقم من أثر هذه العوامل وزاد في تعقيدها أن التطلع إلى أفق العالمية، بل حتى إلى الفكرة الإقليمية، قد بقي يمر، في خطط الدول الكبرى المتنفذة في المنطقة، بالتخلي عن الفكرة العربية والقبول بالفكرة الاستيطانية الاسرائيلية. بمعنى آخر إن الانعتاق من الفكرة الوطنية والانتقال إلى الفكرة العالمية الضرورية لاكتشاف فرص التحولات العولمية لا يواجهان عقبة نفسية وفكرية وسياسية فحسب، وإنما غياب الشروط الجيوستراتيجية التي تسمح بتعويض التضامن الوطني والقومي العربي بتضامن إقليمي أو عالمي محتمل مقابل. وهو ما يشير بالفعل إلى انسداد أفق الإقليمية والعالمية الحقيقية أمام المجتمعات العربية. وهكذا ارتبط التركيز على الأفق الوطني الذي لا يزال يطبع العالم العربي حتى اليوم، في مواجهة تطورات لم يعد الإطار الوطني ناجع في التكيف معها، بغياب آفاق الخروج من الحقبة الوطنية وانعدام شروط الإغلاق السليم لملفاتها التي لا تزال ملتهبة، وفي مقدمها ملف الاستيطان اليهودي في فلسطين. وحل محل الانفتاح العالمي المطلوب نزعة قوية للإنغلاق على الذات، والمراهنة على تمديد الحقبة الوطنية وحلولها التقليدية. وبقدر ما يترك هذا التخبط المستمر في استراتيجيات الحقبة الوطنية وقضاياها المجتمعات العربية أكثر فأكثر عارية أمام إرادة الهيكلة الدولية الخارجية التي تنظر إلى العالم العربي كما لو كان آخر قلاع الرجعية المستعصية على قيم الحداثة الثانية، يسمح للنظم الاستبدادية الفاسدة بأن تستخدم أعلام الوطنية التي تحولت إلى شعارات فارغة قناعا للتغطية على إخفاقاتها وأداة لقمع المعارضات وحركات الاحتجاج الاجتماعية النامية والانقسامات الناشئة في قلب النظم نفسها، في سبيل الحفاظ على المصالح الضيقة القائمة وقطع الطريق على أي تغيير أو إصلاح. وعلى هامش هذه التدخل وذاك الاستبداد تنمو استراتيجيات الارهاب الداخلية والخارجية كرد فريد ويائس على الاستعمار والاستبداد، وتتحول إلى قنبلة موقوتة لتفجير ما تبقى من المجتمعات العربية.