الحوار أو الدمار

2017-06-25:: العربي الجديد

 

قبل أشهر معدودة من اندلاع الأزمة الوطنية والحرب التي أعقبتها بین الحكومة والنظام الجزائریین وجبهة الإنقاذ الاسلامیة، شاركت في مؤتمرا للحوار القومي الاسلامي حضره أبرز قادة الحركات الاسلامیة بالاضافة إلى رجال دین متنورین ومثقفین ومفكرین تحرریین، في وقت كانت النظم الاستبدادية قد استنفدت اخر أوراقها ولم تعد تملك ذريعة واحدة تبرر بقاءها. وكان إفلاسها مدويا في جميع المعارك التي قادتها، من الاستقلال ألى التنمية إلى التصنيع إلى العدالة الاجتماعية وبناء الحد الادنى من التوافقات الوطنية والاستقرار الاجتماعي. كان الهدف من المؤتمر إطلاق حوار جدي وبناء بين النخب العربية و التيارات الفكرية، الاسلامية وغير الاسلامية، اليسارية والقومية والليبرالية، في سبيل تجنب الصدام الذي كان يلوح في الأفق، ومن أجل التوافق على قواعد عمل سياسية ومعايير أخلاقية تمهد لانتقالات ديمقراطية لم يكن أمام الشعوب العربية خيار آخر غيرها لتفكيك القنبلةً الاجتماعية السياسية قبل انفجارها وتمهيد الجو لتأسيس قواعد عمل وطنية جديدة ودائمة وقطع الطريق على الحرب.


كانت سماء العالم العربي ملبدة بالغيًوم السوداء من أقصى المغرب الى العراق.وكنت متأكدا من ان الإصرار على التمسك بمعايير السلوك الاقصائي والانفرادي التي أخذت تفرض نفسها وتشق المجتمع والنخبة السياسية الفكرية بين قطبين لا يمكن التواصل بينهما بأي شكل، اسلاميين وعلمانيين، سوف يقود لامحالة الى كارثة، ويغلق الطريق على اي أمل بالإصلاح. وكنت أعتقد أن غاية الحوار أن يستبدل الاستقطاب العقائدي والهوياتي السائد، الذي لايمكن ان يكون له اي حل سوى المواجهة الحدية، باستقطاب سياسي يعيد توزيع القوى بشكل مختلف ويفتح بابا للخروج من المواجهة الحتمية، يميز بين جبهتين، جبهة ديمقراطية تضم جميع القوى المؤمنة بالحوار والتعاون لبناء دولة تمثل الشعب وتتفاعل مع تطلعاته ولديها الرؤية والقدرة على تحقيقها، وجبهة القوى المؤيدة للاستبداد والمرتبطة به، دينيا كان أم سياسيا، على أمل أن ينجح هذا الفرز في جذب القسم الأكبر من قوى الاحتجاج الاجتماعي المطالب بالتغيير وأن يجعل هذا التغيير ذا منحى ديمقراطيا يمهد لبناء عقد اجتماعي يضع المباديء وقواعد التنافس الديمقراطي بديلا عن التصفية المتبادلة والانتحار الذي خبرته في مابعد العديد من المجتمعات العربية. وكان الهدف ايضا تشجيع الإسلاميين على تبني خيار الديمقراطية مقابل الحصول على الشرعية والاعتراف كطرف مؤسس أو مشارك في تأسيس عهد الحرية الجديد.

 

لكن خيار المواجهة هو الذي تغلب في النهاية على خيار الحوار، وقضى عليه قبل أن يبدأ في أغلب الأقطار العربية. ولا تزال مجتمعات العالم العربي تعيش منذ ذلك الوقت، أي منذ التسعينيات على الأقل في مناخ المواجهات الدموية التي دفع إليها قطع الحوار ورفضه بين الأطراف، والذي كلف الجزائر الاف الضحايا، قبل أن يدفع إلى تفجر ثورات الربيع العربي، وما تلاها من إطلاق دورة الحروب الأهلية والمذهبية، التي اختتمت في سورية بحرب ابادة جماعية استخدمت فيها السلطة وحلفاؤها جميع وسائل حرب الدمار الشامل، وقضى فيها ملايين البشر، وكادت تمحى فيها من الوجود قرى بل مدن بأكملها. ولم يكن لهذا الانتحار والدمار العربيين سبب آخر سوى رفض الحوار، واستبعاد النظم الطغيانية القائمة، والنخب التي امتلكت الدولة بواسطتها، أي مسعى أو وسيلة للتغيير وتسهيل الانتقال السياسي، الذي لم يعد من الممكن تأجيله إلى وقت أبعد، والذي يكمن جوهره في الاعتراف بالشعب وحقوقه الطبيعية في المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، و الاشراف على آليات تسيير الدولة وآلة العنف التي احتكرتها النخب الحاكمة وتحولت إلى أداة خاصة في يدها تستخدمها لإخضاع الناس وإذلالهم وتجريدهم من حقوقهم السياسية والمدنية. 

كانت النظم الحاكمة، التي استمرأت الانفراد بالسلطة والاستفراد بموارد البلاد، مصرة على ترسيخ الانقسام العمودي بين اسلاميين وعلمانيين، كي تبقى الحرب العقائدية مشتعلة، وتحول دون بروز أو تشكل اي قطب شعبي يهدد وجودها. وقد عملت كل ما تستطيع من اجل وأد الحوار، وراهنت في كل النظم العربية على الحرب، ليس للقضاء على قوة الاحتجاج الاجتماعي فحسب، وإنما لتقسيم الشعب وشرذمته وكسر إرادته ايضا ووضع اي تغيير محتمل في طريق مسدود. وهذا ما حصل بالفعل، وما تحول الى استراتيجية نموذجية في سعي النظم العربية لإجهاض الحركة الديمقراطية، حتى لو كان الثمن توطن بؤر الصراع والحرب في مجتمعاتنا.

 

للأسف انحاز مثقفون ديمقراطيون، او كان من المفروض ان يكونوا كذلك، للحرب على حساب الحوار، وراهنوا على قبضة النظم الاستبدادية القوية من أجل التخلص من خصومهم ومنافسيهم السياسيين والايديولوجيين، واعتقدوا أن النظم الاستبدادية سوف تتعاون معهم في ما بعد من أجل الاصلاح، وربما تكون لديهم فرصة للحلول محلها بعد تطهير المسرح من الاسلاميين المناوئين. كانت النتيجة فتح دورة حروب أهلية كامنة ومشتعلة على امتداد الجغرافية العربية، واستنفاد موارد البلاد في المعارك الدموية، وخسارة عقود عديدة كان من المفروض أن تكرس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتهجير الأطر والقوى الحية المنتجة والمبدعة والمفكرة خارج البلاد. وكان ثمن قطع الطريق بالقوة وبأي تكلفة كانت على أي خيار ديمقراطي تصحير الحياة السياسية وتجفيف ينابيع الوطنية وخنق القوى الحية العلمانية وغير العلمانية، وتحويل الإسلاميين او جزء مهم منهم الى غلاة ومتطرفين ومتمردين،، وأخيرا دفع البلاد إلى الاستيطان المديد في الفوضى السياسية والديكتاتوريات المقيتة مما تعرفه معظم الشعوب العربية اليوم.

هكذا فقدنا كل شيء، الديمقراطية والعلماني،ة والاسلام والحداثة، والتراث والوافد معا، وأصبحنا في فراغ قاتل واضطراب شامل وخراب نفسي وانساني لا ضفاف له، وتحولت جغرافيتنا العربية إلى مسرح لتنافس القوى الدولية على الموارد والنفوذ، وتكرست في العلاقات الدولية والمخيلة الشعبية العالمية موطنا رسميا لحركات التطرف، وساحة مركزية لحروب الارهاب، الحقيقية منها والمصطنعة، لكن دائما القاتلة والمدمرة والتخريبية .

انحياز النخب المثقفة والواعية منذ التسعينيات إلى جانب خيار الحرب والمواجهة، ورفضها الحوار أو استهتارها به، دل على أنه لم يكن لدينا بالفعل خيار ديمقراطي، لا عند الاسلاميين الذين كانوا يعيشون سكرة النصر مع تزايد أعداد الجمهور الذي يتطلع إليهم كحصان التغيير الأكيد، ولا عند العلمانيين الذين كانوا يخشون دخول عموم جمهور الشعب إلى خشبة المسرح، بمقدار ما كانت تخشى دخوله البرجوازية الجديدة الرثة، المكونة من مزيج من بيرقراطيين وعسكريين ورجال أعمال لا مواهب لديهم سوى تفاهمهم على نهب موارد الدولة وتقاسم غنائمها من دون رادع من وطنية أو ضمير.

 

خدع الاسلاميون بقوة جماهيريتهم لأنهم فسروها تأييدا لهم وتعلقا بأفكارهم ومصادقة على قرارهم بمصادرة إرادة الناخبين سلفا باسم الدين، ولم يكن الامر كذلك. وما كان الاصطفاف الجماهيري وراء الحركات الاسلامية، في اي مكان، ايمانا بمشاريعهم الخيالية، وإنما لما أبدوه من جرأة على مناهضة النظم والوقوف في وجهها، وما جسدوه من إرادة الاحتجاج والاعتراض والوقوف في مقدمة التظاهرات وقيادة الاحتجاجات ضد الظلم وعدم الاكتراث. كان الجمهور الغاضب والمتألم والمقهور بحاجة إلى قيادة جريئة وذات صدقية، أي بعيدة عن الانتهازية والرخص والارتزاق التي تحولت إليها معظم النخب القديمة اليسارية والقومية التي التحقت بشكل أو آخر بالنظم الاستقلالية وعاشت في كنفها واستفادت من أفضالها.

وخدع العلمانيون، أو من يعتقدون أنهم كذلك، لاعتقادهم أن الاصطفاف وراء السلطة العسكرية والمافيوزية سوف يترك لهم فسحة من الحرية السياسية أو على الأقل المدنية تحفظ حقهم في ممارسة عاداتهم والعيش بأمان في ما يمكن تسميته بمربع الحداثة الآمنة والمشروعة، أو المربع الحداثي الآمن، في مجتمعات تتراجع فيها باستمرار عتبة التسامح والقبول بالتعددة والاختلاف، مع التدهور السريع لشروط المعيشة، والانكفاء نحو أنماط الاستهلاك التقليدية ذات التكلفة الرخيصة، مما شكل من نموذج الاستهلاك الحديث الذي تطور عند الطبقة الوسطى، والعليا بشكل خاص، وبشكل أكثر فأكثر، مجالا للتمايز والتمييز الاجتماعيين، وعقبة أمام اي تواصل ممكن بين فئات المجتمع الواحد. وتحول إلى شعور بالموت البطيء والإدانة الابدية عند جماهير تتكدس اكثر فأكثر في الأحياء المفقرة والمظلمة، وبين مهجري الأرياف المسحوقة، والعاطلين الدائمين عن العمل، والمرميين من دون أمل على قارعة طريق الحداثة التمييزية إلى حد العنصرية. وبعكس ما كان يعتقده المدافعون عن النظم الديكتاتورية كجدار قوي أمام صعود النظم الاسلامية، لم تحقق الحرب السياسية أحلامهم. وما كان من المتوقع أن تخوض الطبقة الحاكمة حربا أهلية دموية، بكل ما تعنيه من مخاطرة، من أجل أن تهدي نتائج انتصارها لمنافسيها من الطبقات الوسطى أو النخب الثقافية والاجتماعية الضعيفة التي تحتمي بها. بل إن ما حصل كان عكس ذلك تماما. فبدل أن تؤدي الحرب ضد الخصوم الاسلاميين إلى توسيع هامش المبادرة والمشاركة السياسيين للنخب الحديثة شجعت على إلغائه، بمقدار ما قوى نجاح النظم في كسر حركات الاحتجاج الشعبية، وتفكيك نواتها التنظيمية المتمثلة في الجماعات الاسلاموية، شوكة الطغم الحاكمة في مواجهة المثقفين والمعارضين من كل الأتجاهات، بعد أن ضعفت حاجتها إلى خدمات المثقفين لمواجهة الحركات الاسلامية وصارت أكثر ميلا إلى التخلي عنهم وتركهم لمصيرهم. هكذا تقلص بشكل اكبر هامش تسامح النظام القائم، مع المثقفين ومن شاكلهم، ولم يعد لديهم خيار آخر سوى الهجر من بلدانهم التي تحولت إلى صحاري سياسية وفكرية، والاستقرار في البلدان الغربية.

 

لم تسفر الحرب الداخلية المستمرة في المجتمعات العربية منذ أكثر من ربع قرن عن اي انتصار لأي عقيدة أو مذهب أو فكر، وإنما عن انهيار الفكر كله ونجاح قوى الانتهازية والبلطجة والتشبيح في فرض نفسها كأمر واقع لا مهرب منه. وخرج الطرفان المتنافسان على تقرير نموذج الحكم وممارسة السلطة وطبيعة الهوية والثقافة والمعايير الانسانية السائدة او التي ينبغي ان تسود في المجتمعات من المواجهة بهزيمة شاملة، اسلاميين وعلمانيين، وتحولت المسارح السياسية في معظم البلدان إلى خرائب تعصف بها الرياح القاسية، بينما تربعت على عرش الدول، من دون منافس ولا رقيب، طغم مفترسة لا تملك أية رؤية أو كفاءة أو التزام أو شعور، أمام شعوب مدماة ومحطمة ومشتتة، لا قيادة ولا فكرة ولا اتجاه.

ما لم تعد النخب العربية، باتجاهاتها وتياراتها الاسلامية وغير الاسلامية إلى وعيها وتعتبر بدروس الحرب الطويلة والمدمرة التي حكمت العقود الثلاث الماضية من حياة العرب السياسية، وتقبل بالتعايش والتنافس ضمن معايير وشروط متفق عليها، واضحة وملزمة للجميع، وهذه هي الديمقراطية الحية، مقابل الديمقراطية الجاهزة ، أي ما لم تقبل بالعودة إلى ساحة المعركة التي هي أوسع من الصراع على السلطة، اعني معركة البناء والتنمية الانسانية والاقتصادية، والتفاهم حول عملية انتقال ديمقراطي لإنقاذ البلاد من الفوضى وتسلط الوحوش الكاسرة، فلن تتوقف الحرب، ولن يكون هناك بعدئذ لا سيادة ولا دولة ولا ديمقراطية ولا أمة ولا شعب. حكم التاريخ  لايخطيء، فإما الاعتراف المتبادل والحوار من أجل التفاهم او استمرار الخراب والحرب.