التهديدات الأميركية وإعادة تحديد الدور السوري الإقليمي

2003-05-03:: الجزيرة نت

 

تعرضت سوريا في الأسابيع القليلة الماضية -ولا تزال- إلى حملة تهديدات أميركية. وتذّكر هذه الحملة بتلك التي أدّت في الأشهر الماضية إلى شن الحرب اللاشرعية على العراق واحتلاله. وبالرغم من أن العديد من قطاعات الرأي العام السوري والعربي التي وقفت ضد احتلال العراق ولا تزال تقف ضد أي شكل من أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون العربية، قد عبرت عن شجبها لهذه التهديدات فإن ذلك ينبغي ألا يمنعنا من فهم تداعياتها الوطنية والإقليمية.


ومن هذه التداعيات:

- ما ظهر على اصطفاف النظام السياسي نفسه وإعادة موضعته لنفسه وتحديد خياراته وموقعه في الخريطة الشرق أوسطية الجديدة التي تعمل الولايات المتحدة على  فرضها من جديد على المنطقة للسنوات أو العقود القادمة.
- ومنها ما مس الرأي العام السوري أو قطاعات واسعة منه.
- ومنها ما أثر على تماسك النخبة الحاكمة بفئاتها وتشكيلاتها المختلفة.
وليس هناك شك في أن الضغوط الأميركية التي عبرت عنها هذه التهديدات نجحت في إجبار سوريا على التراجع عن سياساتها الإقليمية والانكفاء على نفسها، متخلية في الوقت نفسه عن طموحاتها للعب دور في عراق ما بعد صدام من خلال ما تحتفظ به من صلات مع بعض أوساط المعارضة السابقة وما يربطها ببعض أطراف النظام البعثي السابق من وشائج قربى.

فقد قبلت سوريا بإغلاق حدودها مع بغداد ومنع العراقيين من دخول سوريا أو الخروج منها إلى العراق.

كما اضطرت سوريا وستضطر إلى التخلي عن جميع طموحاتها التقليدية للعب دور في القضية الفلسطينية عن طريق استمرار دعمها لبعض منظمات المعارضة الفلسطينية، وقبلت أو ستقبل إغلاق مكاتب هذه المنظمات في دمشق. وحسب تصريح وزير الخارجية السوري ستقبل سوريا ما يقبل به الفلسطينيون.

ومع أن مسألة الوجود السوري في لبنان لم تطرح بعد فلن يتأخر الوقت قبل أن تضطر سوريا تحت ضغط الولايات المتحدة للقبول بتجميد النشاط العسكري لحزب الله وتخفيف حضورها في لبنان. وترجمة ذلك كله هو أن دمشق تجد نفسها مضطرة بعد سقوط بغداد إلى تقليص نفوذها الإقليمي بل ربما التخلي كليا عن هذا الدور لصالح الولايات المتحدة نفسها التي تريد أن تكون المنسق الوحيد لشؤون المنطقة وسياساتها الإقليمية. وهذا هو شرط تأكيد نفوذها وسيطرتها الشاملة والعالمية.

لكن ربما كان الأهم من ذلك هو تداعيات هذه التهديدات وما سبقها من احتلال العراق على الرأي العام السوري نفسه.. وفي هذا المجال ليست الأمور واضحة بالصورة نفسها التي تبدو فيها التداعيات الجيوإستراتيجية.. وتؤكد الملاحظة والمناقشات الدائرة بين المثقفين والناس العاديين أن التهديدات الأميركية قد أثارت في أوساط الرأي العام المختلفة من الآمال بقدر ما أثارت من المخاوف. فالعديد من الأوساط الأهلية التي فقدت الأمل في أي تغيير داخلي سواء جاء بمبادرة من السلطات الوطنية نفسها أم من خلال ضغوط المعارضة الضعيفة، رأت في الضغوط الخارجية التي تمارسها اليوم واشنطن على الحكومة السورية بداية الطريق لإزالة حكم حزب البعث الذي ينفرد بتقرير مصير البلاد منذ 40 عاما من دون أن يفتح ولو نافذة واحدة على التعديل والتغيير.

ومما لاشك فيه أن مثل هذه المراهنة على التدخل الأجنبي التي تذكرنا بمراهنة قطاعات واسعة من الرأي العام العراقي على التدخل الخارجي نفسه، تعكس أزمة الوطنية السورية وارتباكها في ظل التغييب الطويل لمفهوم المواطنية والمسؤوليات الجماعية واحتكار السلطة، بل استملاكها من قبل فئة صغيرة ألحقت بها الدولة والشعب معا بمثل ما تعبر عما أصاب الوضع الإستراتيجي السوري عموما من اهتزاز وضعضعة نتيجة نجاح القوات الأميركية في إسقاط النظام العراقي البعثي وفرض وجودها العسكري في العراق.

 

لكن كما كان عليه الحال في عراق ما بعد صدام حسين، لا تلغي هذه المراهنة الضمنية التي غالبا ما أصبح يعبر عنها علنا على التدخل الخارجي لدفع النظام إلى القيام بتنازلات لا يزال يرفض القيام بها، سواء أكان ذلك في ميدان فتح النظام وتوسيع قاعدته السياسية والاجتماعية أو احترام الحريات الفردية والحقوق الأساسية للمواطنين.. أقول: لا تلغي هذه المراهنة التشكيك العميق بالأجنبي ورفض التعامل معه.

فالولايات المتحدة ليست مسؤولة في نظر الرأي العام السوري بأجمعه عن تدعيم واستمرار أنظمة الطغيان التي تعاملت ولا تزال تتعامل معها لخدمة مصالحها فحسب، ولكنها تمثل بالنسبة إليهم أيضا -من خلال دعمها لسياسات التوسع الإسرائيلية- العدو الرئيسي للعرب دون منازع والسبب الأول في هزيمتهم وانهيار مواقعهم.

باختصار يبدو الرأي العام السوري اليوم أمام التهديدات الأميركية لبلده كما لو أنه استعاد الأمل في التغيير في الوقت الذي زادت فيه مخاوفه من السيطرة الأميركية.

هذه هي المفارقة التي لا يمكن للمحلل السياسي أن لا يلحظها والتي تجلت بشكل واضح في العراق، حيث ما كاد الجمهور الذي وقف على الحياد خلال أيام الحرب يتأكد من سقوط النظام العراقي حتى بدأ بتنظيم نفسه لمواجهة قوات الاحتلال والدفاع عن سيادة العراق واستقلاله. وربما عكس هذا الموقف المفارق الشعور العميق الذي يخالج المواطن العربي العادي بأنه لا حول له ولا قوة في مواجهة الأوضاع القائمة وإدراكه أنه لا خيار له -في ظروف تجريده من أي وسيلة وقدرة على المبادرة والفعل- إلا التسليم الكريه لقوى خارجية في حسم النزاعات الداخلية المستمرة منذ عقود، والتي ما كان من الممكن لنظام الحزب الواحد الذي يتميز بشكل خاص بضيق النظر وانعدام الأفق وبطء التفكير، والذي صيغ لإبقاء السيطرة غير المبررة وغير المشروعة لفئة واحدة على المجتمع ككل، أن يجد المخرج الطبيعي منها.

 

ولا يختلف رد فعل المثقفين والناشطين السياسيين عن ذلك، فرغم الإدانة التي وجهوها لهذه التهديدات ورفضهم لها جملة وتفصيلا يعتقد الكثير منهم أنها ربما تشكل الضغوط الوحيدة القادرة على دفع النظام إلى إعادة النظر في سياساته الوطنية والتخلي عن منطق احتكار السلطة والاعتماد على القمع الأمني في ضمان الاستقرار.

بل ليس من المؤكد أن مثل هذا الموقف المفارق لا يمكن ملاحظته داخل صفوف السلطة نفسها، فالكثير من دعاة الإصلاح الذين أغلق المحافظون عليهم كل الأبواب وأجهضوا محاولاتهم العديدة للخروج من نفق الحزب الواحد يعتقدون أن مثل هذه التهديدات قد تكون مفيدة لدفع خصومهم إلى القبول بالتنازلات التي رفضوا القبول بها من قبل، وأنها ربما تتيح الفرصة لإعادة تحديد دور حزب البعث الحاكم في البلاد وبالتالي التخلص من دكتاتورية الحرس القديم الذي لا يفكر بشيء آخر سوى الدفاع عن مصالحه وامتيازاته.

وتتردد الأوساط الرسمية التي تعاني من ارتباك واضح بين التشاؤم الناجم عن الاعتقاد بأن الغاية من الحملة الأميركية هي الإطاحة بآخر الأنظمة القومية التي لا تزال ترفع شعار المقاومة ضد السيطرة الخارجية، وبين التفاؤل بإمكانية التفاهم مع الولايات المتحدة والاتفاق معها وبالتالي إنقاذ النظام. ويستند هذا الجناح في تفاؤله بإمكانية الحفاظ على النظام في وجه العاصفة الأميركية إلى عمق التعاون الذي حصل حتى الآن في مجال الحرب المشتركة على الإرهاب والذي نوهت به واشنطن في مرات عديدة سابقة.

ولا يمكن الجزم بالاتجاه الذي يمكن أن تتخذه الأحداث من دون معرفة ماذا ترمي الولايات المتحدة اليوم بالضبط من وراء تهديداتها المستمرة لسوريا: هل ترمي بالفعل إلى إسقاط النظام السوري كما يعتقد البعض أم أن كل ما تريده هو الضغط على النظام القائم من أجل إخضاعه واستخدامه لتحقيق أهدافها الإستراتيجية الإقليمية، أم أنها تريد -وهذا ما أعتقده اليوم- تعديل النظام السوري وتطويره وتحديثه بما يجعله صالحا للتفاعل الإيجابي مع متطلبات السيطرة الأميركية في المنطقة؟

لكن مهما كان الحال، لا يمكن للنظام السوري أن يعزز قدرته على مقاومة إرادة السيطرة الأميركية النازعة إلى إخضاع جميع دول المشرق العربي لإستراتيجيتها العالمية، كما لا تستطيع أن توازن حرمانها من هامش مبادرتها الإقليمية إلا بتوسيع هامش مبادرتها الداخلية وتحرير النظام من الخوف الأمني الذي يبعده عن المجتمع ويحرمه من أي قدرة على المناورة الخارجية.

وليس هناك وسيلة لذلك إلا في العمل السريع على قبول التغيير من الداخل وبإرادة محلية بدل الاضطرار للقيام بهذا التغيير تحت الضغط ومن منطلق خدمة المصالح الأجنبية. وفي مقدمة ما يستدعي التغيير هو تغيير المناخ السياسي السائد الناجم عن احتكار الحزب الواحد للسلطة والقرار، وفسح المجال أمام جميع المواطنين لتحمل مسؤولياتهم الوطنية وممارسة دورهم والمشاركة في الدفاع عن وطنهم وفي تقرير مصيرهم. وفي السياق نفسه يتطلب تعزيز الثقة بين الحكومة والشعب التخلي عن سياسات القمع السابقة وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المنفيين وطي صفحة الاعتقال السياسي.


إن قطع الطريق على الابتزاز الخارجي الذي سيستمر طالما شعرت واشنطن بهشاشة الموقف السوري الداخلي يتطلب الإصلاح السريع للعلاقة بين المجتمع والسلطة والمبادرة بإلغاء جميع التدابير والقوانين التي تمنع قيام دولة القانون وتكرّس التمييز بين المواطنين -مهما كان نوع هذا التمييز- وبكف يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في الحياة السياسية، وإطلاق الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان. وكل ذلك على طريق الإعداد لمؤتمر وطني شامل تشارك فيه جميع القوى الحية في البلاد السياسية والنقابية والثقافية والاقتصادية من أجل معالجة مشكلات الإصلاح والتغيير وإعادة البناء بما يمكّن البلاد من توحيد كلمتها ومن الوقوف بقوة في مواجهة التهديدات والرد بنجاح على التحديات الراهنة والمقبلة. إن الديمقراطية هي الرد الحقيقي الوحيد على الاستعمار وقطع الطريق على كل أشكال الابتزاز