الامبريالية ومستقبل الديمقراطية

2010-09-15:: الاتحاد

 قلت في مقال سابق إن نوعية الدول مرتبطة بموقعها على خريطة المنظومة العالمية الواحدة للدولة، وكذلك نصيب كل منها من موارد السلطة الرئيسية، أي من السيادة والموارد المادية واللامادية الضرورية لتحقيق الاندماج الداخلي وبناء الجماعة الوطنية وضمان حد أدنى من النمو والاستقرار.

فالنخب التي لا تملك في هذا النظام إلا قسطا ضئيلا من الموارد السياسية اللازمة لبناء الأمة وضمان حد أدنى من التنمية، تجد نفسها محصورة بين نارين، نار النظام الدولي الذي يسعى إلى استغلال تبعيتها لتجنيدها في خدمة أغراض السيادة العالمية، ونار المجتمعات التي تطلب منها الرد على حاجاتها السياسية، وتحقيق مفهومها بوصفها دولة الأمة والشعب، أو دولة قومية.

على هذا الأساس تتوزع الدول على أصناف أو طبقات مختلفة تماما في أسلوب اشتغالها ومصائرها، رغم تفاعلها في مابينها: تلك التي تفرض أجندتها السياسية على العالم أجمع، وتتصدى لمهام قيادة المنظومة الدولية، وتتصرف كما لو كانت مسؤولة عن المصائر العالمية، وتلك التي لا تملك شروط بقائها، وتخفق أحيانا في إعادة إنتاج ذاتها كدولة، فتصبح ، حسب المفاهيم السائدة، دولة فاشلة ودولة مفككة ومنحلة. وعلى هذا الأساس أيضا يتميز سلوك النخب، فيدفع الضعيفة والتابعة منها إلى الاستقلال عن شعوبها بمقدار ما يربط استقرارها واستمرارها بتلبية حاجات الدول المسيطرة ونيل رضاها، أي بشرعية خارجية، وتلك التي تستند في وجودها إلى نيل رضى شعوبها وتعتمد على الشرعية السياسية. والأخيرة وحدها مؤهلة كي تصبح دولة ديمقراطية أو دولة شعبها، أما الثانية فلا تصيره إلا بالتبعية.

وهذا ما يفسر تحول الدول، في أكثر مناطق العالم، إلى إداة لأسر الشعوب وقهرها عتلى نطاق واسع، بدأت آليته تترسخ بعد الحقبة الاستقلالية القصيرة، نهاية الحرب العالمية الثانية. كما يفسر نجاح نخب هذه البلدان في مصادرة موارد الشعوب ووضع يدها عليها، واستخدامها لتحقيق اندراجها في منظومة التجارة والسيادة الدولية على حساب تهمش شعوبها وإفقارها وتجويعها.

فبدل أن تكون الدولة إطارا لبناء الجماعة القومية وتوحيدها في نسق أمة متضامنة ومتكافلة، تحولت هنا إلى موضوع رهان أول، وفجرت، كما لم يحصل من قبل، حتى في الحقب القرسطوية، النزاعات بين الجماعات الدينية والإتنية والمذهبية، حتى ليكاد الصراع على الدولة يشكل مختصر تاريخ الشعوب التابعة السياسي، اليوم، ويلغي تماما معركة بناء الدولة ذاتها، أي الكفاح المشترك من أجل تأهيلها وتطويرها من الداخل وجعلها اكثر تطابقا مع إرادة الجماعة السياسية.

وأسبقية الصراع على الدولة، أي السيطرة عليها، بدل الصراع لتحويلها وتحقيق فكرتها هو الذي يفسر أيضا التطور المتفاوت والمتناقض في بلداننا لثقافة النخب التي استقلت بالدولة وحافظت على مظاهرها "العلمانية" أو شبه العلمانية التي تمكنها من التماهي مع النظام العالمي والانخراط فيه والتواصل معه، وثقافة الغالبية الشعبية التي انكفأت على القيم التقليدية وجعلت من التراث الديني مرجعيتها الرئيسية ، السياسية والأخلاقية والروحية، في مواجهة إقصائية النخب الحاكمة وحلفائها الدوليين معا.

ولعل خدعة التاريخ االحديث الأهم تكمن في أن تجريد الشعوب من حقوقها وإعادة توجيه آلة الدولة الحديثة التي يفترض أن تساهم في تحريرها، ضدها ، ومن أجل استعبادها، قد حصل في تلك البلدان التي نجحت فيها النخب، باسم المباديء الثورية والتغييرات الرديكالية، أي الحرية والسيادة القومية والعدالة الاشتراكية، في احتكار السلطة والقضاء الكامل على العناصر القانونية والسياسية والفكرية التي تهيكل المجتمعات، وتسمح لها بتوجيه مقاومة تضمن استقلاليتها للسلطة المركزية. ومن هذه العناصر احترام القانون والمؤسسات والرأي الآخر، وصون كرامة الإنسان وحقه في الحياة والأمن. فباسم التغيير الجذري استباحت النخب الثورية كل المحرمات التي كانت الدول التعددية السابقة، "الرجعية"، مضطرة إلى مراعاتها. هكذا تبدو الشعوب التي انخرطت في الحركات الثورية الأكثر وعدا، والتي بذلت الكثير من أجلها، ضحية الدولة المنقوصة أكثر بكثير من تلك التي أخفقت في ثوراتها أو قبلت بالخضوع للسطة التقليدية.

فقد مكن ذلك النخب الجديدة الانقلابية من مصادرة ألة الدولة، بعد مصادرة الإرادة الشعبية ، واستخدامها لأغراض الاستقرار العالمي، أي لضمان التفاهم والتعاون بين النخب المحلية والدول الكبرى المسيطرة على النظام الدولي.

والقصد أن ظاهرة النظم التي نسميها عموما إستبدادية، من ديكتاتورية وسلطانية جديدة وفاشية مجددة، مما يسود حقبتنا الراهنة، هي وجه من وجوه الدولة المنقوصة أو المشوهة، وأن استمرارها لا يرتبط فقط بشروط بناء الدولة الداخلية ولا بإرادة النخب المحلية فحسب، ولكن جذوره تمتد عميقا في بنية نظام الدول العالمي، أي في التفاوت الصارخ في رصيد الدول كما تحدده هذه البنية العميقة، أو في ماكنا نطلق عليه في أدبيات القرن العشرين اسم الامبريالية. وأن موجات التحرر والقضاء على الاستبداد، حتى عندما تكون شعبية حقيقية، كما حصل في البلاد العربية واليوم في ايران، غالبا ما تتكسر على صخرة بنية نظام العلاقات الدولية ولا مساواتها العميقة بين الدول والشعوب. فينقلب حلم التحرر إلى كابوس استعباد واستبداد راسخين.

ويعكس تاريخ العديد من الدول التابعة تردد نخبها الدائم بين التمرد على النظام الدولي الذي غالبا ما يقود إلى العزلة والإفقار، فتكتسب اسم الدول المارقة، وبين الالتحاق بالدول الكبرى المسيطرة والتكيف مع حاجاتها الاستراتيجية والعمل تحت إشرافها، وهو ما يمنحها حق التنعم باسم الدول المعتدلة أو الحليفة.

مما يعني أن السعي إلى الديمقراطية، وما تتطلبه من تحويل بنية علاقات السلطة داخل المنظومة الوطنية، لا يمكن أن ينفصل عن السعي الموازي لتغيير بنية علاقات السلطة داخل المنظومة العالمية التي تؤسس للتفاوت بين الشعوب من حيث حظها من التقدم والاندراج في الدورات الحضارية التاريخية، بما فيها الدورة السياسية. وأن تعظيم فرص إدماج المجتمعات قوميا لا ينفصل أيضا عن النجاح في إدماج الدول والبلدان عالميا أو في منظومة السيادة العالمية. وأن أي استراتيجية وطنية للتحولات الديمقراطية، لا يمكن أن تستغني عن استراتيجية دولية لتحويل أو تغيير البنية الامبريالية التي تطبع النظام العالمي، ولا عن التحولات الأخرى الاستراتيجية والاقتصادية والإعلامية. إن الديمقراطية لم تعد مسألة وطنية محض، ولن تتقدم بوصفها مسألة وطنية، وإنما تتطلب عملا جماعيا عابرا للقوميات، في موازاة تطور عقيدة إنسانية تؤمن بالمساواة بين الشعوب والبلدان والمجتمعات.

لا يعني هذا أنه لا يمكن العمل داخل حدود الدولة الوطنية لإحداث تحويلات وإصلاحات ذات طابع ديمقراطي. كما أنه لا يعني أن مثل هذه الإصلاحات ليست ممكنة. بالعكس، هذا هو المطلوب والمنشود. لكن ينبغي على العاملين في هذا الميدان أن يدركوا أن نشاطهم لا ينفصل عن سياقه العالمي، وأن حصيلة نضالاتهم مرتبطة أخيرا، أي على المدى البعيد، بتحول بنية النظام العالمي ذاته، وأن انعزالهم أو عزلهم عن العالم يشكل إحدى أهم استراتيجيات حماية الاستبداد واستمراره.

لكنه يعني أيضا، في ما وراء ذلك كله، أن الديمقراطية لن تستقر في بلد ما إلا بمقدار ما تزداد، داخل النظام الدولي نفسه، ومن خلال تحويله، فرص تعميم قيم الحرية والمساواة والدولة القانونية، وتجاوزها نطاق نادي الدول الصناعية الراهن أو أدماج جميع الدول تدريجا في هذا النادي ذاته.