الأزمة العربية الأمريكية ،على نفسها وشعبها جنت براقش

2002-09:: الجزيرة نت

عندما انفجرت الأزمة الدولية الكبيرة في أعقاب العمليات التي قيل أن منظمة القاعدة الاسلامية قامت بها في الحادي عشر من سبتمبر 2001, كان من الواضح أن الولايات المتحدة سوف تستثمرها أقصى استثمار في سبيل تصفية الحسابات القديمة التي لم تجد فرصة لتصفيتها مع جميع الأطراف الدولية الحكومية والأهلية من جهة وتوسيع دائرة هيمنتها العالمية وتأكيد قيادتها أو دورها القيادي على اتساع الكرة الأرضية من جهة ثانية. كان هذا الميل واضحا في الإدارة الأمريكية لدرجة كنا نشكك مع العديد من الأوساط الدولية الأخرى بأن لا يكون للبنتاغون أو للمخابرات المركزية ضلع ما فيها. وقد كنت أعتقد ولا أزال أن بعض أوساط الأمن الأمريكي كان على علم بأن عمليات إرهابية ما كانت في عداد التحضير ولكنها لم تتصرف بالسرعة الكافية إما لأنها كانت واثقة أكثر مما يلزم بأن أراضي الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون هدفا لمنظمات إرهابية أو لأنها كانت تريد أن تستخدمها في سبيل تبرير انقلاب سريع في السياسات الأمنية القومية لكنها لم تكن تتصور أن تكون بالحجم والقوة التي كانت عليها. و بهذا المعنى يمكن أن تكون قد وقعت هي نفسها في الفخ التي كانت قد نصبته لغيرها. لكن بصرف النظر عمن قام بهذه العمليات ومسؤولية أجهزة الأمن الأمريكية, كان من الواضح من الأيام الأولى أن أمريكا لن تترك مثل هذه الفرصة تمر من دون أن تستغلها لتحقيق أهداف استراتيجية كبرى تلقى معارضة كبيرة من قوى عالمية متعددة لم تهضم ولن تهضم استفراد واشنطن بالقرار الدولي بعد زوال الحرب الباردة وقطعها الطريق على تكوين نظام متعدد القطبية حتى لو لم يكن متساو أو متكافئ في المسؤوليات. وهكذا قامت الادارة الامريكية الجديدة ببلورة مفهوم واستراتيجية الحرب الدولية ضد الارهاب لتجبر جميع الفرقاء الدوليين, الكبار والصغار, على الركوب معها في مركب واحد, والتعاون معها في ابصال المركب إلى الوجهة التي تريدها واشنطن وحدها, من دون سؤال ولا تردد ولا حتى التفات إلى الوراء.
وكان من الواضح كذلك أن المسرح الرئيسي للحرب العالمية ضد الارهاب لن تكون أوربة ولا آسيا ولا أمريكا اللاتينية ولا أفريقيا ولكن منطقتين رئيسيتين هما آسيا الوسطى والشرق الأوسط. فمن جهة أولى تحتوي المنطقتان على أهم مخز ونات الطاقة العالمية وتحتلان مواقع استراتيجية استثنائية تجعلهما موضع تنافس تاريخي بين القوى الدولية المتنافسة الآسيوية والأوربية والأمريكية, ومن جهة ثانية لم تنجح أي منهما في تجاوز تفتتها وهشاشتها الجيوسياسية والاقتصادية والسياسية. فهما منطقتا قلاقل واضطراب وعدم استقرار. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانا المصدرين الرئيسين في العقود الثلاثة الماضية للمنظمات والحركات الموسومة بالارهابية ومركز الحضارة التي اعتبرها المنظرون الأمريكيون اليمينيون على أنها الحضارة التي لا تزال تقاوم الغرب وتتعارض في قيمها ومبادئها مع ثقافته وترفض التفاهم والحوار. إن صورتهما هي صورة المناطق المتمردة والعاصية على عهد السلام الغربي حلم خاصة الأمريكي.
ومما لا شك فيه أن الفوضى السياسية والاجتماعية والعقائدية التي تعم المنطقتين لأسباب مختلفة أهمها الحرب الاستعمارية الاستيطانية الاسرائيلية المستمرة منذ نصف قرن وإخفاق مشاريع التنمية والاصلاح الاجتماعي, والانقسام والتناحر المستمر بين الدول والبلدان, وعجز النخب المحلية الحاكمة والأهلية عن ايجاد حلول لأزمة المنطقتين المستمرة منذ ثلاثة عقود متواصلة مع ما تنتجه من ظواهر تتحدى المعايير الحضارية وتصطدم بها, ما كان لكل ذلك إلا أن يقدم أفضل ذريعة لتيارات اليمين القومي الأمريكي المتطرفة كي تفرض سياساتها وتعزز الضغوط العسكرية والسياسية في اتجاه إعادة السيطرة المباشرة على المنطقتين.
والواقع أن الحكومات العربية والآسيوية لم تدرك حقيقة الطفرة التي طرأت على الاستراتيجيات العالمية بعد أحداث ايلول والنزعات الجديدة التي بدأت تسيطر عليها. فاعتقدت بسذاجة أن التعاون الايجابي مع واشنطن في الحرب الدولية ضد الارهاب والتمسك بشكليات القرارات الدولية وعدم الابتعاد عن الاتحاد الاوروبي سيكون ذلك كله كافيا لدرء المخاطر والخروج من الأزمة من دون خسائر كبيرة. وهكذا لم تفعل الحكومات المعنية شيئا يذكر لتعزيز دفاعاتها الاستراتيجية والسياسية والايديولوجية واستمرت تعيد إنتاج نفسها على المنوال السابق كما لو أن شيئا لم يتغير في العالم. بل إن الكثير منها ذهب أبعد من ذلك واعتقد أن من حقه هو أيضا أن يستثمر الأزمة الدولية ذاتها واستراتيجية الحرب الأمريكية ضد الارهاب في سبيل تحقيق أهداف خاصة ومراكمة مرابح غير منتظرة من أهمها القضاء على استحقاقات التحول الديمقراطي والسعي إلى تصفية المعارضات الداخلية بتغطية دولية والالتفاف نهائيا على منظمات وجداول عمل حقوق الانسان المزعجة.
إن هدف الولايات المتحدة من الهجوم الاستراتيجي الشامل على منطقتي آسيا الوسطى والعالم العربي هو تحويل بلدانه ودوله الصغيرة والضعيفة إلى بيادق تستخدمها في لعبتها الدولية وصراعاتها العالمية الكبرى. وهي عازمة على ذلك بصرف النظر عن ولاءات هذه الدول التي لا تشك فيها وكذلك عن استعدادها الواضح والذي لا يمكن لواشنطن ان تشك فيه لتقديم جميع الخدمات التي تطلبها منها. فالولايات المتحدة ليست بحاجة كبيرة إلى هذه الخدمات ولا تعتقد أن انتزاعها من دول مثل دول المنطقة مسألة شاقة تستحق النقاش والحوار والصراع. إن ما يهمها هو أن تمسك هي نفسها بدفة القيادة في هذه الدول ذاتها حتى تستطيع أن تستخدمها بصورة مستمرة ومتسقة في استراتيجية السيطرة الدولية وتأكيد القيادة العالمية. بل إن ما تريده ليس حكومات عميلة لها, كما يعتقد البعض, تسير بركابها وتنفذ سياساتها ولكن سيطرة مباشرة ومتصلة تضمن لواشنطن تسييرا فوريا ومضمونا لها يتفق مع حاجات مناورتها الاستراتيجية.
ما كان بإمكان الدول العربية والآسيوية الاسلامية التي ستشكل المسرح الرئيسي للحرب العالمية ضد الارهاب وهدفها المباشر معا أن تتجنب مخاطر التحول إلى بيادق في شطرنج الاستراتيجية الأمريكية الشاملة أو العولمية, إلا بالقيام بمبادرة سريعة وشاملة تضمن لها تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية. الهدف الاول جيوستراتيجي يرفع من قدرتها جميعا على المقاومة. والثاني سياسي يعيد ربط النظم القائمة بشعوبها ويوسع من دائرة القرار ويغير من طريقة صوغ القرار السياسي نفسه. والثالث اقتصادي يفتح أمام جميع البلدان الصغيرة فرص نمو اقتصادي واجتماعي سريع ومضمون يخفف من الضغوطات والاضطرابات الاجتماعية ويطمئن الدول الكبرى والأوربية منها بشكل خاص على إمكانية سيطرة هذه الدول على مصيرها وعدم انفجار الهجرات الجماعية. وأتذكر أنني قد ذكرت في أول تعليق لي على أحداث ايلول الكارثية أنه لم يعد أمامنا من خيار إذا أردنا تجنب الضغوطات الهائلة القادمة سوى العمل بسرعة وجدية على ثلاث محاور رئيسية تشكل دعائم الاصلاح المطلوب الذي يمكننا من الخروج من الأزمة: أولا تكتل اقتصادي عربي يضمن إطلاق عملية التحديث والتنمية على أسس جديدة ويغير من وزن الاقتصاد العربي ككل في الجيواقتصادية العالمية. ثانيا تحويل ديمقراطي سلمي يزيد من سماكة الدول الهشة بسب نمط السلطة الفردية أو الشخصية ويغير من صورة المجتمعات العربية لدى الرأي العام العالمي الذي يكاد لا يمانع في أن تقوم الدول الكبرى بتوجيه ضربة قوية للدول الاستبدادية والفاشية لتغيير أنظمتها إن لم يعتقد بأن استبدادية الأنظمة هي تجسيد للانحطاط الأخلاقي للمجتمع نفسه. وثالثا بناء اتحاد عربي سياسي من الدول العربية الرئيسية يضاعف الوزن الاستراتيجي العربي مرات ويجعل من الصعب ابتلاع العرب بسهولة أو من هضمهم كلقمة سائغة.
والحال أن الحكومات العربية بدل أن تقوم بذلك اعتقدت أن الظرف قد حان كي تتراجع عن الانفتاحات الجزئية التي اضطرت إليها في السنوات السابقة نحو بعضها البعض وفي اتجاه المجتمع واستمرت, بالعكس مما كان ينبغي أن تفعله, في تناحرها ورعاية انقساماتها وتعزيز نظمها الأحادية والاستبدادية, بما في ذلك في الدفاع عن النظام العراقي الذي كان عليها أن تعمل المستحيل لمساعدته على التغير وفك أزمة الشعب العراقي المحاصر في الواقع من طرف النظام وطرف الولايات المتحدة في الوقت نفسه. لكن هل كان بإمكانها أن تفعل ذلك أو تفكر به وهي لا تسعى إلى شيء آخر سوى الحفاظ على نمط النظام نفسه في بلادها ذاتها؟
مهما كان الأمر, ما كان من الممكن لهذه السياسات الساذجة واللاعقلانية وغير المسؤولة معا إلا أن تقود إلى الوضع الذي نحن فيه. وهو الوضع الذي يجعل العالم العربي يقف مشلولا أمام ما ينبغي أن نسميه بحق وموضوعية الاستعمار الأمريكي الجديد الزاحف. وللأسف ليست النظم القائمة هي وحدها المعرضة لدفع ثمن غال لسياساتها الخاطئة ولكن مصالح الشعوب العربية جميعها. وهذا ما ينبغي أن يدفع هذه الشعوب أكثر فأكثر إلى أن تدرك أن التساهل مع أنظمة فاسدة لا يقف عند حد التنازل عن الحقوق الأساسية وتكريس امتيازات النخب الاستبدادية ولكنه يمكن أن يقود إلى الدمار الشامل, وأن الثمن المطلوب لتغيير مثل هذه الانظمة, يبقى, مهما ارتفع, أقل بكثير من الثمن الذي سندفعه بسبب تركها تتصرف على هواها وتقرر المستقبل المظلم لجميع الأجيال. وفي هذا المجال ريما يستحق منا مثال العراق وشعبه الشهيد تأملا أبعد من ذاك الذي تريد لنا نزعة تقمص الضحية الطبيعية للقوى الخارجية أن نغرق فيه.