استمرار التعبئة هو السلاح الوحيد الباقي لربح المعركة ضد العدوان

2002-05-:: الاتحاد

يبعث ما يعتقد البعض بأنه بداية تغيير في الموقف الامريكي والاسرائيلي ولو كان تغييرا نسبيا بعد فك الحصار عن ياسر عرفات والحديث عن ضرورة قبول الاسرائيليين بمواكبة مفاوضات وقف العنف الامنية بمفاوضات سياسية موازية امالا جديدة عند الرأي العام العربي الذي أفلجه موقف التواطؤ الامريكي الواضح مع الهجوم الاسرائيلي في جنين وجميع المدن الفلسطينية الاخرى. ولن تمر فترة طويلة قبل ان تنطلق الاصوات والاجراءات الرامية الى ضرب التعبئة الشعبية الواسعة التي حصلت من حول معركة الفلسطينيين التاريخية في مواجهة الغطرسة والاحتلال. ويكاد يتغلب الشعور عند الكثير من العرب بأن المعركة قد انتهت وان الولايات المتحدة التي أخفقت مع اسرائيل في كسر ارادة القتال الفلسطينية وعجزت عن تبديل قيادة الرئيس ياسر عرفات سوف تضطر لا محالة للاستجابة للدعوات العربية العديدة من اجل سلام شامل ولمنطق العقل والسياسة. ومما يزيد من هذا الشعور المتفائل الرد شبه الايجابي الذي قابلت به واشنطن مبادرة الامير عبد الله ولي العهد في المملكة العربية السعودية وهي المبادرة التي تحولت بعد مؤتمر قمة بيروت الى مبادرة عربية والاعتقاد بأن الادارة الامريكية لا بد ان تفهم اخيرا بان الابقاء على الوضع الراهن كما هو في الشرق الاوسط والاستمرار في التواطؤ مع القيادة الاسرائيلية لا يمكنهما الا ان يقودا الى حالة يصبح من الصعب فيها ضمان المصالح الامريكية الكبرى في العالم العربي وفي مقدمها امن اسرائيل ذاتها والمصالح النفطية الاستثنائية.

لكنني لا أعتقد ان هناك أي سبب للتفاؤل في المستقبل القريب. وأي تسليم لفكرة الاقتراب من احتمال بدء مفاوضات سياسية جدية مع واشنطن وشارون يعكس استمرار العرب في الاستسلام لأوهام الكلام والاقوال في المواجهات المصيرية وعدم قدرتهم بالرغم من كل المحن التي مررنا بها على تجاوز سذاجة الاعتقاد بأن الاخر سوف يكتفي بالكسب الصغير الذي حققه بل احيانا على تجاوز الميل الى اغراء الذات واقناعها بانتصارات ومكاسب وهمية.

سجل العرب بالتأكيد بفضل المقاومة البطولية للمقاومين الفلسطينيين في جميع مدن وقرى الضفة الغربية وغزة وكذلك بفضل التظاهرات الشعبية التي عمت جميع الدول العربية والاصداء الكبيرة التي لقيها هذا الكفاح البطولي في العواصم الدولية ولدى الاوساط الديمقراطية والمتنورة من الرأي العام العالمي مكاسب سياسية لا شك فيها. فقد اظهرت هذه المقاومة الباسلة كما لم يحصل في أي حقبة ماضية مدى تصميم الشعب الفلسطيني ومن ورائه الشعوب العربية على مواصلة الكفاح ورفض التفريط بالحقوق الوطنية والارض. كما أكدت الاحداث الاخيرة لواشنطن واسرائيل انه لا يوجد هناك أي حل أمني لضمان المصالح الامريكية والامن الاسرائيلي. وبالمثل اظهرت الحرب الوحشية الاسرائيلية الصورة الحقيقية لاسرائيل وحرمتها من امكانية المناورة بمفاهيم الشعب الضحية للعداء للسامية والدولة الاستثنائية.

 لقد خسرت اسرائيل الكثير على المستوى السياسي والاخلاقي في الوقت الذي خرج فيه الشعب الفلسطيني من المحنة اكثر ايمانا بقضيته وتصميما على استمرار كفاحه وأكثر تفهما من قبل الرأي العام العالمي لعدالة مطالبه. ولعل الكسب الاهم الذي حققه الشعب الفلسطيني نتيجة استبساله في المقاومة هو تكريس الاعتراف به كطرف لا يمكن تجاهله ولا التنكر له في أي مسعى جدي للخروج من الازمة الاقليمية العميقة التي وضعت سياسة اسرائيل العدوانية المنطقة فيها بعد انهيار عملية مفاوضات التسوية السياسية.

لكن هذه المكاسب السياسية والاخلاقية التي حققها الشعب الفلسطيني ليست كافية لكسر ارادة العدوان واقناع الرأي العام الامريكي المناصر بقوة لاسرائيل بعدالة القضية الفلسطينية ومن باب اولى اقناع الرأي العام الاسرائيلي الذي يسير وراء شارون بضرورة التراجع عن نزوعاته التوسعية العنصرية والتسليم بالحقوق الوطنية الفلسطينية. بل ان العكس هو الصحيح. ان اسرائيل سوف تعمل المستحيل كي تجعل من انتصارها العسكري انتصارا سياسيا وسوف تستخدم جميع الوسائل كي تقنع الادارة الامريكية بضرورة اطلاق يدها في سياق البحث عن وقف النار وبدء مفاوضات سياسية جديدة بصورة مستمرة في الارض الفلسطينية للاستمرار في مكافحة ما تسميه بالارهاب. ولن يكون لدى الولايات المتحدة الامريكية أي حافز في نظري كي تزيد من ضغطها على الحكومة الاسرائيلية ما دام من الممكن الاستمرار في ضرب قوى المقاومة الفلسطينية ومواصلة المفاوضات السياسية في الوقت نفسه.

لن يزعزع هذا الموقف الا التمسك بوحدة الشعب الفلسطيني واستمرار المقاومة بشتى اشكالها والابقاء على الالتفاف الشعبي العربي حول هذه المقاومة. فهذا وحده هو الذي سيجعل الوضع مستحيل الاحتمال في اسرائيل ومن قبل الحكومة الاسرائيلية. وهذا يعني انه بعكس ما تبرز المظاهر لا تزال المعركة مستمرة كما كانت من قبل وبشكل اعنف وان كان ذلك بوسائل متعددة ومختلفة احيانا. فالولايات المتحدة واسرائيل, وهما في شراكة حقيقية اليوم ضد العالم العربي وفي مقدمه فلسطين والقضية الفلسطينية, سيسعيان مهما كلف الامر باستخدام كل اشكال المناورة السياسية والاعلامية لاستكمال الانتصار العسكري بانتصار سياسي يبدو اكثر فأكثر صعب المنال. وبالمقابل فآن المقاومة الفلسطينية وفي مقدمها السلطة الوطنية سوف تسعى الى استثمار الكسب السياسي والاخلاقي الذي تجلى عبر المقاومة البطولية وتعميم روح الاستشهاد والتضحية عند الشعب الفلسطيني كما لم يحصل لدى شعب اخر من قبل, وليس المقصود بذلك العمليات الفدائية فحسب ولكن قبول الشعب الفلسطيني كله بالانخراط في المعركة وبتحمل نتائجها من دون تردد ولا ملل, أقول سوف تسعى لاستثمار هذا التفوق المعنوي الكبير لتفريغ مكاسب شارون العسكرية من كل مضمونها بل وتحويلها الى خسارة سياسية. وخوف اسرائيل من ذلك هو الذي يفسر الموقف العدائي الذي اتخذته تل أبيب من بعثة الامم المتحدة لتقصي الحقائق في جنين بعد ان كانت قد قبلت التعاون معها. وهو الذي يفسر كذلك اصرار واشنطن بالرغم من كل ما يقال على ترداد شعار وقف العنف من جانب القيادة الفلسطينية من دون أي إشارة مهما كانت محدودة للعنف الاسرائيلي بل مع التشكيك بصحة المعلومات العربية والدولية عن ارتكاب القوات الاسرائيلية جرائم ضد الانسانية في جنين وغيرها من المدن الفلسطينية. وقد اظهر موقف الولايات المتحدة من تحدي اسرائيل لقرارات مجلس الامن الخاصة بارسال هذه اللجنة الى أي حدلا تبدو واشنطن مستعدة كثيرا, في سبيل تسهل امكانية العودة الى المفاوضات السياسية, لتمييز موقفها عن موقف الحكومة الاسرائيلية.

وفي هذه المرحلة بالذات يحتاج الشعب الفلسطيني اكثر من أي مرحلة اخرى الى استمرار التعبئة من ورائه في جميع المواقع وبجميع الامكانيات لتحويل المكاسب السياسية والاخلاقية الراهنة الى انتصار ناجز يجبر واشنطن وتل أبيب معا, ولا بديل عن ذلك, على التسليم بأن استمرارهما في القتال لن تكون نتيجته سوى مراكمة المزيد من الخسائر البشرية والسياسية والاخلاقية والدمار.