هل غيرت أحداث ايلول 2001 اختيارات واشنطن الاستراتيجية؟

2002-09-10:: الوطن

 

بالرغم من مظاهر القطيعة التي يمكن أن تبدو كبيرة مع عالم ماقبل ايلول 2001 فإن النظر في التاريخ والعودة إلى وقائع العقد الماضي تبين لنا أن ما نعيشه اليوم بعد سنة على مرور هذه الاحداث ربما لا يختلف كثيرا من حيث الإطار العام عما شهدناه من قبل, حتى لو جاء في صورة أشد قوة وشمولا. فلم تبرز قوة التفوق الأمريكي والسيطرة التي تنجم عنه في ايلول 2001 ولكنهما ولدا مع زوال الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة. وقد قدمت الحرب العراقية الامريكية فرصة نادرة لتعميد هذا النظام بالدم وتكريسه وبالتالي لقطع الطريق على بروز أي قوى منافسة محتملة أو على بقاء بعضها على الحياد. ونستطيع أن نقول إن الحرب العراقية الأمريكية التي لا تزال مستمرة منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين وسوف تستمر كما يبدو لفترة طويلة أخرى هي التي قدمت وستظل تقدم تمرينا عمليا أمام مرأى الدول جميعا, بما فيها الكبرى, عما يعنيه نظام القطب الواحد ويفترضه, ونموذجا حيا لأسلوب عمله وممارسته. وقدوجدت واشنطن في هذه الحرب المناسبة التاريخية  التي لا تفوت لوضع أسس النظام الجديد الذي تقرر فيه الدولة الأعظم أهداف السياسة الدولية ودور كل طرف في تحقيقها في القضايا السلمية والقضايا العسكرية معا، وذلك حسب جدول أعمال ينبع دائما وبشكل رئيسي من مصالحها القومية. وبهذه المناسبة أيضا طورت الولايات المتحدة, التي كانت تفضل المواقف المنفردة في مواجهة المسائل التي يتطلب حلها المساهمة المادية أو السياسية لجميع الأطراف، اتجاها جديدا يقوم على التدخل من وراء تحالف دولي واسع، كما حصل في حرب الخليج ثم في حرب البلقان وفيما ما بعد في الحرب على الإرهاب.·

 منذ بداية التسعينات من القرن العشرين حاولت إدارة كلينتون الديمقراطية والأكثر حساسية للمشاكل الأمريكية الداخلية أن تستفيد من هذا الدور الأمريكي المركزي في العالم لبلورة سياسة تخدم المصالح القومية الأمريكية وترتكز بشكل رئيسي على توسيع دائرة السيطرة الاقتصادية.  وكان برنامج العولمة الذي ستفرضه الادارة الديمقراطية على المنظمات المالية الدولية وعلى حلفائها الأوربيين واليابانيين معا هو الذي عبر أفضل تعبير عن الترجمة لهذا الدور الأمريكي الجديد في العالم. فأمريكا الأكثر تقدما علميا وتقنيا والأكثر قدرة على المنافسة الاقتصادية كانت تجد في فتح الأسواق وتكوين سوق عالمية واحدة لتبادل السلع والرساميل الوسيلة الأسهل والأقل كلفة لفرض سيطرتها الاقتصادية الدولية وضمان مصالحها القومية.·

بيد أن هذه السياسة المتمحورة حول تحقيق نهضة اقتصادية أمريكية تمتص التناقضات الداخلية وتسمح لأمريكا بضمان تفوقها على العالم وبالتالي ضمان موقعها القيادي لم تلق فقط مقاومة ضمنية من قبل حكومات البلدان الحليفة وفيما بعد من قبل مجموعات مناهضة العولمة النامية في هذه البلدان ولكن أيضا من قبل المركب الصناعي العسكري ومن قبل البنتاغون الذي وجد ميزانية الدفاع تتقلص باستمرار على ضوء التوجهات الجديدة واستقرار السيطرة الأمريكية، داخل الولايات المتحدة ذاتها.· وقد نجحت مناورات مراكز الضغط الأمريكية الداخلية في حسم الصراع الانتخابي الرئاسي لصالح جورج بوش الابن الذي لم يدخل ساحة الرئاسة الأمريكية برصيد سياسي وثقافي مثير للنقاش فحسب بالمقارنة مع كل من سبقه من الرؤساء الأمريكيين ولكن أكثر من ذلك مع حاجة ماسة إلى تثبيت الشرعية التي بدت مجروحة نسبيا·

كان المغزى الرئيسي لانتخابه من قبل المؤسسات الأمريكية القوية والنافذة هو العودة بالسياسة العالمية الأمريكية من المحور الاقتصادي إلى محور التركيز على الأمن القومي الذي كان دائما مرتبطا بنفوذ البنتاغون والمركب العسكري الصناعي· وقد عكس تشكيل حكومة الرئيس بوش هذا التوجه الاستراتيجي الجديد إذ امتلأت المناصب العليا بالعسكريين السابقين والاستراتيجيين المتطرفين لدرجة دفعت البعض إلى التحدث عن عسكرة الإدارة· فديك تشني نائب الرئيس، وكولن باول وزير الخارجية، ودونالد رمسفيلد وزير الدفاع وبول ولفوفيتز وريتشارد ارميتاج وجيمس كلي ولويس ليبي وجون نيفروبونتي المستشارين أو المسؤولين في الإدارة شغروا جميعا مناصب عسكرية أو أمنية خلال حقبة الحرب الباردة  ولعبوا دورا كبيرا خلال الحرب على العراق· بل إن دونالد رمسفيلد هو الذي قاد الحرب الباردة بين أعوام 5791-9891، وطلب من المسؤولين إلغاء استخدام كلمة انفراج من الخطابات الرسمية، وقضى أعوام 0891-0991 في الاعداد لحرب النجوم تحت رئاسة الرئيس ريغن اليمينية المتطرفة· وربما كان هو الأكثر تصلبا في الفريق الأمريكي الحاكم اليوم والأكثر تمثيلا لمصالح البنتاغون· ولا شك أن للتعيينه في مركز وزير الدفاع علاقة بالتقرير الذي كتبه في مايو 2001 قبل أن يحتل هذا المنصب ونشر في 11كانون الثاني 2001 والذي دعا فيه إلى تبني مشروع عسكرة الفضاء.· فقد ركز فيه على <الهشاشة المتزايدة للولايات المتحدة أمام بيرل هاربر فضائية>، واقترح في مواجهتها نشر أسلحة في الفضاء من أجل ردع أي تهديدات محتملة وعند الضرورة الدفاع عن المصالح الأمريكية ضد أي اعتداء.· ومن الغريب أن التقرير قد حدد نمط التهديدات المحتملة بتلك التي يمكن أن تأتي من قبل <أشخاص مثل أسامة بن لادن الذي يمكن أن يستملك وسائل مثل الأقمار الصناعية>.· (ف· غولوب، النزوع الانفرادي الأمريكي، لوموند ديبلوماتيك، تموز 1002).·

وفي أقل من عام من حياة الحكم الأمريكي الجديد تدهور المناخ العالمي بسرعة لم يسبق لها نظير· فقد توترت العلاقات بشدة مع الصين· ودخل العالم في مناخ حرب باردة جديدة مع إقرار برنامج تطوير نظام الدرع الصاروخي ومتابعة سياسة أمنية أمريكية ضيقة من أحد أهم مظاهرها الدفاع غير المشروط عن سياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون في توسيع الاستيطان وتدمير عملية السلام الشرق اوسطية، وتحدي مشاعر العالم العربي والاسلامي والأفريقي معا في مؤتمر مناهضة العنصرية بتبني موقف حماية الاحتلال الاسرائيلي ورفض مناقشة موضوع الاعتراف بالمسؤولية عن السياسات العبودية القديمة· واستعداء الحليف الأوربي بإحباط مشروع اتفاقية ضبط العمليات المالية في ما يسمى بالجنة الضريبية، أي في بعض المناطق التي يتم فيها تبييض الأموال الوسخة وغير الشرعية·

لقد بدت حكومة جورج بوش الابن بمثابة محاولة في التصعيد المبالغ فيه في مفهوم القيادة الأمريكية للعالم، مما وسمها بصورة أكبر من قبل بطابع النزوع إلى السيطرة السياسية والعسكرية بعد السيطرة الاقتصادية· وأصبحت الولايات المتحدة المحكومة من قبل رئيس يعتقد العديد من المراقبين الأمريكيين أنه يجهل العالم إلى حد كبير أكثر نزوعا من أي وقت مضى لفرض رأيها والانفراد في تقرير بالمصير العالمي.·

لقد طرأ تحول عميق على تصور الولايات المتحدة لدورها وموقعها وسلوكها في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة· وجاء ذلك بعد انهيار آخر تكتل دولي كان يحول دون طفور الدور الأمريكي القائد على مستوى المعسكر الغربي إلى دور قائد على المستوى العالمي.· وقد ساهم في ذلك خروج الولايات المتحدة من هذه الحرب بانطباع قوي بأنها هي الدولة المنتصرة في العالم أجمع، وأنه لم يعد هناك ما يقف في وجه قيادتها العالمية. وأصبحت إرادة تحقيق قيادة أمريكا للعالم في متناول اليد وواقعة عينية بعد أن بقيت لفترة طويلة شعارا أو هدفا للتعبئة القومية يلجأ إليه الرؤساء المتعاقبون أو المرشحون للرئاسة. وارتبطت هذه الإرادة المعبر عنها بقوة في لعب الدور القيادي الأول بل الوحيد في العالم بإعادة نظر جذرية في سلوك واشنطن وممارساتها الدولية، بما في ذلك تجاه حلفائها الأوربيين أنفسهم.  وولدت في ثنايا هذه الإرادة وكتعبير عنها فلسفات ونظريات في العلاقات الدولية ومذاهب استراتيجية تعطي لهذه الإرادة الكاسحة لاحتلال موقع القيادة العالمية معناها الحضاري والتاريخي واتجاه سيرها. ومن هذه الفلسفات التي تعكس انتصار الليبرالية المجسدة في النموذج الأمريكي فلسفة نهاية التاريخ، ومنها أيضا،  واستكمالا لها، فلسفة صراع الحضارات التي تبدو فيها أمريكا القائدة العظيمة والشرعية للحضارة الغربية الليبرالية في مواجهة الحضارات المعادية العربية الاسلامية والصينية. ومن هذه النظريات التي ستولد في حركة التطلع إلى القيادة العالمية مذاهب عديدة استراتيجية تفلسف أسس السيطرة الأمريكية على العالم وتقدم رؤية لأدوات هذه السيطرة.

وكانت دراسة سرية كتبت عام 1995 لصالح القيادة الاستراتيجية <ستراتيجيك كومند> التي تتولى في أمريكا مسؤولية الترسانة النووية، بعنوان: المباديء الأساسية للردع بعد الحرب الباردة، ونشرت الأسوشيتد برس في العام الماضي مضمونها، قد رسمت ملامح الاستراتيجية الجديدة التي سيتبعها فريق جورج بوش الابن عندما أكدت  أن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستفيد من قوتها النووية حتى تعطي عن نفسها صورة القوة التي لا تقهر ولا تتردد حتى لو اضطرها ذلك إلى أن تبدو لا عقلانية واتهامية عندما تتعرض مصالحها للتهديد. <إن من الخطر الشديد، تقول الدراسة، أن نظهر أنفسنا على أننا أناس عقلاء ذوي أعصاب باردة· وأسوأ من ذلك أن نظهر أمام العالم أننا نحترم أمورا صبيانية سخيفة مثل القانون والمعاهدات الدولية. ولا بد أن تكون في حكوماتنا عناصر تظهر مستعدة للتصرف بجنون وغير قادرة على ضبط أعصابها. فذلك هو الذي يساعد على بث الخوف وتعميقه في قلب خصومنا>. (نعوم شومسكي، الدولة العاصية، لومند ديبلوماتيك، آب 2000)· وقد سعت الولايات المتحدة إلى تمرير هذا السلوك على الرأي العام الدولي من خلال صوغ مفهوم جديد للعدو الذي سيبدو همجيا إلى درجة يستبعد أن نتعامل معه بأساليب قانونية أو إنسانية. ومن هنا أختلقت الولايات المتحدة مفهوم الدولة الزعرة أو الدول العاصية، أو الخارجة عن القانون، محل الخطر الشيوعي. ومن هذه الدول العاصية التي ذكرتها الدراسة العراق وايران وليبيا وسورية والسودان وكوبا وكورية الشمالية·

ويتفق هذا المنطق مع ما صرح به سكرتير الدولة للخارجية، جورج شولتز في أبريل نيسان  1986 حين قال <إن كلمة مفاوضات لا تعني شيئا آخر سوى الاستسلام إذا لم يسبقها استعراض للقوة>. كما يتفق مع ما جاء في تقرير سري بعنوان <مرشد السياسة الدفاعية>1992-1994 أعده بول ولفوفيتز ولويس ليبّي، وهما اليوم على التوالي، سكرتير الدولة المساعد لشؤون الدفاع ومستشار نائب الرئيس للأمن القومي، من أن على الولايات المتحدة من أجل تأكيد تفوقها الاستراتيجي <منع أي دولة معادية من أن تسيطر على مناطق ذات موارد يمكنها أن تجعل منها دولة كبرى> وكذلك <ردع الدول الصناعية المتقدمة عن أي محاولة لتحدي قيادتنا أو قلب الترتيب السياسي والاقتصادي العالمي القائم> و <إجهاض احتمال ظهور قوى عولمية منافسة> (فيليب غولوب، لوموند ديبلوماتيك يوليو 2001)·

يبين كل هذا أن السياسة الأمريكية الدولية الراهنة ليست وليدة ساعة أحداث الحادي عشر من ايلول 2001 وإنما تمد جذورها عميقا مساعي الإدارة الأمريكية الثابتة من أجل تحقيق التفوق العالمي على جميع القوى، وامتلاك عناصر هذا التفوق أو العلو، في سبيل التمكن من بسط السيطرة الكاملة على العالم واحتلال موقع القيادة فيه. وبالرغم من  أن أحداث ايلول قد قدمت لهذه الإدارة فرصة نادرة كي ما تتمكن من نشر ترسانتها العسكرية والسياسية والايديولوجية بصورة كاملة وعلى مستوى الكرة الأرضية تحت ستار من شرعية الدفاع عن النفس والرد على الهجمات الارهابية, إلا أن النزوع إلى السيطرة العالمية كان واضحا في جميع السياسات الدولية للولايات المتحدة خلال كل العقد الماضي : في السياسات الاقتصادية والمالية، وفي السياسات التكنولوجية، وخاصة في حقل المعلوماتية وتطوير شبكات الانترنيت التي تسيطر عليها، وفي الميادين التجارية. كما يظهر هذا النزوع بصورة واضحة أيضا في موقف الولايات المتحدة من مسألة العولمة ورفضها أي شروط أو تعديلات فيها تخفف من آثارها السلبية على البلاد الضعيفة أو تحمي الثقافات والثقافة العالمية من مخاطر الانجراف في بحر القيم والمعايير التجارية. وكانت حرب الخليج العراقية الكويتية قد قدمت في الميدان الاستراتيجي والعسكري فرصة نادرة كي ما تستعرض واشنطن بحرية كاملة تفوقها التكنولوجي الهائل وتفرض انصياع جميع منافسيها المحتملين لها في كل ميادين القتال التالية من دون نقاش ولا سؤال. ولا يزال هذا النزوع الجارف لتأكيد التفوق والسيطرة العالمية هو الذي يقود جهود في سياساتها الدولية جميعا, والذي يتجلى من خلال الاصرار على لتنفيذ برنامج الدرع الصاروخي كما يتجلى في التحرر من الاتفاقات التاريخية الخاصة بحظر التجارب النووية التي كانت واشنطن قد وقعتها مع الاتحاد السوفييتي السابق. وهو يتجلى أيضا في زيادة ميزانية وزارة الدفاع التي تجاوزت 240 مليار دولار في العام، أي بما يجعلها متفوقة بالقيمة المطلقة على قيمة ميزانيات دفاع الدول التي يحتمل أن تكون في خصومة مع الولايات المتحدة مجتمعة.· وهذا ما دعا محللا مشهورا للاستراتيجية العالمية مثل ف· غولوب إلى أن يعتبر أن سياسة واشنطن تعبر عن إرادة إعادة بناء وتنظيم العلاقات الدولية والعالم من منطلق ميزان القوة وحده، وعلى أساس نظرة ضيقة جدا للمصلحة القومية الأمريكية وإلى أن يقول في النهاية :
إن الولايات المتحدة عادت مع حكومة جورج بوش الابن إلى سياسة الحرب الباردة من دون حرب باردة.