هل إسقاط النظام العراقي اليوم مصلحة عربية؟

2002-06-09:: الجزيرة نت

 

في خطاب تبرير الحرب

 

ما كادت حرب أفغانستان تنتهي، وهي لم تنته بالفعل بعد، حتى طرحت على بساط البحث مسألة حرب العراق الرامية إلى الإطاحة بحكم صدام حسين· ولدرجة ما صدر من تصريحات من قبل المسؤولين الأمريكيين ورجال الصحافة والإعلام عامة حول هذا الموضوع اقتنع الرأي العام الدولي بأكمله بأن حربا جديدة على العراق لتغيير الحكم لامحالة حاصلة وأنها لا بد أن تكون على رأس جدول الأعمال الأمريكية وبالتالي الدولية للشهور القليلة القادمة· وكما يقول المحلل السياسي غراهام فولر في مقالاته التي نشرت في الجزيرة نت، إن جميع المسؤولين الأمريكيين متفقون على ضرورة الحرب ضد صدام حسين، لكن الفرق الوحيد بين الصقور والحمائم في واشنطن هو أن الصقور يريدون عملا فوريا الآن بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى في الشرق الأوسط، أما الحمائم الذين ينتمي إليهم فإنهم يريدون التريث إلى حين التوصل إلى إجماع سياسي ودبلوماسي متين في المنطقة ضد صدام·

وهذا يعني في الواقع أن موضوع الخلاف بين أطراف الادارة الأمريكية بشأن بدء الحرب في العراق هو التوقيت لا غير· وأن الفريق الحمائمي لا يتميز عن فريق الصقور في نوعية الأهداف التي يطرحها في سياسة الولايات المتحدة الخارجية ولا في أسلوب العمل لتحقيق هذه الأهداف الواحدة المجمع عليها، ولكن في تأمين الشروط الأمثل لخوض الحرب· فالحمائم الذين يركزون على التخطيط العقلاني والعمل البارد في مقابل الغبار الذي تثيره الرؤوس الحامية يعتقدون أن خوض حرب ناجحة ضد العراق لا تترك آثارا ونتائج جانبية سلبية تضعف مكاسب الولايات المتحدة فيها أو تهدد الغاية المرسومة لها، حربا ناجحة من وجهة النظر السياسية والعسكرية معا، يستدعي إعدادا سياسيا وفكريا ونفسيا حقيقيا للحكومات وللرأي العام  لجميع الأطراف المعنية، على مستوى العراق ذاته، وعلى مستوى العالم العربي والشرق الأوسط بأكمله· وفي إطار إعداد الرأي العام العربي لتقبل هذه الحرب التي يبدو أن توقيتها سيكون أقرب إلى التوقيت المقترح من قبل الحمائم، أي من دون عجلة، امتشق العديد العديد من المحللين السياسيين الأمريكيين أقلامهم، ومن بينهم ما كتبه غراهام فولر في الجزيرة نت، لإقناع العرب بالفوائد العديدة التي يمكن أن يجنونها منها·

ويترافق هذا العمل المتواصل للمحللين السياسيين لإعداد الرأي العام العربي لقبول فكرة نقل الحرب ضد الارهاب نحو العراق أو إدخال حرب الإطاحة بالنظام العراقي في جدول أعمال الحرب الدولية ضد الارهاب مع العمل الدبلوماسي الناشط لواشنطن في الشرق الأوسط· فكما يشير إلى ذلك جدول زيارات المسؤولين الأمريكيين للعواصم العربية المعنية، سواء أكانوا تابعين لوزارة الخارجية أو للكونغرس أو لمؤسسات سياسية أخرى تقود الحكومة الأمريكية حملة منهجية ومنظمة لإقناع الرأي العام العربي الرسمي بضرورة التعاون الايجابي مع واشنطن لتحقيق أهداف تعتبرها أساسية لقطف ثمار الحرب ضد الارهاب· ومن المؤكد أن الحجج ذاتها التي يقدمها المحللون السياسيون الأمريكيون لإقناع الرأي العام الشعبي هي ذاتها التي ستستخدمها دبلوماسية البيت الأبيض لكسب تأييد الحكومات العربية، مع إضافة طريقة أخرى للإقناع ربما كانت التلويح بملفات الارهاب والعنف وانعدام الديمقراطية أيضا·

ومن الواضح أن القيادة الأمريكية، بمفكريها وبمسؤوليها السياسيين ودبلوماسييها معا تواجه مشكلة كبيرة في إعداد الرأي العام العربي والدولي، الرسمي والشعبي لحرب جديدة على العراق· فهي تفتقر للحجج التي يمكن أن تبرر لها تعبئة التحالف الدولي ضد الارهاب لتغيير الحكم في العراق·

فباعتراف المسؤولين والمعلقين الأمريكيين أو أغلبهم على الأقل، لم يثبت أي تورط لبغداد في عمليات الارهاب الدولي التي رافقت الاعداد لهجوم الحادي عشر من سبتمبر أو تنفيذه· مما يعني أن واشنطن لا تزال تجد صعوبة في وضع عملية تغيير النظام العراقي على قائمة جدول أعمال الحرب ضد الارهاب· ومن هنا فهي تحتاج إلى مبررات أخرى تكون مقبولة من الدول العربية ومن أطراف التحالف الأخرى، بما في ذلك الأطراف الأوربية الحليفة· ومن خلال المقالات والتحليلات والتصريحات الأمريكية العديدة التي تكتب أو تصدر من فترة لأخرى، يمكن جمع هذه المبررات التي تهدف إلى إضفاء الشرعية على الحرب المزمع خوضها على الأرض العراقية بأربع عناصر رئيسية ليس الارهاب من بينها· العنصر الأول أن صدام حسين لا يزال يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل وهو يهدد من هذه الناحية الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة وأنه خاض حربين كبيرتين مع جيرانه المسلمين وقصف مواطنيه الأكراد بالقنابل الكيماوية· والعنصر الثاني هو أن نظام صدام حسين هو أكثر الأنظمة في العالم الاسلامي قمعا لشعبه، والعنصر الثالث هو أن صدام حسين أيضا رجل وحشي يكرهه شعبه والعرب جميعا من حوله، والعنصر الرابع أن صدام حسين لا يستند في حكمه إلا على حفنة من الأقارب والأنصار، ولا يمثل حكمه سوى حكم أقلية اجتماعية أو إتنية ضيئلة·

لماذا تتمسك الحكومات والشعوب العربية إذن بصدام حسين أو لماذا تعارض في أغلبيتها على الأقل، كما يعتقد ذلك المسؤولون الأمريكيون، الحرب ضد نظام صدام، وكيف يمكن تفسير هذه المعارضة· إن السبب الرئيسي لوقوف الحكومات والشعوب العربية موقفا سلبيا من تغيير النظام العراقي يكمن في نظرهم في وجود مخاوف ليس لها أساس كبير من الصحة ولا تقوم على محاكمة عقلانية ومنطقية· فهي تنبع من ثلاث محاكمات خاطئة أو غير صحيحة· المحاكمة الأولى هي أن ضرب صدام حسين سوف يحرم العرب من وزن العراق العسكري وأسلحته المتطورة ذات التدمير الشامل في مواجهة اسرائيل· والمحاكمة الثانية هي أن الأنظمة تعتقد أن ضرب العراق يمكن أن يكون مقدمة لضرب بلدان أخرى ولذلك فهي تريد أن تقطع الطريق عليها، والمحاكمة الثالثة هي أن حربا جديدة على العراق سوف تتسبب بمعاناة جديدة للشعب العراقي الذي يعيش منذ الآن في حالة مأساوية·

والحال، كما يقول الأمريكيون، إن أسلحة صدام حسين لم تستخدم ضد إسرائيل وما استخدم منها في حرب العراق الكويت لم تحدث أثرا كبيرا ولا كان ذا فاعلية استثنائية· كما أن وجود هذه الأسلحة ليس مرتبطا بوجود صدام حسين، بل العكس هو الصحيح· إن خوف الولايات المتحدة من وقوعها في يد الارهابيين هو الذي يدفعها إلى السعي إلى تدميرها· وربما يختلف الموقف إذا كانت في العراق حكومة ديمقراطية مسالمة· كما أن ضرب صدام ربما يدفع المنطقة نحو الانفتاح والاعتدال والاستقرار وتقليص نفوذ الارهاب، وبالتالي قد يقطع الطريق على احتمال ضرب بلدان أخرى· ومن جهة ثالثة فإن إقامة نظام ديمقراطي في العراق لا بد أن يساهم في تحسين شروط حياة الشعب العراقي وينقذه من طغيان حكم البعث وقهره·  ويقول بعض الأمريكيين: وعلى افتراض أن ضرب العراق يحرم العرب من قدرات عسكرية قائمة أو محتملة كبيرة ويصب في مصلحة اسرائيل، لكن أليس من الممكن أن يستفيد العرب أيضا من إزالة صدام حسين ونظامه العنيف والمخيف، وفي هذه الحالة فإن من الممكن القول إن لاسرائيل وللعرب، بما فيهم شعب العراق، مصلحة مشتركة في تصفية هذا النظام الاستبدادي؟ إن جوهر ما تسعى الدعاية الحربية الأمريكية إلى إدخاله في الذهن العربي المتشوق للخروج من حالة الركود والاستنقاع هو أن تغيير النظام العراقي مصلحة عراقية عربية بالدرجة الأولى وإن كانت في الوقت نفسه أو يمكن أن تكون مصلحة اسرائيلية·

من هنا يعتقد الأمريكيون أن كسب الأطراف العربية لفكرة الحرب القريبة على النظام في العراق ليست صعبة ولا غير ممكنة· فللعرب، كما يظهر من التحليل مصلحة كبيرة فيها، وكل ما يحتاجه الأمر هو إعداد سياسي سليم تقوم به الدبلوماسية ويقوم به الاعلام· وهذا هو جوهر المهمة المطلوب تحقيقها في المرحلة الراهنة في الشرق الأوسط في إطار إدارة الحرب الدولية ضد الارهاب·

والسؤال الرئيس الذي يطرحه التدخل الأمريكي المبرمج في العراق علينا هو التالي : هل إسقاط النظام العراقي اليوم مصلحة عراقية وعربية فعلا؟ وهل قيام الولايات المتحدة بهذا العمل يؤثر على نتائجه ويلغي هذه المصلحة أو يجهضها؟ 

إن الجواب يكمن في الرد على ثلاثة إفتراضات رئيسية للدعوة الأمريكية بضرورة الحسم في العراق· الافتراض الأول هو أن الحرب ليست ضد العراق ولكن ضد نظام صدام حسين الذي هو نظام إقلوي قمعي معزول في الداخل ويشكل إضافة إلى ذلك مصدر تهديد للمنطقة بأكلمها ولجيرانه العرب بشكل خاص· وفي هذه الحالة فإن الحرب المزمع شنها لن تكون إلا في صالح الشعب العراقي والشعوب العربية التي تستطيع أن تعتمد عليها لتتخلص من طاغية يهدد أمن شعبه وأمن المنطقة التي تفتقر بسببه للاستقرار· والافتراض الثاني هو أن الولايات المتحدة سوف تضع في مكان نظام صدام حسين نظاما ديمقراطيا يحترم حقوق الجميع وبشكل خاص حقوق الأقليات التي تعاني الكثير بسبب النظام القومي البعثي، وأن الإطاحة بهذا النظام سوف تساعد على تطوير الديمقراطية والانفتاح في البلاد العربية· والافتراض الثالث أن هدف الولايات المتحدة من ضرب النظام في العراق تحقيق الأمن والاستقرار لجميع دول المنطقة وشعوبها والسعي إلى إقامة نظام للأمن الإقليمي يمكنها من سحب قواتها من الخليج لما يسببه وجودها فيه من عدم استقرار  يشجع على ظهور شخصيات من نوع بن لادن· بل ربما أتاح ذلك فرصة لإقامة ناتو خليجي·

 

 

 

 !هل يخاف العرب من إسقاط النظام السياسي في العراق؟ 

أو لماذا يرفض العرب منطق الحرب

لا أعتقد أن مقاومة العرب العامة لأي تدخل أمريكي جديد في العراق، والواقع في أي بلد عربي آخر، نابعة من الحرص على النظم السياسية الاستبدادية أو نصف الاستبدادية القائمة فيها، ولا بسبب الأوهام المرتبطة بوجود أسلحة دمار شامل أو غير شامل يمكن أن تستخدم يوما في مواجهة العجرفة الاسرائيلية التي وصلت حدا أجهضت فيه جميع ما كانت الدول الموجودة تنطوي عليه من صدقية بوصفها ضمانة للأمن والاستقرار الوطنيين· وإذا كان هناك من يخاف بالفعل أن يشكل التدخل العسكري الجديد المنتظر في العراق مقدمة لتدخلات أخرى في بعض الدول العربية فهي بعض الأنظمة والنخب السياسية التي تشعر بأنها مقطوعة الصلة والجذور مع مجتمعاتها لكن بالتأكيد ليس المجتمعات ذاتها· وليس هناك شك في أن الرأي االعام العربي في قطاعاته الأوسع والأكثر تنورا ونضجا يقف من دون تردد مع التغيير ولم يكن في أي فترة ماضية أكثر استعدادا للانخراط في حركة التغيير والتضحية في سبيل تجديد نظم الحكم والإدارة وممارسة السلطة مثلما هو عليه اليوم· وإذا كان هذا الرأي العام العربي، بالرغم من تطلعه إلى القضاء على الديكتاتورية ومن فقدانه الثقة بنظم الحرب العربية رجالا وأسلحة، واستعداده للسلام بكل ما يتطلبه ذلك من تضحيات ومخاطر، يرفض القبول بمشروع تعريض العراق أو أي بلد عربي لحملة عسكرية جديدة، فليس ذلك حبا بالزعامات والنظم السياسية القائمة ولا خشية منها ولا خوفا مما سيعقبها ولكن نتيجة الخبرة الطويلة مع القوى الغربية والولايات المتحدة في مقدمتها في العقود الثلاثة الماضية· ولو أن الرأي العام العربي كان على ثقة من أن ما تريده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو، كما يتحدث عنه الاعلام الأمريكي اليوم بمناسبة الاعداد للحرب وإضفاء المشروعية عليها،  تخليص الشعوب العربية من الديكتاتورية وإقامة النظم الديمقراطية وتطمين الأقليات وتحرير المنطقة من عوامل السيطرة والهيمنة والقهر في سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط لجميع الدول والشعوب، وفتح هذه المنطقة على الاستثمارات الخارجية لتمكينها من الوصول إلي معدلات تنمية طبيعية وعادية وليس بالضرورة استثنائية، وإزالة أسباب التعصب والعنف والارهاب منها، لما تردد عربي واحد في إعطاء مباركته لواشنطن أو لأي قوة دولية أخرى في المنطقة أو خارجها·

إن المشكلة ليست في الشعارات التي تطرحها الولايات المتحدة، بما في ذلك قطع جذور الارهاب، ولكن في علاقة الولايات المتحدة بهذه الشعارات وتعاملها معها في العالم أو على الأقل في البلاد العربية· فكيف يمكن لأولئك الذين يرفعون اليوم شعارات الديمقراطية والامن والاستقرار الاقليميين والتنمية لتبرير الحرب على العراق، ثم فيما بعد على بلدان أخرى، أن يقنعوا الشعوب العربية بالفعل أن الولايات المتحدة لم يكن لها أي يد ولا مصلحة ولا إرادة في الابقاء على النظم المتخلفة الاستبدادية وغير الانسانية التي سادت المنطقة العربية ولا تزال منذ أربعة عقود على الأقل؟ وكيف يمكنها أن تبرهن للرأي العام أن هذه الأنظمة نجحت في الاستمرار والبقاء بالرغم من تعارض وجودها مع مصالح الولايات المتحدة واصطدامها بإرادة واشنطن والقيادة السياسية الأمريكية الداعية لاحترام الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم والداعية إلى تعميم نموذج الحياة الديمقراطية الأمريكية في كل مكان؟ وبأية وسائل سوف تتمكن من إقناع الرأي العام العربي والدولي معا بأن هذه الأنظمة التي تتخذ اليوم من طابعها الاستبدادي والطغياني مبررا للتدخل العسكري قد وصلت إلى السلطة وبقيت فيها من خلال التصويت الشعبي الحر والنزيه والدوري، أو أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة، فيما يتعلق بالنظم التي كانت على الأقل تحت وصايتها أو في حمايتها وهي كثيرة، على ممارسة أي ضغط لدفعها نحو تطوير نظمها السياسية واعتماد مبدأ المواطنية والانتخابات الحرة والعامة لممارسة السلطة فيها؟

وكيف يمكن إقناع الرأي العام العربي بأن ضرب الحكم البعثي في العراق والدول العربية الأخرى المستهدفة وتصفية أسلحتها المتطورة يندرج في رغبة الولايات المتحدة الأمريكية بضمان قدر أكبر من الأمن والاستقرار والتعاون الاقليمي في المنطقة والتخفيف من التوتر في الوقت الذي لا تكف فيه الولايات المتحدة الأمريكية نفسها منذ عقود عن تعزيز الترسانة العسكرية الاسرائيلية بأحدث وأخطر أسلحة الدمار الشامل ومساعدتها على الاحتفاظ علنيا ورسميا بالتفوق الاستراتيجي الساحق على الدول العربية مجتمعة، وهي تعد خمسة ملايين مقابل ما يقارب الثلاث مئة مليون عربي· وكيف يمكن البرهان على أن إزالة مخاطر الحرب والتهديد بها هو هدف التدخل في العراق بينما لا تتردد الولايات المتحدة في مباركة حرب الدمار الشامل التي لا تزال الحكومة اليمنية المتطرفة في اسرائيل تشنها على المجتمع الفلسطيني بدءا من تهديم بنياته التحتية وانتهاءا بتصفية قادته وشبابه مرورا بتدمير جميع مؤسساته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وفي مقدمها السلطة الوطنية التي نجمت عن المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية؟ وكيف يمكن للرأي العام العربي أن يثق بانشغال الولايات المتحدة بمصير الأقليات في الأقطار العربية واهتمامها بحقوقهم ومصالحهم وهو يرى ما تعامل به الحليفة الرئيسية والاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة من أقليتها الفلسطينية بينما لا تحرك واشنطن ساكنا أمام مشروع التطهير العرقي الواضح الذي ينفذه الحكم الاسرائيلي من خلال سياسة توسيع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية وتطبيق قوانين التمييز العنصري والسيطرة الكاملة على موارد الحياة والثروة المائية في الضفة الغربية وغزة؟

وبالمثل، كيف يمكن إقناع الرأي العام العربي بأن ضرب الحكم البعثي في العراق هو مقدمة لتحقيق الانفتاح الاقتصادي وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية في المنطقة في سبيل خلق فرص العمل اللازمة للشباب وإزالة الفقر والحاجة في المجتمعات العربية، في الوقت الذي عرفت فيه المساعدة الأمريكية للتنمية أكبر انهيار لها في السنوات العشرين الأخيرة، أي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وأصبحت تتركز أساسا على دولتين رئيسيتين اسرائيل ومصر، الأولى لتعزيز قوتها الهجومية ضد الفلسطينيين والعرب والثانية لتحييدها وشراء موافقتها على هذه السياسات الاسرائيلية والأمريكية الهجومية ذاتها؟ وكيف يمكن البرهنة على أن الولايات المتحدة تسعى بالفعل لتحسين شروط التنمية في البلدان العربية وهي لا تتوانى عن الصراع مع حلفائها الأوربيين المقربين أنفسهم كيما تحتفظ لنفسها بحق توقيع العقود مع دول الخليج ولا تجد وسيلة أفضل لامتصاص السيولة المالية المتضائلة في خزائنها من إجبارها على توقيع صفقات السلاح الخيالية وغير الضرورية معا؟

على الذين يكررون مثل هذه الأقاويل أن يقدموا للرأي العام العربي دليلا واحدا يظهر، داخل المنطقة العربية أو خارجها، أن دولة كبرى أو أكثر قد تدخلت لتحقيق الديمقراطية والأمن والاستقرار والتنمية في البلد المتدخل فيه لا في سبيل تحقيق مصالحها·

ليس المقصود بالتأكيد مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية أن تنشغل بمصير الديمقراطية والأمن والاستقرار والتنمية في جميع بلدان العالم ولا حتى في البلدان العربية التي تقع في دائرة نفوذها· وليس هذا هو الذي نطلبه منها أو نطالبها به· ومثل هذا الانشغال لو حدث سيكون مخالفا لقوانين العلاقات الدولية كما هي قائمة عليه اليوم، وكما تحددها الدول الكبرى المتنافسة التي تؤسسها أو تؤسس لها· ولو حصل ذلك لما كان هناك أي مبرر لوجود دول عربية مستقلة بما تمثله من سلطة ومؤسسات سياسية وإدارية وتقنية وفنية، وكان من الأجدى أن تندرج في غيرها من الدول أو الامبرطوريات· إن الذي يبرر وجود الدول هو وظيفتها في ضمان الأمن والاستقرار والمساواة القانونية والمشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها·

لكن المقصود هو العكس من ذلك، أي إظهار إلى أي حد يمثل إدعاء الدبلوماسية الأمريكية حرصها على الديمقراطية والأمن الاقليمي والتنمية في العراق والمنطقة العربية بمناسبة تبرير الحرب المبرمجة ضد النظام العراقي ومن بعده ضد بعض النظم العربية الأخرى دعاية فظة بعيدة عن العقل وعن الواقع·  ولا يغير في فظاظة هذه الدعاية كونها صادرة عن حمائم الإدارة الأمريكية· فهم الأقدر على تمرير مثل هذه الخدع على رأي عام عربي ملوع من السياسة الأمريكية عموما، لما يبدو على هؤلاء من اعتدال واتزان ومراعاة شكلية للمشاعر العربية الوطنية والانسانية· 

نحن نعرف بالتأكيد، أنه لا الديمقراطية ولا السلام والأمن ولا التنمية من الأهداف التي تحرك الولايات المتحدة وتدفعها للتفكير بضرب النظام العراقي في سياق الحرب الدولية المعلنة على الارهاب، ولا يمكن أن تكون هذه أهدافها· فالدول لا تكلف نفسها مهام تحقيق مصالح شعوب غير شعوبها، وفي أغلب الأحيان لا تكلف نفسها، كما هو الحال في دولنا ونظمنا، حتى مهام تحقيق مصالح شعوبها أو الدفاع عنها· إنها لا تتحرك إلا لتحقيق مصالح خاصة بها، قد تكون استراتيجية وقد تكون سياسية أو اقتصادية أو معنوية· والحرب التي تخطط الولايات المتحدة لشنها في العراق لا علاقة لها بمصلحة الشعب العراقي ولا المنطقة العربية وكل ما تهدف إليه هو تعزيز وتدعيم مرتكزات السيطرة الأمريكية في الشرق الأوسط واستباق الانفجارات التي يمكن أن تهدد هذه المرتكزات· وهذا هو ما يخشاه الرأي العام العربي ويرفض التدخل من أجله· إنه لا يخشى الحرب على صدام حسين ونظامه ولا يخاف من نتائج سقوط هذا النظام ولكنه يخشى توسع دائرة النفوذ الأمريكي في المنطقة وفي كل دولة على حدة، وبالتالي زوال البقية القليلة الباقية من مبدأ السيادة، ولو كانت قد تحولت إلى سيادة رمزية، للشعوب العربية في منطقتها· إنه يخشى أن تصبح الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي يملي إرادته على جميع شعوب المنطقة وفي كل الميادين والمستويات، كما تمليها اليوم في مسألةا لصراع العربي الاسرائيلي فتقرر نتائج الصراع، أي إدامة الحرب والنزاع وتدفق الدماء الذي يتعارض تعارضا كليا مع الشعارات الثلاث التي توحي بأنها تريد خدمتها من الحرب القادمة، أي الديمقراطية والأمن والتنمية·

قد يقول قائل إن الولايات المتحدة بعد أن أصيبت بسهم الارهاب في عقر دارها قد غيرت سياستها وهي تريد منذ الآن أن تمارس سياسة ايجابية تجاه الشعوب العربية· بيد أن الوقائع التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 1002 تظهر أن الولايات المتحدة لم تكن أكثر نزوعا للسيطرة وإملاء إرادتها وتنصيب حكومات خاضعة بل عميلة لها في المناطق التي تخشى عداءها مثل ما هي عليه اليوم· وأكبر مثال على ذلك ما يجري في فلسطين المحتلة· فلم يحدث في أي حقبة ماضية أن تركت الادارة الأمريكية حكومة اسرائيلية تتمادى في تدمير أسس الأمن والاستقرار ومستقبل السلام في المنطقة وتتحدى المشاعر العربية الرسمية والشعبية كما فعلت إدارة الرئيس بوش منذ أشهر عندما أعطت الضوء الأخضر لشارون لتصفية القضية الفلسطينية وسمحت له أن يعامل الشعب الفلسطيني برمته على أنه منظمة إرهابية· إن احتمال أن تكف الولايات المتحدة عن متابعة سياسة السيطرة والإملاء والاستتباع هو ذاته احتمال أن تكف الذئاب عن رؤية فريستها في الخراف الضائعة·

 

العهد الأمريكي الجديد الموعود

أو تفاقم المحنة العربية

إن الكشف عن الخداع الأمريكي في الحرب التي تعد ضد نظام العراق والعراق نفسه ضروري حتى نتجنب السقوط في الأوهام أو في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة عندما تشن الحرب على نظام ما فهي تهدف إلى تحقيق مصالح شعبه أو الشعوب العربية الأخرى· لكن هذا الكشف لا يكفي وحده ولا يمكن أن يكون خاتمة المطاف في نقاش الوضع العراقي· وإذا وقفنا عنده لا نكون فعلنا شيئا سوى تبرير الوضع القائم ونفي شرعية العمل لتغييره· والحال أن هناك مشكلة حقيقية لا نستطيع أن نبعد احتمال نجاح الحل الأمريكي أو الخارجي لها إذا لم ننجح نحن أنفسنا في ايجاد هذا الحل الذي يتواءم مع مصالحنا كعراقيين وكعرب معا·

ويمكن تلخيص جوانب المسألة الرئيسية في أسئلة ثلاثة:

1- هل ينعكس استمرار الوضع العراقي بآثار سلبية  على الشعب العراقي وعلى المجموعة العربية معا، ويستدعي بالتالي المسؤولية في التفكير بتغييره والعمل على هذا التغيير؟

2- هل هناك أمل في أن يأتي هذا التغيير من داخل العراق أولا، ومن المجموعة العربية ثانيا، وما هي قدرتنا على تعزيز فرص التغيير من الداخل؟

3- إذا لم يكن التغيير من الداخل العراقي أو العربي ممكنا، ألا يكون الحل الوحيد الممكن هو الحل الأمريكي المطروح من خلال الحرب ضد الارهاب، وهل مثل هذا الحل سيكون أهون الشرين، أم هو شر لايمكن أن يكون من دون عواقب سيئة على العراق والعرب معا؟

إن رفض الحرب الأمريكية على العراق لا يعني عدم التسليم بضرورة وعاجلية القضاء على نظم الاستبداد والطغيان في البلاد العربية ولا عدم التأكيد على أن الديمقراطية والأمن الجماعي الاقليمي والاستقرار والتنمية هي الأهداف والشعارات الرئيسية لمجموع الشعوب العربية وفي مقدمها الشعب العراقي· وليس هناك شك عندي في أن قليلا جدا من العرب لا يزالون يؤمنون بقدرة الأنظمة العربية على تحقيق أدنى مصلحة من مصالحهم الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الدينية، أو بفائدة الأسلحة المتطورة التي يملكونها في مواجهة القوة الاسرائيلية والأمريكية الطاغية في المنطقة· وقليل جدا لا تزال تتملكهم بعض الأوهام حول الانجازات والمعجزات المحتملة التي يمكن أن تقوم بها زعامات عربية فقدت كثيرا من مصداقيتها أو كلها· ولا شك عندي أيضا أن القضاء على النظام الطغياني في العراق مثله مثل القضاء على القسم الأكبر من الأنظمة السياسية القائمة في البلاد العربية سيثير الحماس عند كل فرد يمتلك الحد الأدنى من الشعور بالكرامة والسيادة والحرية في البلاد العربية·

 وأكثر من أي نظام آخر في المنطقة، يظهر النظام العراقي القائم على سلطة الفرد المطلق المعتمد على أجهزة القهر والإخضاع والتحييد التي تسمى بلغتنا خطأ أجهزة الأمن نظاما غير قابل للاستمرار ولا يستحق الحياة وهو لا يعمل إلا على تدمير المجتمع الذي يقوم فيه ويسيطر عليه وأن استمراره يعني تمديد أمد معاناة الشعب العراقي ومحنته· ليس هناك إذن أي سبب للدفاع عنه أو عن بقائه، لا من الوجهة الاستراتيجية ولا السياسية ولا الأخلاقية· وبقاؤه لا يخدم في التحليل النهائي إلا وجود زعيمه· إن شعبا كاملا يعيش اليوم رهينة الحفاظ على بقاء وكرامة رئيس انتزع السلطة بالقوة ولا يزال مستمرا بفضل تحكمه بمصدر القوة والعنف في الدولة والنظام· وحتى لو توفر للنظام العراقي أسلحة دمار شامل كما يظن البعض، ومعظمهم من الأمريكيين، فلن يكون لها قيمة في أي مواجهة حقيقية مع اسرائيل، وهذه المواجهة لن تحصل بعد اليوم على أي حال، وبالعكس سوف تستخدم في الغالب ضد المجتمع العراقي نفسه· وهذا يعني أن تغيير هذا النظام لا يمثل بالنسبة للشعب العراقي المهمة الأولى على جدول أعماله السياسية ولكنه هو جدول الأعمال ذاته ولا شيء غيره· ومن دون تحقيق هذه المهمة ليس للشعب العراقي أي مستقبل ولا يمكن لأحد توقع إلى أي درجة من السوء يمكن أن يكون مصيره·

لكن رفض العرب أن يقوم هذا التغيير من خلال حرب أمريكية جديدة على العراق يهدف إلى تأكيد أمرين الأول أن المسألة لن تكون مسألة القضاء على الارهاب لصالح دولة خارجية، وهي إضافة إلى ذلك الدولة الرئيسية التي وضعت هذه الأنظمة ورعتها أو وافقت عليها وحمتها وعززت قدراتها في فترة كانت مفيدة لتحقيق مصالحها· والثاني أن التغيير حتى يكون ذي قيمة أي ثابتا وحقيقيا وقادرا على تحقيق الغاية المنشودة من حرية وأمن واستقرار وتنمية ينبغي أن يقوم على أكتاف قوى محلية هي صاحبة المصلحة فيه· وما لم يحصل ذلك فإنه لن يكون إلا في مصلحة القوى التي تقوم به، ولن يجير إلا لفائدتها· وسوف يعبر في هذه الحالة الثانية عن إضاعة الشعوب العربية بشكل أكبر لتحكمها بمصيرها ولقدرتها على قيادة أمورها بنفسها، أي عن دمار أسس تطورها ونضجها السياسي والمجتمعي·

لكن في هذه الحالة يطرح سؤال ما إذا كان من الممكن تحقيق مثل هذا التغيير من الداخل ومن قبل قوى عراقية، أو عراقية بدعم عربي· ومن الوهلة الأولى يبدو الأمر مستبعدا· فمن الصعب عدم الاعتراف بأن قوى التغيير الداخلية لم تظهر في السنوات الماضية مقدرات استثنائية لتجاوز التناقضات والمثالب التي أحدثها النظام العراقي نفسه في صفوف المجتمع وقواه السياسية والفكرية· لكن بعكس ما يعتقد الأمريكيون، لم تساعد الحرب التي شنت على العراق من قبل التحالف الدولي ودمرت أسس حياة المجتمع العراقي هذه القوى ولكنها عزلتها أكثر من قبل كما حيدت مجموع الشعب العراقي الذي لم يعد لديه سوي هم واحد هو الحفاظ على البقاء· وقد جاءت سياسة الحصار بعد حرب التدمير الشامل لتفاقم من أزمة المجتمع والقوى السياسية المرتبطة به معا· وزاد تبني الولايات المتحدة لقوى المعارضة أو لجزء منها في تقسيم قوى التغيير وبث التردد والاحباط والشرذمة عليها فوق شرذمتها الأصلية· وكانت النتيجة كما هو واضح انمحاءا كاملا لهذه القوى أمام النظام وصعودا كبيرا في قدرة النظام على البقاء والمناورة في الداخل والخارج· إن سياسة الولايات المتحدة العراقية والخليجية والأسلوب الذي اتبعته في مواجهة النظام العراقي ولا تزال، وهو أسلوب القوة الغاشمة التي لا يهمها إن قضت على المريض وهي تسعى للقضاء على المرض هي المسؤولة الرئيسية عن الكساح الذي تعاني منه المعارضة الديمقراطية العراقية· والاستمرار في هذه السياسة القائمة على القوة الطاحنة والتي لا تراهن إلا على نفسها وتستخدم القوى المحلية والداخلية كعناصر إضافية ملحقة للتغطية على تفردها بالعمل والقرار أو كأدوات تلعب بها الأجهزة الاستخبارية حسب حاجات المناورة الأمريكية على العراق وداخل الساحة الاقليمية، أقول إن الاستمرار في هذه السياسة لن يزيد من فرص نمو قوى الديمقراطية الداخلية والاعتماد على النفس ولكنه سوف يجهض أكثر من قبل كل أمل في التغيير الفعلي ويجعل الشعب العراقي رهينة حقيقية للسياسة الأمريكية بعد أن كان رهينة لسلطة الطاغية· وحتى لو حصل وأقرت الديمقراطية نتيجة التدخل الخارجي فلن تكون ثمرتها تعزيز سيادة المجتمع والشعب العراقي ولكنها التغطية على ارتهان السلطة الجديدة للولايات المتحدة، أي لتبعية أكبر وأعمق لصالح الولايات المتحدة·

وبالمثل، لا تبدوا فرص التغيير في إطار الجامعة العربية أكثر شأنا· فقد قسمت الحرب العراقية الكويتية العرب، واستقالت الجامعة العربية تجاه المسألة العراقية منذ الوقت الذي وضعت نفسها فيه، بهذه المناسبة، في خدمة القرار إن لم نقل الأمر الأمريكي، وسلمت للولايات المتحدة بالقيام بالمهمة التي كانت موكلة إليها حسب ميثاقها لتحقيق السلام والتسوية بين البلاد العربية· ومن الواضح أن هذه الجامعة لم تستطيع أن تتجاوز السقطة التي شهدتها بهده المناسبة ولا أن تخرج منها لتقوم بدور مبادر وفعال وناجع في التقريب بين وجهات النظر العربية وإحداث نقلة في العلاقات الخليجية العراقية تسمح باستعادة المبادرة والقيام بمحاولات موازية لحلحلة الخلاف العربي العربي والوصول إلى حل مقبول بين العراق ودول الخليج ينزع فتيل الحصار ويجعله من دون مبرر· لكن هذا الوضع كان ولا يزال هدفا رئيسيا من أهداف السياسة الأمريكية وتوتير العلاقات العراقية الخليجية وسيلة دائمة تستخدمها الدبلماسية الأمريكية لمنع أي تفاهم عربي وبالتالي تبرير موقع الوصاية الذي تحتله واشنطن على المنطقة، واستمرار بقاء القوات الأمريكية فيها وحرف نظر العرب عن بؤرة التوتر التي تمثلها اسرائيل ومشروعها الاستيطاني التوسعي المدعوم من قبل واشنطن·

والنتيجة، بعكس ما يشيعه دعاة الحرب الأمريكيين، إن أمل المنطقة بالخروج من الأزمة الصعبة التي تعيشها، بما في ذلك من النزعة الانتحارية التي يشهدها جزء من الرأي العام المغذي للارهاب، لا يكمن في تدخل أكثر من قبل الولايات المتحدة وأي قوة خارجية أخرى في شؤون المنطقة بقدر ما يرتبط بتقليص هذا التدخل بل الكف عنه· فقد أدت التلاعبات الخارجية داخل المنطقة إلى تحييد كل قوى الفعل الداخلي ورهنت مصير الشعوب جميعا بمصادر قوة ومراكز قرار وموارد موجودة جميعا خارجها، ولم يعد هناك أي إمكانية لكي يقول أهل المنطقة كلمة فيما يتعلق بشؤونهم· وسوف تزداد أزمة المنطقة أكثر مع تزايد التدخل وليس العكس·

فما تعيشه المنطقة هو ثمن الاستقرار الذي بحثت عنه ودعمته وحاربت من أجله الولايات المتحدة نفسها في العقود الماضية، وهو الاستقرار المرتبط بالتوازن الذي خلفته حروب الخليج في التسعينات· وكما أن الحفاظ على الوضع القائم في المنطقة استدعى قبول الولايات المتحدة وتعاونها مع العديد من الأنظمة العربية التي تعاني من ضعف شديد في القوة السياسية والفكرية معا، ومن انعدام الشرعية والصدقية، بل تدعيمها، فإن الحفاظ على الحكم والنظام والاستقرار في كل بلد من بلدان المنطقة يقوم على تجنب المغامرة والانفتاح الذي يقود إلى أوضاع جديدة غير معروفة والقبول بالتعايش مع نظام عراقي يفتقر هو نفسه للشرعية والمصداقية، وهذا ينطبق حتى على بلدان الخليج· فعراق ضعيف ومحاصر ومحيد هو أفضل دريئة لنظم عربية منهكة ومستنفدة سياسيا وأخلاقيا أيضا·

هكذا يبدو مصير النظام العراقي مرتبطا اليوم بالفعل بمصير النظم العربية الأخرى المماثلة وبالنظام الجماعي العربي، بقدر ما يرتبط هذا النظام بالنظام الاقليمي الذي أقامته الولايات المتحدة ولا تزال ترعاه من خلال الدعم غير المشروط الذي تقدمه لاسرائيل، ومن خلال جعل إسرائيل الدعامة الرئيسية بل الوحيدة للوجود العسكري فيه· ولن يكون لتغيير النظام العراقي قيمة ما لم يكن جزءا من تغيير النظام العربي بأكمله، أي تغيير طبيعة الأنظمة القائمة من جهة وطبيعة العلاقات التي تربط فيما بينها· وبالمثل ليس هناك أمل في إحداث مثل هذا التغيير العربي من دون تغيير طبيعة النظام الاقليمي الذي يهيمن عليه بالفعل التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي الأمريكي والذي يعطي لتل أبيب موقع الوكيل الرسمي للولايات المتحدة في المنطقة في الوقت الذي تخوض فيه حربها الطاحنة لتحقيق مشروع اسرائيل الكبرى الذي يشكل تهديدا لجميع الدول العربية· ومن دون ذلك لن يكون للتدخلات الأمريكية التي تغري منذ الآن جزءا من الرأي العام العربي الناقم على أنظمة القهر والطغيان أي أثر آخر سوى كسر المجتمعات وتفاقم المحنة العربية الوطنية والقومية·

تستدعي مواجهة مخاطر التكسير والانهيار المتزايد للمجتمعات وللمنظومة العربية برمتها نتيجة التدخلات الخارجية المحتملة حصول معجزة حقيقية داخل صفوف النخب الحاكمة العربية· وتعني المعجزة هنا ارتفاع النخب الحاكمة بقوة وسرعة فوق طاقاتها وملكاتها وإمكاناتها السياسية والأخلاقية والروحية، وتحقيق نقلة نوعية في تصوراتها الاستراتيجية، تدفع بها إلى إحداث تغييرات جدية وسريعة في إطار ممارسة السلطة والانفتاح على الشعوب وتمكنها من التفاهم السريع فيما بينها والانتقال من ردود الأفعال الفردية العاثرة إلى العمل الجماعي الجدي والمسؤول على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي معا والعمل على وقف نزيف الفساد والتسيب والاستهتار بمصالح الناس وتحقيق قفزة نوعية في تهيئة االكفاءات وتطوير المواهب عند جميع السكان· بذلك فقط يمكننا أن نجد حلا للمسألة العراقية ضمن الحل العام للأزمة العربية وأن نجنب المنطقة مخاطر الحرب الداخلية الجديدة المفروضة من الخارج باسم مكافحة الارهاب وفتح الطريق أمام الانتعاش الشامل·

فإذا بدا أن تغيير النظام العراقي كغيره من النظم العربية المتكلسة ليس ممكنا من الداخل ولا في إطار جهود عربية مشتركة للاصلاح الجماعي واستمرت النخب الحاكمة تبدي ما تبديه اليوم من غياب روح المسؤولية والثقافة والحنكة السياسية، فلن تنجح الولايات المتحدة ودعاتها في تبرير التدخل في العراق فحسب، ولكنهم سوف يجعلون من تعفن الأنظمة وفسادها ذريعة لتوسيع دائرة التدخل في جميع البلاد العربية وفرض الوصاية الفعلية عليها من خلال أنظمة عميلة تحكم بعصاتها وتدافع عن مصالحها·  وكل ما نعيشه ونشهده في هذه الأيام هو الإعداد لهذا التدخل الطويل المدى وعلى أكثر من صعيد وفي أكثر من قطر عربي· لكن ينبغي أن نعرف منذ الآن أن هذا التدخل إذا حصل، وعلى الأغلب سيحصل، فلن تكون نتائجه لا تحقيق الديمقراطية ولا الأمن ولا حل المسألة الفلسطينية ولا التنمية ولكن تكسيرا للمجتمعات العربية أكثر عمقا، وتعريضا لها لمستقبل من الفوضى والانهيار والتفكك أكثر مما شهدته في العقود الماضية وتوسيع دائرة التوتر والانقسام والعنف والفقر والفساد معا في كل بلد منها وفيها جميعا· هذا هو مضمون العهد الأمريكي الجديد الموعود ولا شيء غيره· وإذا جاء فسيكون الثمن الطبيعي والحتمي للاستقالة السياسية والأخلاقية ولتحييد الشعوب وتدمير بنياتها المدنية والسياسية من قبل النخب الحاكمة العربية وتقديمها لقمة سائغة لجميع الوحوش الضارية الداخلية والخارجية·